الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 138 - 139 ] ( من قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق وليس في الكوز ماء لم يحنث ، فإن كان فيه ماء فأهريق قبل الليل لم يحنث ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف : يحنث في ذلك كله ) يعني إذا مضى اليوم ، وعلى هذا الخلاف إذا كان اليمين بالله تعالى . وأصله أن من شرط انعقاد اليمين وبقائه تصور البر عندهما خلافا لأبي يوسف لأن اليمين إنما تعقد للبر فلا بد من تصور البر ليمكن إيجابه . وله أنه أمكن القول بانعقاده موجبا للبر على وجه يظهر في حق الخلف وهو الكفارة . قلنا : لا بد من تصور الأصل لينعقد في حق الخلف ولهذا لا ينعقد الغموس موجبا للكفارة ( ولو كانت اليمين مطلقة ; ففي الوجه الأول لا يحنث عندهما ، وعند أبي يوسف يحنث في الحال ، وفي الوجه الثاني يحنث في قولهم جميعا ) [ ص: 140 ] فأبو يوسف فرق بين المطلق والموقت . ووجه الفرق أن التوقيت للتوسعة فلا يجب الفعل إلا في آخر الوقت فلا يحنث قبله ، وفي المطلق يجب البر كما فرغ وقد عجز فيحنث في الحال وهما فرقا بينهما . ووجه الفرق أن في المطلق يجب البر كما فرغ ، فإذا فات البر بفوات ما عقد عليه اليمين يحنث في يمينه كما إذا مات الحالف والماء باق ; أما في المؤقت فيجب البر في الجزء الأخير من الوقت وعند ذلك لم تبق محلية البر لعدم التصور فلا يجب البر فيه فتبطل اليمين كما إذا عقده ابتداء في هذه الحالة .

التالي السابق


( قوله ومن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق وليس في الكوز ماء لم يحنث ، وإن كان فيه ماء فأهريق قبل الليل لم يحنث ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ) سواء علم وقت الحلف أن فيه ماء أو لم يعلم ( وقال أبو يوسف رحمه الله يحنث في ذلك كله إذا مضى اليوم ، وعلى هذا الخلاف إذا كان اليمين بالله تعالى ، وأصله ) أي أصل هذا الخلاف أن تصور البر شرط لانعقاد اليمين المطلقة عن الوقت ولبقاء اليمين المقيدة بالوقت عندهما إلى وجوب البر ، وهو قول مالك ووجه عند الشافعية ، وعند أبي يوسف لا يشترط تصور البر في انعقاد اليمين المطلقة ولا لبقاء المقيدة ، وهو وجه آخر للشافعية .

ومما ابتنى على الخلاف : لو حلف ليقتلن زيدا اليوم فمات زيد قبل مضي اليوم لا يحنث عندهما ، ويحنث عند أبي يوسف في آخر جزء من اليوم ، وكذا لو حلف ليقتلنه وهو ميت والحالف جاهل بموته لا يحنث عندهما خلافا له ، وإنما شرطنا جهله بموته عندهما لأنه لو كان عالما بموته انعقدت وحنث بالاتفاق لأن اليمين انعقدت على إزالة حياة يحدثها الله فيه ، بخلاف ما إذا لم يكن عالما لأنه عقدها على حياته القائمة في ظنه والواقع انتفاؤها فكان البر غير متصور كمسألة الكوز فإنه وإن أمكن إحداث الله تعالى الماء فيه لكنه ماء آخر غير [ ص: 140 ] المحلوف عليه .

فإن الحلف كان على الماء الكائن فيه حال الحلف ولا ماء فيه إذ ذاك فلذا لا ينعقد عندهما . وكذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف اليوم فأكل قبل الليل أو ليقضين فلانا دينه غدا وفلان قد مات ولا علم له أو مات أحدهما قبل مضي الغد أو قضاه قبله أو أبرأه فلان قبله لم تنعقد عندهما وانعقدت عند أبي يوسف رحمه الله . وكذا لو قال لزيد إن رأيت عمرا فلم أعلمك فعبدي حر فرآه زيد فسكت ولم يقل شيئا أو قال هو عمرو لا يعتق عندهما لفوات الإعلام فلم تبق اليمين ، وعنده يعتق لبقاء اليمين وفوات المعقود عليه .

وكذا إذا حلف لا يعطيه حتى يأذن فلان فمات فلان ثم أعطاه لم يحنث خلافا له ، وكذا ليضربنه أو ليكلمنه . وجه قولهما أن اليمين إنما تعقد للبر حملا أو منعا أو لإظهار معنى الصدق فكان محلها خبرا يمكن فيه البر ، فإذا لم يكن فات ولا انعقاد إلا في محلها ، وإذا لم تنعقد فلا حنث ، ولأبي يوسف أنه أمكن اعتبارها منعقدة للبر على وجه يظهر في الخلف وهو الكفارة كما قلنا في الحلف على مس السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهبا حيث ينعقد مع استحالته عادة ، ثم يحنث في الحال لما قلنا .

