الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 111 ] ( ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها مرة فخرجت ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه حنث ولا بد من الإذن في كل خروج ) لأن المستثنى خروج مقرون بالإذن ، وما وراءه داخل في الحظر العام . ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء لأنه محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر [ ص: 112 ] ( ولو قال إلا أن آذن لك فأذن لها مرة واحدة فخرجت ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث ) لأن هذه كلمة غاية فتنتهي اليمين به كما إذا قال حتى آذن لك .

التالي السابق


( قوله ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها مرة فخرجت ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه حنث ) ولا بد من الإذن في كل خروج ، ومثله إن خرجت إلا بقناع ونحوه ، لأن المستثنى في قوله إلا بإذني خروج مقرون بالإذن ، فما وراء ذلك الخروج الملصق بالإذن داخل في الحظر العام ، وهو النكرة المؤولة من الفعل في سياق النفي ، فإن المعنى لا تخرجي خروجا إلا خروجا بإذني ، وطريق إسقاط هذا الإذن أن يقول كلما أردت الخروج فقد أذنت لك فإن قال ذلك ثم نهاها لم يعمل نهيه عند أبي يوسف خلافا لمحمد .

وجه قول محمد أنه لو أذن لها مرة ثم نهى عمل نهيه اتفاقا فكذا بعد الإذن العام . ولأبي يوسف أنه إنما عمل نهيه بعد المرة لأنه مفيد لبقاء اليمين بعده . بخلاف النهي بعد الإذن العام لأنه لا يفيد لارتفاع اليمين بالإذن العام . ولو أذن لها إذنا غير مسموح لم يكن إذنا في قول أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف : هو إذن لأنه لم يفصل بين المسموع وغيره .

ولهما أن الإذن إنما سمي إذنا لكونه معلما أو لوقوعه في الإذن ولم يوجد . ثم انعقاد اليمين على الإذن في قوله إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق ، أو والله لا تخرجين إلا بإذني مقيد ببقاء النكاح ، لأن الإذن إنما يصح لمن له المنع وهو مثل السلطان إذا حلف إنسانا ليرفعن إليه خبر كل داعر في المدينة كان على مدة ولايته ، فلو أبانها ثم تزوجها فخرجت بلا إذن لا تطلق ، وإن كان زوال الملك لا يبطل اليمين عندنا لأنها لم تنعقد على مدة بقاء النكاح . ولو نوى الإذن مرة واحدة باللفظ المذكور يصدق ديانة لا قضاء لأنه محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر فلذا لا يصدق القاضي ، أما إنه خلاف الظاهر . فظاهر مما قررناه ، [ ص: 112 ] وأما إنه محتمل كلامه فلأن الإذن مرة موجب الغاية في قوله لا تخرجي حتى آذن لك ، وبين الغاية والاستثناء مناسبة من حيث إن حكم كل واحد منهما بعد الاستثناء والغاية مخالف لما قبلهما ، فيستعار إلا بإذني لمعنى حتى آذن وفي حتى آذن تنحل بمرة واحدة . وقد بحث بعضهم في حتى أنها أيضا توجب التكرار .

واستدل بقوله تعالى { حتى تستأنسوا } { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } ونحن نقول إن قام الإجماع على أن التكرار يراد فلا نزاع . وإنما الكلام في أنه هل هو مؤدى اللفظ فقلنا لا ، فإنه إذا قال حتى آذن لك يكون قد جعل النهي عن الخروج مطلقا مغيا بوجود ما هو إذن . وبمرة واحدة من الإذن يتحقق ما هو إذن فيتحقق غاية النهي فيزول المنع المضاف إلى اللفظ . فإن كان منع آخر فبغيره من دليل آخر أو علم أنه أريد به خلاف مقتضاه ، وظاهر مذهب الشافعي في قوله إلا بإذني أنه تنتهي اليمين بخرجة واحدة بإذن الزوج أو بغير إذنه فلا تطلق بالخروج بعده بلا إذن . وفي وجه كقولنا وهو اختيار المزني والقفال ( قوله ولو قال إلا أن آذن لك فأذن لها مرة واحدة ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث ) ونقل عن أحمد لزوم تكرار الإذن فيه أيضا مثل إلا بإذني وهو قول الفراء لأن المعنى إلا خروجا بإذني لأن أن والفعل في تأويل المصدر ولا يصح إلا خروجا إذني فلزم إرادة الباء فصار بإذني .

