الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5027 5028 ص: وقد جاء عن رسول الله -عليه السلام- ما قد دل على ما ذكرنا أيضا.

                                                ثنا ربيع المؤذن ، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا سليمان بن حيان ، عن ابن أبي أنيسة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، - رضي الله عنه -: " أن النبي -عليه السلام- أتي في جراح، فأمرهم أن يستأنوا بها سنة". .

                                                حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا مهدي بن جعفر ، قال: ثنا عبد الله بن المبارك ، عن عنبسة بن سعيد ، عن الشعبي ، عن جابر ، عن النبي -عليه السلام- قال: " لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ". .

                                                ولو كان يفعل بالجاني كما فعل هو، كما قال أهل المقالة الأولى لم يكن للاستيناء معنى; لأنه يجب على القاطع قطع يده إن كانت جنايته قطعا برئ من ذلك المجني عليه أو مات، فلما ثبت الاستيناء؛ لينظر ما تؤول إليه الجناية; ثبت بذلك أن ما يجب فيه القصاص هو ما تؤول إليه الجناية لا غير ذلك، فإن طعن طاعن في يحيى بن أبي أنيسة ، وأنكر علينا الاحتجاج بحديثه، فإن علي بن المديني قد ذكر عن يحيى بن سعيد أنه أحب إليه في حديث الزهري من محمد بن إسحاق. .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وقد جاء عن النبي -عليه السلام- أيضا ما قد دل على ما ذكرنا من أن القصاص لا يكون إلا بالسيف، وهو حديث جابر - رضي الله عنه - وقد بين به وجه الدلالة بقوله: "ولو كان يفعل بالجاني .... إلى آخره".

                                                وأخرجه من طريقين بوجهين:

                                                الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، عن أسد بن موسى ، عن سليمان بن حيان -بالحاء المهملة المفتوحة وتشديد الياء آخر الحروف- أبي [ ص: 282 ] خالد الأحمر الكوفي ، عن يحيى بن أبي أنيسة ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر .

                                                وأخرجه الدارقطني: ثنا أحمد بن عيسى الخواص، ثنا أحمد بن الهيثم بن خالد، ثنا هانئ بن يحيى، ثنا يزيد بن عياض ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يستأنى بالجراحات سنة".

                                                الثاني: عن روح بن الفرج القطان ، عن مهدي بن جعفر الرملي الزاهد ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عنبسة بن سعيد بن ضريس الأسدي الكوفي قاضي الري، عن عامر الشعبي ، عن جابر .

                                                وهذا إسناد جيد ورجاله ثقات.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده" وقال: سمعت رجلا من أصحاب الحديث يقول: ثنا عبد الله بن سنان، ثنا ابن المبارك، نا عنبسة ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يستقاد من جرح حتى يبرأ".

                                                فإن قلت: قال ابن حزم: حديث أسد بن موسى حديث ساقط موضوع; لأن أسد بن موسى ضعيف، ويحيى بن أبي أنيسة كذاب.

                                                وحديث الشعبي باطل; لأن عنبسة هذا مجهول، وليس هو عنبسة بن سعيد بن العاص; لأن ابن المبارك لم يدركه.

                                                قلت: كلام ابن حزم ساقط لا يساوي شيئا في هذا المقام، فإن أسد بن موسى هو الذي يقال له: أسد السنة، قال البخاري: صالح مشهور الحديث، يقال له: أسد السنة. وقال النسائي: ثقة. واحتج به أبو داود والنسائي .

                                                وأما يحيى بن أبي أنيسة الجزري أخو زيد بن أبي أنيسة، قال الطحاوي لأجل هذا الطعن: قد نقل عن علي بن المديني -الإمام المبرز وشيخ البخاري- أنه قد [ ص: 283 ] ذكر عن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: يحيى بن أبي أنيسة أحب إلي في حديث الزهري من محمد بن إسحاق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال: ثنا علي بن المديني، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: يحيى بن أبي أنيسة أحب إلي من هؤلاء الذين يذكرون -يعني حجاج بن أرطاة وأشعث بن سوار ومحمد بن إسحاق .

                                                ولئن سلمنا أن يحيى بن أبي أنيسة كذاب على ما قاله ابن حزم، ولكن تابعه في هذا الحديث يزيد بن عياض عن أبي الزبير كما ذكرنا في رواية الدارقطني .

                                                فإن قلت: قال الدارقطني: يزيد بن عياض ضعيف متروك.

                                                قلت: ولئن كان ضعيفا فإنه يحصل به اعتضاد للحديث ويخرج به عن الخروج عن حد المقبول.

                                                وأما قوله: "عنبسة مجهول" فليس بصحيح، وإنما هو عنبسة بن سعيد بن ضريس الأسدي، وهو ثقة مشهور، روى عنه عبد الله بن المبارك ووثقه يحيى وأبو زرعة وأبو داود، وقد وهم فيه ابن حزم حيث قال: وليس هو عنبسة بن سعيد بن العاص فكأنه اعتقد أنهم قالوا: عنبسة هذا هو عنبسة بن سعيد بن العاص فرد عليهم بقوله: لأن ابن المبارك لم يدركه. وليس كذلك، بل هو عنبسة بن سعيد بن الضريس كما ذكرنا، فعاد الحديث صحيحا؛ لما ذكرنا.

                                                ومما يشد هذا الحديث ما رواه الدارقطني في "سننه": نا محمد بن مخلد، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا يعقوب بن حميد، نا عبد الله بن عبد الله الأموي ، عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ويعقوب بن عطاء ، عن أبي الزبير ، عن جابر: "أن رجلا جرح، فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله -عليه السلام- أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح".

                                                [ ص: 284 ] وقال أيضا: ثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا محمد بن عبدوس بن كامل، ثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا: ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر: "أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فأتى النبي -عليه السلام- يستقيد، فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل فاستقاد، قال: فعنتت رجله وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي -عليه السلام- فقال له: ليس لك شيء، إنك أبيت".

                                                فإن قلت: قال الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره عن ابن علية ، عن أيوب ، عن عمرو مرسلا. وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار، عنه وهو المحفوظ: مرسلا.

                                                قلت: ابنا أبي شيبة إمامان حافظان، وقد زادا الرفع، فوجب قبوله على ما عرف، قال عمرو بن علي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وكذا قال أبو زرعة، وقال ابن معين: ابنا أبي شيبة ليس فيهما شك، ولهذا صحح ابن حزم هذا الحديث من هذا الوجه، ولئن سلمنا أن هذا الحديث مرسل; فقد روي مرسلا ومسندا من وجوه: قال الحازمي: قد روي هذا الحديث عن جابر من غير وجه، وإذا اجتمعت هذه الطرق قوي الاحتجاج بها.

                                                قوله: "أتي في جراح" أي بسبب جراح، وكلمة "في" للتعليل كما في قوله تعالى: فذلكن الذي لمتنني فيه وفي الحديث: "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها" .

                                                قوله: "أن يستأنوا" أي أن ينتظروا، يقال: استأنيت بكم أي انتظرت وتربصت، يقال: أنيت وأنيت وتأنيت واستأنيت، وثلاثيه: أناه، يؤنيه إيناء، أي أخره وحبسه وأبطأه، والاسم منه الأناة، بالفتح.

                                                [ ص: 285 ] ويستفاد منه: أنه لا يقتص من جرح ولا يودى حتى يبرأ، وفي "الاستذكار": أكثر أهل العلم -مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وسائر الكوفيين والمدنيين- على أنه لا يقتص من جرح ولا يودى حتى يبرأ.




                                                الخدمات العلمية