الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 83 ] ( وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه ) وقال الشافعي : يجزيه بالمال لأنه أداها بعد السبب وهو اليمين [ ص: 84 ] فأشبه التكفير بعد الجرح . ولنا أن الكفارة لستر الجناية ولا جناية هاهنا ، وليست بسبب لأنه مانع غير مفض ، بخلاف الجرح لأنه مفض . [ ص: 85 ] ( ثم لا يسترد من المسكين ) لوقوعه صدقة .

التالي السابق


( قوله وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجز ، وقال الشافعي : يجزيه بالمال ) دون الصوم ( لأنه أدى بعد السبب وهو اليمين ) وإنما كان السبب للكفارة هو اليمين لأنه أضيف إليه الكفارة في النص بقوله تعالى { ذلك كفارة أيمانكم } وأهل اللغة والعرف يقولون كفارة اليمين ولا يقولون كفارة الحنث ، والإضافة دليل سببية المضاف إليه للمضاف الواقع حكما شرعيا أو متعلقه .

كما فيما نحن فيه ، فإن الكفارة متعلق الحكم الذي هو الوجوب ، وإذا ثبت سببيته جاز تقديم الكفارة على الحنث لأنه حينئذ شرط . والتقديم على الشرط بعد وجود السبب ثابت شرعا ، كما جاز في الزكاة تقديمها على الحول بعد السبب الذي هو ملك النصاب ، وكما في تقديم التكفير بعد الجرح على الميت بالسراية ، ومقتضى هذا أن لا يفترق المال والصوم وهو قوله القديم ، وفي الجديد لا يقدم الصوم لأن العبادات البدنية لا تقدم على الوقت : يعني أن تقدم الواجب بعد السبب قبل الوجوب لم يعرف شرعا إلا في المالية كالزكاة [ ص: 84 ] فيقتصر عليه ، وذهب جماعة من السلف إلى التكفير قبل الحنث مطلقا صوما كان أو مالا وهو ظاهر الأحاديث التي يستدل بها على التقديم كما سيذكر ( ولنا أن الكفارة لستر الجناية ) من الكفر وهو الستر قال القائل :

في ليلة كفر النجوم غمامها

وبه سمي الزارع كافرا لأنه يستر البذر في الأرض ( ولا جناية ) قبل الحنث لأنها منوطة به لا باليمين لأنه ذكر الله على وجه التعظيم ، ولذا أقدم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على الأيمان وكون الحنث جناية مطلقا ليس واقعا إذ قد يكون فرضا ، وإنما أخرج المصنف رحمه الله تعالى الكلام مخرج الظاهر المتبادر من إخلاف المحلوف عليه .

والحاصل أن السبب الحنث سواء كان به معصية أو لا ، والمدار توفير ما يجب لاسم الله عليه ، وهذا يفيد أن السبب الحنث ، واليمين ليست بسبب لأن أقل ما في السبب أن يكون مفضيا إلى المسبب واليمين ليس كذلك لأنه مانع عن عدم المحلوف عليه فكيف يكون مفضيا إليه . نعم قد يتفق تحققه اتفاقا لا عن اليمين للعلم بأن نفس أكل الفاكهة لم يتسبب فيه نفس الحلف على تركه ، بخلاف الجرح فإنه مفض إلى التلف فلزم أن الإضافة المذكورة إضافة إلى الشرط ، فإن الإضافة إلى الشرط جائزة وثابتة في الشرع كما في كفارة الإحرام وصدقة الفطر .

على أنه لو سلم أن اليمين سبب فلا شك في أن الحنث شرط الوجوب للقطع بأن الكفارة لا تجب قبله وإلا وجبت بمجرد اليمين ، والمشروط لا يوجد قبل شرطه فلا يقع التكفير واجبا قبله فلا يسقط الوجوب قبل ثبوته ولا عند ثبوته بفعل قبله لم يكن واجبا ، فهذا مقتضى الدليل وقع الشرع على خلافه في الزكاة والجرح وصدقة الفطر على ما قدمناه في باب صدقة الفطر فيقتصر على مورده فلا يلحق غيره به .

فإن قيل : قد ورد السمع به في قوله صلى الله عليه وسلم { فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير } قلنا : المعروف في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير } وفي مسلم من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير } وحديث البخاري وليس في شيء من الروايات المعتبرة لفظ ثم إلا وهو مقابل بروايات كثيرة بالواو ، فمن ذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة في أبي داود قال فيه { فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير } وهذه الرواية مقابلة بروايات عديدة كحديث عبد الرحمن هذا في البخاري وغيره بالواو فينزل منزلة الشاذ منها فيجب حملها على معنى الواو حملا للقليل الأقرب إلى الغلط على الكثير .

ومن ذلك حديث عائشة في المستدرك { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلف لا يحنث حتى أنزل الله كفارة اليمين فقال : لا أحلف على يمين ، إلى أن قال : إلا كفرت عن يميني ثم أتيت الذي هو خير } وهذا [ ص: 85 ] في البخاري عن عائشة أن أبا بكر كان إلى آخر ما في المستدرك ، وفيه العطف بالواو وهو أولى بالاعتبار ، وقد شذت رواية ثم لمخالفتها روايات الصحيحين والسنن والمسانيد فصدق عليها تعريف المنكر في علم الحديث وهو ما خالف الحافظ فيها الأكثر : يعني من سواه ممن هو أولى منه بالحفظ والإتقان فلا يعمل بهذه الرواية ويكون التعقيب المفاد بالفاء لجملة المذكور كما في ادخل السوق فاشتر لحما وفاكهة ، فإن المقصود تعقيب دخول السوق بشراء كل من الأمرين ، وهكذا قلنا في قوله تعالى { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } الآية ، وهذا لأن الواو لما لم تقتض التعقيب كان قوله فليكفر لا يلزم تقديمه على الحنث بل جاز كونه قبله كما بعده فلزم من هذا كون الحاصل فليفعل الأمرين فيكون المعقب الأمرين ، ثم وردت روايات بعكسه : منها ما في صحيح مسلم من حديث عدي بن حاتم عنه صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه } .

ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه } ومنها ما أخرج النسائي : أخبرنا أحمد بن منصور عن سفيان ، حدثنا أبو العزاء عن عمه أبي الأحوص عن أبيه قال { قلت يا رسول الله رأيت ابن عم لي آتيه أسأله فلا يعطيني ولا يصلني ثم يحتاج إلي فيأتيني ويسألني وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله ، فأمرني أن آتي الذي هو خير وأكفر عن يميني } ورواه ابن ماجه بنحوه ; ثم لو فرض صحة رواية " ثم " كان من تغيير الرواية ، إذ قد ثبتت الروايات في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث بالواو ، ولو سلم فالواجب كما قدمنا حمل القليل على الكثير الشهير لا عكسه ، فتحمل ثم على الواو التي امتلأت كتب الحديث منها دون ثم .

وأما لفظ الحديث على ما ذكره المصنف فلم يعرف أصلا : أعني قوله { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه } إلا أن المطلوب لم يتوقف عليه كذلك ، هذا ولفظ اليمين في قوله صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين } مجاز من إطلاق اسم الكل على الجزء وهو المقسم عليه لأن اليمين اسم لمجموع القسم والمقسم عليه وهو المراد ( قوله لا يسترد من الفقير ) يعني إذا دفع إلى الفقير الكفارة قبل الحنث وقلنا لا يجزيه فليس له أن يستردها منه لأنه تمليك لله قصد به القربة مع شيء آخر وقد حصل التقرب وترتب الثواب فليس له أن ينقضه ويبطله .




الخدمات العلمية