الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 48 ] ( وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه ) ; لأنه لما ثبت النسب في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي ضرورة أنه لا يتجزأ ; لما أن سببه لا يتجزأ وهو العلوق إذ الولد الواحد لا ينعلق من ماءين .

( وصارت أم ولد له ) ; لأن الاستيلاد لا يتجزأ عندهما ( وعند أبي حنيفة رحمه الله يصير نصيبه أم ولد له ثم يتملك نصيب صاحبه إذ هو قابل للملك ويضمن نصف قيمتها ) ; لأنه تملك نصيب صاحبه لما استكمل الاستيلاد ويضمن نصف عقرها ; لأنه وطئ جارية مشتركة ، إذ الملك يثبت حكما للاستيلاد فيتعقبه الملك في نصيب صاحبه بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه ; لأن الملك هنالك يثبت شرطا للاستيلاد فيتقدمه فصار واطئا ملك نفسه ( ولا يغرم قيمة ولدها ) ; لأن النسب يثبت مستندا إلى وقت العلوق [ ص: 49 ] فلم يتعلق شيء منه على ملك الشريك .

[ ص: 48 ]

التالي السابق


[ ص: 48 ] قوله : وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه ) سواء كان في المرض أو في الصحة ، وكذا إذا ادعى أحدهما ، وأعتق الآخر معا فالدعوة أولى لتضمنها ثبوت نسب الولد دون إعتاق الآخر وسواء كان المدعي مسلما أو كافرا ; لأنه لما ثبت النسب في نصفه المملوك له من الجارية ثبت في الباقي ، ولفظ " في " يحمل على معنى " من " التي لابتداء الغاية : أي ثبت من نصف الأمة المملوك له ولا يكون للتعليل كقوله صلى الله عليه وسلم { دخلت امرأة النار في هرة } أي لما ثبت نسب الولد بسبب نصفه المملوك له ; لأن قوله ثبت في الباقي ينبو عنه . وحاصل المعنى أنه ثبت النسب من نصف الأم فيثبت من كلها ; لأنه أي النسب لا يتجزأ ثبوته من امرأة ، فثبوته من بعضها هو عين ثبوته من كلها . ولا يقال : سيأتي أنه يثبت من رجلين بالنسبة إلى امرأة واحدة . لأنا نقول : ليس في ذلك تجزئة من امرأة ; لأن النسب ثبت من كلها لكل منهما لا من بعضها لواحد ومن البعض الآخر للآخر ، وإنما لا يتجزأ ; لأن سببه وهو العلوق لا يتجزأ في امرأة ، بأن علق الولد من ماء رجلين على قولنا ; لأنها إذا علقت من الأول انسد فم الرحم فلا تعلق من الآخر ، وعلى قول غيرنا لا يمتنع ، بل واقع على قول بعض مثبتي القيافة على ما سيأتي .

فعدم التجزي أن لا يعلق الولد بنصفها ( قوله : وصارت أم ولد له ) اتفاقا أما عندهما فلأن الاستيلاد لا يتجزأ كما لا يتجزأ [ ص: 49 ] ثبوت النسب فلا يصير نصفها أم ولد له ثم يتملك نصيب شريكه بل تصير كلها أم ولد ، وعنده يصير نصفها أم ولد له ثم يتملك الآخر ; لأنه قابل للنقل ، ولا يمتنع تجزي الأمومة كما امتنع تجزي ثبوت النسب ; لأن معنى كونها أم ولد هو ثبوت استحقاقها العتق بالموت ، والعتق يتجزأ عنده بمعنى زوال الملك فجازت أمومة نصفها بمعنى أنه يعتق نصفها بالموت ثم يثبت حكم عتق البعض من الاستسعاء في الباقي أو إعتاقه إلى آخر ما عرف ، لكن لما كان النص المفيد لتجزي العتق أوجب أن لا يقر بعضه عتيقا وبعضه رقيقا والأمومة شعبة من العتق وجب فيها إذا صار بعضها أم ولد بمعنى استحق بعضها العتق أن يستحقه كلها ولا يبقى بعضها رقيقا وبعضها مستحقا للعتق .

والحاصل أن الاتفاق على أنه لا يستقر تجزيها في حق الأمومة ، بل التجزي في الابتداء ثم يتمم الكل عنده وعندهما صارت أم ولد من أول الأمر . ثم لا يخفى أن تعليل تملك نصيب شريكه بأنه قابل للتملك تعليل بعدم المانع ، وهو لا يصلح للتعليل . يقال سافر للتجارة والعلم ، ولو قيل لا من الطريق عد جنونا ، وكونه أفسد نصيب شريكه بالاستيلاد لا يستلزم تعين الضمان على معنى لا يجوز تركه من الشريك ، بل الثابت به جواز أن يضمنه ، وللإنسان ترك حقه ، وها هنا لو رضي الشريك بترك تضمينه ويصير نصفها ملكا له ونصفها أم ولد للآخر ، فلو مات المستولد يعتق نصفها ، ويرق نصفها الآخر أو تسعى له إذا ذاك لا يجوز ، فليس الموجب للنقل إلا ما قلنا من النص الدال على أنه إذا عتق البعض لا يبقى البعض رقيقا وألحق حق الحرية بحقيقتها وتعتبر قيمة نصفها يوم وطئها الذي علقت منه ، وكذا نصف العقر .

