الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 224 ] فصل في كيفية الحد وإقامته ( وإذا وجب الحد وكان الزاني محصنا رجمه بالحجارة حتى يموت ) { لأنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وقد أحصن } . وقال في الحديث المعروف { وزنا بعد إحصان } [ ص: 225 ] وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم . قال ( ويخرجه إلى أرض فضاء ويبتدئ الشهود برجمه ثم الإمام ثم الناس ) كذا روي عن علي رضي الله تعالى عنه ، ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بداءته احتيال للدرء . وقال الشافعي رحمه الله : لا تشترط بداءته اعتبارا بالجلد . قلنا : كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا والإهلاك غير مستحق ، ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف . [ ص: 226 - 227 ] ( فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد ) لأنه دلالة الرجوع ، [ ص: 228 ] وكذا إذا ماتوا أو غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط

[ ص: 224 ]

التالي السابق


[ ص: 224 ] فصل في كيفية إقامة الحد ) بعد ثبوت الحد تكون إقامته فذكر كيفيته ( قوله وإذا وجب الحد وكان الزاني محصنا ) هذا من الأحرف التي جاء الفاعل منها على مفعل بفتح العين ، يقول أحصن يحصن فهو محصن في ألفاظ معدودة هي أسهب فهو مسهب إذا طال وأمعن في الشيء ، ومنه قول المصنف في خطبة الكتاب معرضا عن هذا النوع من الإسهاب ، وقيل لابن عمر : ادع الله لنا ، فقال : أكره أن أكون من المسهبين ، بفتح الهاء . وألفج بالفاء والجيم : افتقر فهو ملفج ، الفاعل والمفعول فيه سيان ، ويقال بكسرها أيضا إذا أفلس وعليه دين ( قوله رجمه بالحجارة حتى يموت ) عليه إجماع الصحابة ومن تقدم من علماء المسلمين ، وإنكار الخوارج الرجم باطل ; لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب بالدليل بل هو إجماع قطعي ، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه ; لأن ثبوت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتر المعنى كشجاعة علي وجود حاتم والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته . أما أصل الرجم فلا شك فيه ، ولقد كوشف بهم عمر رضي الله عنه وكاشف بهم حيث قال : خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، رواه البخاري .

وروى أبو داود أنه خطب وقال : إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده . وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : لا نجد الرجم ، الحديث .

وقال : لولا أن يقال : إن عمر زاد في الكتاب لكتبتها على حاشية المصحف . وفي الحديث المعروف : أي المشهور المروي من حديث عثمان وعائشة وأبي هريرة وابن مسعود ، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة } وروى الترمذي { عن عثمان أنه أشرف عليهم يوم الدار وقال : أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان ، وارتداد بعد إسلام ، وقتل نفس بغير حق ، قالوا : اللهم نعم ، قال فعلام تقتلوني } الحديث . قال الترمذي : حديث حسن . ورواه الشافعي في مسنده [ ص: 225 ] عن عثمان { لا يحل دم امرئ مسلم إلا من إحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير نفس } ورواه البزار والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين والبيهقي وأبو داود والدارمي ، وأخرجه البخاري عن فعله صلى الله عليه وسلم من { قول أبي قلابة حيث قال : والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، ورجل زنى بعد إحصان ، ورجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام } . ولا شك في رجم عمر وعلي رضي الله عنهما . ولا يخفى أن قول المخرج حسن أو صحيح في هذا الحديث يراد به المتن من حيث هو واقع في خصوص ذلك السند ، وذلك لا ينافي الشهرة وقطعية الثبوت بالتظافر والقبول . والحاصل أن إنكاره إنكار دليل قطعي بالاتفاق ، فإن الخوارج يوجبون العمل بالمتواتر معنى أو لفظا كسائر المسلمين ، إلا أن انحرافهم عن الاختلاط بالصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة ، ولذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز القول بالرجم ; لأنه ليس في كتاب الله ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات ، فقالوا : ذلك ; لأنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فقال لهم : وهذا أيضا فعله هو والمسلمون

( قوله ويخرجه إلى أرض فضاء ) ; لأن في الحديث الصحيح { قال فرجمناه يعني ماعزا بالمصلى } . وفي مسلم وأبي داود { فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد } ; لأن المصلى كان به ; لأن المراد مصلى الجنائز فيتفق الحديثان .

وأما ما في الترمذي من قوله { فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة } فإن لم يتأول على أنه اتبع حين هرب حتى أخرج إلى الحرة وإلا فهو غلط ; لأن الصحاح والحسان متظافرة على أنه إنما صار إليها هاربا لا أنه ذهب به إليها ابتداء ليرجم بها ، ولأن الرجم بين الجدران يوجب ضررا من بعض الناس لبعض للمضيق ( قوله ويبتدئ الشهود برجمه ثم الإمام ثم الناس ) وهذا شرط ، حتى لو امتنع الشهود عن الابتداء سقط الحد عن المشهود عليه ولا يحدون هم ; لأن امتناعهم ليس صريحا في رجوعهم . [ ص: 226 ] ولو كان ظاهرا فيه ففيه احتمال كونهم تضعف نفوسهم عن القتل وإن كان بحق كما تراه في المشاهد من امتناع بعض الناس من ذبح الحيوان الحلال للأكل والأضحية بل ومن حضورها ، فكان امتناعهم شبهة في درء الحد عن المشهود عليه ، وهذا الاحتمال شبهة في امتناع الحد عنهم . وقيل يحدون والأول رواية المبسوط . وقال الشافعي رحمه الله ليس شرطا اعتبارا بالجلد : يعني إذا ثبت الحد بالشهادة على غير المحصن لا يشترط في إقامة الحد ابتداء الشهود . وأجاب المصنف بالفرق بأن الجلد لا يحسنه كل أحد ، فقد يقع لعدم الخبرة مهلكا وهو غير مستحق ، بخلاف الرجم فإن المقصود منه الإهلاك فلا يلزم من عدم اشتراط ابتدائهم بالجلد عدمه في الرجم ، وهذا دفع لإلحاقه .

