الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5046 ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الأموال قد فرق بينها وبين العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الدم، وذلك أنا رأينا العبد يسرق من مال مولاه فلا يقطع، ويقتل مولاه فيقتل، ففرق بين ذلك، فما تنكرون أيضا أن يكون قد فرق بين ما يجب في انتهاك مال الذمي ودمه؟

                                                قيل له: هذا الذي ذكرت قد زاد ما ذهبنا إليه توكيدا; لأنك ذكرت أنهم أجمعوا أن العبد لا يقطع في مال مولاه، وأنه يقتل بمولاه وبعبد مولاه، فما وصفت من ذلك كما ذكرت فقد خففوا أمر المال ووكدوا أمر الدم، فأوجبوا العقوبة في الدم حيث لم يوجبوها في المال.

                                                فلما ثبت توكيد أمر الدم وتخفيف أمر المال، ثم رأينا مال الذمي يجب في انتهاكه على المسلم من العقوبة كما يجب عليه فيه انتهاكه مال المسلم، كان دمه أحرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته من العقوبة ما يكون عليه في انتهاك دم المسلم، وقد أجمعوا أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم القاتل، أنه يقتل بالذمي الذي قتله في حال كفره، ولا يبطل ذلك بإسلامه.

                                                فلما رأينا الإسلام الطارئ على القتل لا يبطل القتل الذي كان في حال الكفر، وكانت الحدود تمامها أخذها ولا يؤخذ على حال لا يجب في البدء مع تلك الحال، ألا ترى أن رجلا لو قتل رجلا والمقتول مرتد أنه لا يجب عليه شيء، وأنه لو جرحه وهو مسلم ثم ارتد فمات منها لم يقتل، فصارت ردته التي تقدمت الجناية والتي طرأت عليها في درء القتل سواء، فكان كذلك في النظر: أن يكون القاتل قبل جنايته وبعد جنايته سواء، فلما كان إسلامه بعد جنايته قبل أن يقتل بها لا يدفع عنه القود، كان كذلك إسلامه المتقدم لجنايته لا يدفع عنه القود. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

                                                [ ص: 361 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 361 ] ش: تقرير السؤال أن يقال: إن القياس الذي ذكرته قياس بالفارق، والدليل عليه: أنه قد فرق بين سرقة العبد من مولاه وبين قتله إياه، حيث لا يجب القطع في السرقة ويجب القصاص في القتل، فكذلك يفرق بين مال الذمي ودمه، فيجب الضمان في ماله ولا يجب القصاص في دمه.

                                                وهذا السؤال قريب من اعتراض ابن حزم الذي ذكرناه آنفا، والجواب عنه ظاهر مبسوط.

                                                قوله: "وقد أجمعوا أن ذميا...." إلى آخره. حاصل ذلك أن أهل المقالة الأولى قد وافقوا أهل المقالة الثانية على أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم فإنه لم يسقط عنه القود بإسلامه، فلو كان الإسلام مانعا من القصاص ابتداء لمنعه إذا طرأ بعد وجوبه قبل استيفائه، ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص للابن على الأب إذا قتله كان ذلك حكمه إذا ورث من أبيه القود من غيره، فمنع ما عرض من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه، فكذلك لو قتل مرتدا لم يجب القود، ولو جرحه وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة سقط القود، فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء، فلو لم يجب القتل بدءا لما وجب إذا أسلم بعد القتل.

                                                وهاهنا شيء آخر من وجوه النظر: وهو أنه لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراده الله بقاء حياة الناس بقوله: ولكم في القصاص حياة وهذا المعنى موجود في الذمي؛ لأن الله تعالى قد أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة، وجب أن يكون ذلك موجبا للقصاص بينه وبين المسلم كما يوجب في قتل بعضهم بعضا.

                                                فإن قلت: يلزمك على هذا قتل المسلم بالحربي المستأمن؛ لأنه محظور الدم.

                                                قلت: ليس كذلك، بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة، ألا ترى أنا لا نتركه في دار الإسلام ويلحقه بمأمنه، والتأجيل لا يزيل عنه الإباحة، كالثمن المؤجل لا يخرجه العاجل عن وجوبه، فافهم.




                                                الخدمات العلمية