4996 ص: ثم رجعنا إلى أهل المقالة الأولى في قولهم: "إن للولي أن يأخذ الدية وإن كره ذلك الجاني".
فنقول لهم: ليس يخلو ذلك من أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يكون ذلك; لأن الذي له على القاتل هو القصاص والدية جميعا، فإذا عفى عن القصاص فأبطله بعفوه كان له أخذ الدية.
وإما أن يكون الذي وجب له هو القصاص خاصة، ولكن له أن يأخذ الدية بدلا من ذلك القصاص.
وإما أن يكون الذي وجب له هو أحد أمرين: إما القصاص، وإما الدية، يختار من ذلك ما شاء.
ليس يخلو ذلك من أحد هذه الوجوه الثلاثة، فإن قلتم: الذي وجب له هو القصاص والدية جميعا فهذا فاسد; لأن الله -عز وجل- لم يوجب على أحد فعل فعلا أكثر مما فعل، وقد قال الله -عز وجل-: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين [ ص: 242 ] بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فلم يوجب الله -عز وجل- على أحد بفعله أكثر مما فعل، ولو كان كذلك لوجب أن يقتل ويأخذ الدية، فلما لم يكن له بعد قتله أخذ الدية، دل ذلك على أن الذي كان وجب له هو خلاف ما قلتم.
وإن قلتم: إن الذي وجب له هو القصاص خاصة، ولكن له أن يأخذ الدية بدلا من ذلك القصاص فإنا لا نجد حقا لرجل يكون له أن يأخذ به بدلا بغير رضا من عليه ذلك الحق; فبطل هذا المعنى أيضا.
وإن قلتم: إن الذي وجب له هو أحد أمرين: إما القصاص وإما الدية، يأخذ منهما ما أحب، ولم يجب له أن يأخذ واحدا منهما دون الآخر، فإنه ينبغي إذا عفى عن أحدهما بعينه ألا يجوز عفوه; لأن حقه لم يكن هو المعفو عنه بعينه، فيكون له إبطاله، إنما كان له أن يختاره فيكون هو حقه، أو يختار غيره فيكون هو حقه، فإذا عفى عن أحدهما قبل اختياره إياه، وقبل وجوبه له بعينه، فعفوه باطل، ألا ترى أن رجلا لو جرح أبوه عمدا، فعفى عن جارح أبيه، ثم مات أبوه من تلك الجراحة ولا وارث له غيره، أن عفوه باطل; لأنه إنما عفى قبل وجوب العفو عنه له؟
فلما كان ما ذكرنا كذلك، وكان العفو عن القاتل قبل اختياره القصاص أو الدية جائزا; ثبت بذلك أن القصاص قد كان وجب له بعينه قبل عفوه عنه، ولولا وجوبه له إذا لما كان له إبطاله بعفوه، كما لم يجز عفو الابن عن دم أبيه قبل وجوبه له.
ففي ثبوت ما ذكرنا وانتفاء هذه الوجوه التي وصفنا ما يدل على أن الواجب على القاتل عمدا أو الجارح عمدا هو القصاص لا غير ذلك من دية ولا غيرها; [ ص: 243 ] إلا أن يصطلح هو إن كان حيا، أو وارثه إن كان ميتا، والذي وجب ذلك عليه على شيء، فيكون الصلح جائزا على ما اصطلحا عليه من دية أو غيرها.
وهذا قول ، أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-.