والجواب أنه لا بد من أحد الأمرين . أما ما ذكر من إرادة الباء محذوفة أو ما قلنا من جعلها بمعنى حتى مجازا : أي حتى آذن لك ، وعلى الأول يكون كالأول . وعلى الثاني ينعقد على إذن واحد . وإذا لزم في إلا أن آذن لك أحد المجازين وجب الراجح منهما .

ومجاز غير الخذف أولى من مجاز الحذف عندهم لأنه تصرف في وصف اللفظ ، ومجاز الحذف تصرف في ذاته بالإعدام مع الإرادة ، ثم هو موافق للاستعمال القرآني ، قال تعالى { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم } فإن قيل : قد تحقق بمعنى ما بإضمار الباء أيضا في قوله تعالى { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية ، والثابت وجوب تكرار الإذن . أجيب بالمنع ، بل وجوب التكرار بغيره من الأدلة الموجبة منع دخول الإنسان بيت غيره فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ، وكذا كل ما كان مثل هذا وهو كثير مثل { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } { ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا } { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } [ ص: 113 ] وغير ذلك فإن كلا منها يستقل فيه دليل على المنع أو الفعل مع كل متكرر ، فإنما يلزم لو لم يكن دليل على التكرار سواه .

وقد أجيب أيضا عن الآية الأولى أن لزوم تكرار الإذن للعلة المنصوصة فيها من قوله تعالى { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم } فألزم بعض المحشين أن يكون كذلك فيما نحن فيه لأن خروج المرأة بغير إذن الزوج مما يؤذي الزوج أيضا ، وهذا ذهول عظيم لأن الثابت بالعلة المنصوصة في قوله تعالى { إن ذلكم كان يؤذي النبي } المنع الذي هو حكم شرعي ، وهو يثبت بالعلل الشرعية .

أما هنا فالنظر فيما تنعقد عليه يمين الحالف ويلزم بعدمه الكفارة ، وذلك لا يكون إلا باللفظ الناص على المحلوف عليه لا بالعلة لو صرح بها بأن قال والله لا أشرب ماء العنب المشتد لإسكاره فإنه لو شرب مزرا لا يقول أحد إنه حنث ولزمه كفارة مع أنه لم يحلف عليه ، بخلاف ما لو حلف لا يشرب مسكرا ، فكيف إذا لم يصرح بها بل استنبطت كما فعل هذا الباحث حيث استنبط أن الزوج يكره خروج زوجته بلا إذن . نعم قد قال : لا تجد دليلا يدل على منع كل دخول إلا بإذن ، وكل مشيئة للعباد إلا بمشيئة الله تعالى ، وكل قول إني فاعل غدا كذا إلا بقرانه بالمشيئة سوى الأدلة المذكورة خصوصا في الأخير .

ولو فرض الإجماع على ذلك فمستند الإجماع ليس إلا هذه الأدلة . وأقل ما في الباب أن يكون وجود هذا المجاز أكثر والكثرة من أسباب الترجيح ، وحينئذ كون غير مجاز الحذف أولى يجب أن يكون في غير ما يكون الحذف فيه مطردا مستمرا مفهوما من اللفظ بلا زيادة تأمل .

وأنت علمت أن حذف حرف الجر مع أن وأن مطرد وهنا لفظان آخران هما إلى أن آذن لك ، ويجب أن يسلك به مسلك حتى ، وبغير إذني ، ويجب فيه تكرار الإذن مثل إلا بإذني لأن المعنى فيهما واحد مع وجود الباء ، وهذا كله بخلاف ما لو قال لا أكلم فلانا إلا بإذن فلان أو حتى يأذن أو إلا أن يأذن أو إلا أن يقدم فلان أو حتى يقدم ، أو قال لرجل في داره والله لا تخرج إلا بإذني فإنه لا يتكرر اليمين في هذا كله لأن قدوم فلان لا يتكرر عادة ، والإذن في الكلام يتناول كل ما يوجد من الكلام بعد الإذن ، وكذا خروج الرجل مما لا يتكرر عادة ، بخلاف الإذن للزوجة فإنه لا يتناول إلا ذلك الخروج المأذون فيه عادة لا كل خروج ، إلا بنص صريح فيه مثل أذنت لك أن تخرجي كلما أردت الخروج ونحوه ، فكان الاقتصار في هذا الوجود الصارف عن التكرار ، لا لأن العرف في الكل على التفصيل المذكور بل مؤدى اللفظ ما ذكرنا ، وثبوت خلافه للصارف العرفي ، ثم ذلك المؤدى اللفظي في مثل إن خرجت إلا بإذني ، وإلا أن آذن لك لم يقع العرف بخلافه فوجب اعتباره كذلك .




الخدمات العلمية