ولو فلا أعلم أحدا من السلف أذن في ذلك، لكن رخص فيه طائفة من متأخري الفقهاء، ومنع منه آخرون، وقالوا: هو بدعة منهي عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصر الصلاة، لأنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سافر لزيارة القبور التي عليها المساجد وفي السنن أن "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". بصرة بن أبي بصرة لما [ ص: 168 ] رأى بعض من زار الطور - الطور الذي كلم الله عليه موسى - نهاه عن ذلك، وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
فهذا يبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثار الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمة العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو لم يجب الوفاء بنذره، ولو كان ذلك طاعة عندهم لوجب الوفاء به، واتفقوا على أن نذر السفر إلى بقعة بعينها غير المساجد الثلاثة يجب الوفاء به، وتنازعوا في من نذر الإتيان في المسجد الحرام فقال نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، لا يجب الوفاء بذلك، لأن من أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجبا بالشرع، وقال أبو حنيفة: مالك والشافعي بل يجب الوفاء بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم : وأحمد: وهذا طاعة لله بالاتفاق، فيستحب الوفاء به. "من نذر أن يطيع الله فليطعه"،
فإذا علم أن غير المساجد الثلاثة لم يقولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، علم أن ذلك ليس بطاعة، حتى قباء، قالوا: من قصده إذا أتى المدينة فحسن، وأما شد الرحل له فلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كأجر عمرة". فإذا رغب في إتيان من [ ص: 169 ] يأتيه من بيته فيمن سافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصد مسجد مدينته وقريته، وليس له أن يسافر إلى مسجد مدينة أو قرية غير المساجد الثلاثة، بالاتفاق. "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد
فهكذا إذا كان قريبا من مدينة هو فيها، أو اجتاز به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس بمشروع. وإنما عظمت هذه البدع من أهل الأهواء الذين عطلوا المساجد عن الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يفعلونه عند المشاهد، حتى صنفوا كتبا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرنا بالعبادة في المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: يزور القبور الزيارة الشرعية، فيسلم على الميت، ويدعو له، ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: وأنتم عاكفون في المساجد ، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله إلى قوله: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، ولم يقل: وأن المشاهد لله. [ ص: 170 ]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك "صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة. أن الرجل إذا تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة، فإذا جلس فإنه في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه " ما لم يحدث أو يخرج من المسجد".