قلنا لا بد من تصور الأصل لينعقد في حق الخلف لأنه فرع الأصل فينعقد أولا في حقه ثم ينتقل إلى الخلف للعجز الظاهر ، ولذا لم تنعقد الغموس موجبة للكفارة حيث كان للبر مستحيلا فيها ، ولو كانت اليمين مطلقة عن الوقت بأن لم يذكر اليوم ففي الوجه الأول ، وهو ما إذا لم يكن في الكوز ماء لا يحنث عندهما لعدم انعقادها لعدم تصور البر ، وعند أبي يوسف يحنث للحال ، وفي الوجه الثاني وهو ما إذا كان فيه ماء فأهريق يحنث في قولهم جميعا ( قوله فأبو يوسف فرق إلخ ) لا شك أن هنا أربع صور : صورتان في المقيدة باليوم أو وقت آخر جمعة أو شهر وهما أن يكون في الكوز ماء وقت الحلف وأن لا يكون ، وصورتان في المطلقة عندهما هاتان أيضا ; ففي المقيدة ولا ماء لا تنعقد عندهما لعدم تصور البر فلا يتصور الحنث وتنعقد عنده ويحنث للحال للعجز الدائم عن [ ص: 141 ] البر من وقت الحلف إلى الموت ، وفي المقيدة مع وجود الماء تنعقد به اتفاقا ، فإذا أهريق قبل آخر الوقت بطلت عندهما لانعقادها ثم طرأ العجز عن الفعل قبل آخر المدة لفوات شرط بقائها وهو تصور البر حال البقاء إلى آخر الوقت ، وعنده يتأخر الحنث إلى آخر جزء من الوقت فهناك يحنث .

وفي المطلقة ولا ماء لا تنعقد عندهما ، وعنده تنعقد ، ويحنث للعجز الحالي الذي لا يرجى زواله ، وفي المطلقة وفيه ماء تنعقد اتفاقا لإمكان البر عندهما ، فإذا أريق حنث اتفاقا . أما عند أبي يوسف فبطريق أولى مما قبله ، وأما عندهما فلأن تصور البر ليس شرطا في المطلقة إلا لانعقادها فقط وقد وجد حال الانعقاد لفرض وجود الماء حال الحلف ، فقد فرق أبو يوسف بين المقيدة فأوجب الحنث مطلقا آخر الوقت وبين المطلقة إذا كان الماء موجودا حال الحلف فأوجب الحنث حال الإراقة ، فإذا لم يكن موجودا فالحنث بعد فراغه من اليمين .

ولا فرق أن التأقيت للتوسعة على نفسه في الفعل فلا يتعين الفعل عليه إلا في آخر جزء من الوقت ، وإن كان التأخير لا يرجى له فائدة فيما إذا لم يكن ماء وقت الحلف لكن اللفظ ما أوجب انعقاد اليمين في حق الفعل مضيقا متعينا إلا في آخر جزء منه فلا يحنث قبله . وكذا إذا كان فيه ماء فصب لهذا بعينه ، بخلاف المطلقة ولا ماء فإنه لا فائدة في تأخير الحنث . وإن كانت اليمين المطلقة لا يقع الحنث فيها إلا بموت الحالف أو المحلوف عليه في مثل حلفه على ضربه أو طلاقها .

فإن ذلك إذا كان البر مرجوا ولا رجاء له هنا . وفيما إذا كان الماء موجودا لا يثبت هذا اليأس إلا عند الإراقة فيحنث إذ ذاك ، وهما أيضا يحتاجان إلى الفرق لأنه لا يحنث عندهما إذا ذكر الوقت فأهريق قبل آخره . وإذا لم يذكر فأهريق يحنث . والفرق أن الوقت إذا ذكر كان البر واجبا عليه في الجزء الأخير وعنده المحلوف عليه فائت فكأنه حلف إذ ذاك ليشربن ما في هذا الكوز اليوم .

وعلمت بهذا أن اشتراطهما بقاء التصور لبقاء اليمين المؤقتة هو في المعنى اشتراط التصور لانعقاد اليمين المطلقة . بخلاف ما إذا لم يذكر الوقت فإن البر واجب عليه في الحال ، فإذا فات المحلوف عليه حنث . ولقائل أن يقول : وجوب البر في المطلقة في الحال إن كان بمعنى تعنه حتى يحنث في ثاني الحال فلا شك أنه ليس كذلك ، وإن كان بمعنى الوجوب الموسع إلى الموت فيحنث في آخر جزء من الحياة فالمؤقتة كذلك لأنه لا يحنث إلا في آخر جزء من الوقت الذي ذكره فذلك الجزء بمنزلة آخر جزء من الحياة فلأي شيء تبطل اليمين عند آخر أجزاء الوقت في المؤقتة ولم تبطل عند آخر جزء من الحياة في المطلقة .

ومن فوائد هذه الخلافية ما لو قال رجل لامرأته إن لم تهبي لي صداقك اليوم فأنت طالق ، فقال أبوها إن وهبت له صداقك فأمك طالق ، فحيلة عدم حنثهما أن تشتري منه بمهرها ثوبا ملفوفا وتقبضه ، فإذا مضى اليوم لم يحنث أبوها لأنها لم تهب صداقها ولا الزوج لأنها عجزت عن الهبة عند الغروب لأن الصداق سقط عن الزوج بالبيع ، ثم إذا أرادت عود الصداق ردته بخيار الرؤية .




الخدمات العلمية