وإنما وجب نصف عقرها على المستولد ; لأنه وطئ جارية مشتركة ; لأن الملك في نصف شريكه يثبت حكما للاستيلاد فيتعقبه ، وهو ، وإن كان مقارنا للعلوق لاستناده إليه فهو مسبوق بالوطء ، وبابتدائه يثبت المهر فلا يسقط بالإنزال فلزم سبق وجوب المهر الاستيلاد بالضرورة على كل حال فيسقط ما أصاب حصته ويضمن حصة شريكه ، وما قيل الأصح أن حكم العلة يقارنها في الخارج لم يختره المصنف ، وقد ملأ الكتاب من ذلك ، وأوله من باب من يجوز دفع الصدقة إليه في خلافية زفر فيما إذا دفع النصاب إلى الفقير منعه زفر ; لأن الدفع قارن الغنى ، فأجاب بأنه حكم الدفع فيتعقبه فحصل الدفع إلى الفقير ، ثم لم يزل يكرره في كل ما هو مثله ، ثم ضمان قيمة نصف الشريك لازم في يساره ، وإعساره ; لأنه ضمان تملك كالبيع . وعن أبي يوسف : إن كان المدعي معسرا سعت أم الولد ; لأن منفعة الاستيلاد حصلت لها ، وإنما لا يضمن الأب إذا استولد جارية ابنه العقر ; لأن ملكها يثبت شرطا للاستيلاد ; لأنه لا ملك له يكفي لصحة الاستيلاد فيتقدم ليقع الوطء في ملكه . فإن قيل : الملك يثبت ضرورة الاستيلاد ، وهو بالعلوق ولا يلزم من تقدمه على العلوق تقدمه على الوطء . أجيب بأن الاستيلاد عبارة عن جميع الفعل الذي يحصل به الولد فلم يعتبر الفعل مع اتحاد المطلوب ، فالتقدم على العلوق تقدم على الفعل الذي به الاستيلاد ، ومنه الوطء فاعتبر مقدما عليه .

ولا يغرم قيمة ولدها ; لأن النسب ثبت مستندا إلى وقت العلوق وملكه يثبت من ذلك الوقت أيضا فلم ينعلق شيء منه على ملك الشريك بل علق حرا فلا يضمن [ ص: 50 ] له شيئا . واعلم أن مقتضى ما ذكره المصنف من أن الملك في نصف شريكه يثبت حكما للاستيلاد فيعتقه أن العلوق قبل ملك نصيب شريكه فيحصل مملوك النصف له ونصفه لشريكه . واستناد النسب إلى العلوق بعدما وقع في ملك الشريك لا يوجب أن لا يعلق منه شيء على ملكه .

لا يقال : يمكن كونه أراد بالاستيلاد في قوله حكما للاستيلاد الوطء . لأنا نقول : الاستيلاد إما أن يطلق على العلوق ، أو على مجموع الوطء مع الإنزال والعلوق ، أما مجرد الوطء بلا إنزال فلا . ولو سلم لم يصح ثبوت الملك حينئذ ; لأن نقله من ملك الشريك إلى ملك المستولد ضرورة صيرورتها أم ولد له ، ولا تصير إلا بالعلوق فلا يجوز نقله قبله ; لأنه بلا موجب . والاعتراض السابق بأن حكم العلة معها في الأصح لا يفيد ; لأن نقله مع العلوق أيضا بلا موجب ; لأنها ما لم تصر أم ولد لم يلزم النقل . فالوجه جعله معقبا للعلوق بلا فصل قليل ولا كثير ولا ضمان ; لأنه حينئذ ماء مهين لا قيمة له فلا يضمن ، وحين صار بحيث يضمن لم يكن على ملك الشريك ; لأن الأم حين انتقلت إلى ملك المستولد انتقلت بأجزائها ومن جملتها ذلك الماء ، هذا إذا حملت على ملكهما ، فإن اشترياها حاملا فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه ويضمن لشريكه نصف قيمة الولد ; لأنه لا يمكن استناد الاستيلاد إلى وقت العلوق ; لأنه لم يحصل في ملكها ، ولذا لا يجب عليه عقر لشريكه هنا ، لكن لما ادعى نسب ولد مشترك بينهما كانت دعوته ملك وهي كالإعتاق الموقع إلا أنه يضمن نصيب شريكه في اليسار والإعسار ; لأنه ضمان تملك كالبيع ، ولا عقر لشريكه هاهنا ; لأن الوطء لم يوجد في ملك شريكه .




الخدمات العلمية