وأما إثبات المذهب فبقول علي رضي الله عنه بناء على وجوب تقليد الصحابي ، فإن قوله في ذلك ليس مما يدرك بالعقل معناه ليحمل على السماع ; لأنه علله بأن امتناعهم دلالة الرجوع ، فإن الشاهد ربما يتساهل في الأداء فعند مباشرة القتل يتعاظم ذلك فيندفع الحد بتحقق هذه الدلالة . وهذا هو قول المصنف ; لأنه دلالة الرجوع . وقول بعضهم : إنه شبهة الرجوع حقيقة والرجوع شبهة فاحتماله شبهة الشبهة وبها لا يندرئ الحد على ما عرف وسيأتي ، إنما يصح بناء على أن الامتناع من الابتداء ليس ظاهرا في الرجوع بل يحتمله احتمالا مرجوحا . فإن الغالب على الناس خور الطباع عن القتل حتى يمتنع كثير عن ذبح المباح كالأضحية والدجاجة فكيف بالأعلى ، فالامتناع عن قتله لا يكون ظاهرا في الرجوع ، بل ظاهر فيما هو الغالب وهو عدم قتل الإنسان فكان في الامتناع شبهة الرجوع لا دلالته ، وهو غلط ; لأنا لم نشترط الابتداء بقتله بل برميه ، حتى لو رماه بحصاة صغيرة حصل الشرط فامتناعه عن مثل ذلك دليل رجوعه ، لكنه دليل فيه شبهة فإنه أمارة لا يقطع بوجود المدلول معه فكان ثبوت الرجوع عند الامتناع فيه شبهة ، والرجوع الذي فيه شبهة رجوع بخلاف شبهة الرجوع واحتماله . لا يقال : احتمال الرجوع رجوع والرجوع شبهة ; لأن الثابت شبهة في الشهادة لا شبهة الشبهة فيها ، وحين لزم كون الثابت بالامتناع رجوعا فيه شبهة كان الثابت قذفا فيه شبهة ، بخلاف صريح الرجوع فإن به يظهر أن تلك الشهادة قذف بلا شبهة فيحد به هناك ولا يحد بدلالة الرجوع إذا لم تكن دلالة قطعية يوجد معها المدلول قطعا لثبوت الشبهة في القذف على ما ذكرنا .

وأما ثبوت ذلك عن علي رضي الله عنه فما أخرج ابن أبي شيبة رحمه الله قال : حدثنا عبد الله بن إدريس عن يزيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا كان إذا شهد عنده الشهود على الزنا أمر الشهود أن يرجموا ثم يرجم هو ثم يرجم الناس ، فإذا كان بإقرار بدأ هو فرجم ثم رجم الناس بعده . قال : وحدثنا أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن علي رضي الله عنه قال : أيها الناس إن الزنا زناءان زنا السر ، وزنا العلانية ، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي ثم الإمام ثم الناس ، وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الإمام أول من يرمي ، قال : وفي يده ثلاثة أحجار فرماها بحجر فأصاب صدغها فاستدارت ورمى الناس بعده ، وروى الإمام أحمد في مسنده عن الشعبي قال : { كان لشراحة زوج غائب بالشام وأنها حبلت ، فجاء بها مولاها إلى علي رضي الله عنه فقال : إن هذه زنت ، فاعترفت فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وحفر لها إلى السرة وأنا شاهد ، ثم قال : الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره ، ولكنها أقرت فأنا [ ص: 227 ] أول من يرميها فرماها بحجر ثم رماها الناس } . ورواه البيهقي عن الأجلح عن الشعبي عن علي ، وفيه " أنه قال لها : لعله وقع عليك وأنت نائمة ، قالت لا ، قال : فلعله استكرهك ، قالت لا ، قال : فأمر بها فحبست ، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة وأحاط الناس بها " الحديث وفيه أيضا " أنه صفهم ثلاث صفوف ثم رجمها ثم أمرهم فرجم صف ثم صف ثم صف " . وأورد أن إثبات اشتراط البداءة بهذا زيادة على النص بما هو دون خبر الواحد ، وإصلاح الإيراد أنه تقييد للقطعي المطلق فكان كتقييد مطلق الكتاب به .

والجواب أن الحكم القطعي هنا هو مجموع وجوب الرجم ودرئه بالشبهة ، فإذا دل دليل ظني على أن البداءة شرط لزم أن عدمها شبهة فيندرئ به الحد بحكم القطع بوجوب درء هذا الحكم القطعي بالشبهة ، وموت الشهود مسقط أو أحدهم ، وكذا إذا غابوا أو غاب أحدهم في ظاهر الرواية ، وهو احتراز عن رواية عن أبي يوسف أن بداءتهم مستحبة لا مستحقة ، فإذا امتنعوا أو غابوا أو ماتوا يقيم الحد ، وكذا يسقط الحد باعتراض ما يخرج عن أهلية الشهادة ، كما لو ارتد أحدهم أو عمي أو خرس أو فسق أو قذف فحد لا فرق في ذلك بين كونه قبل القضاء أو بعده قبل إقامة الحد ; لأن الإمضاء من القضاء في الحدود ، وهذا إذا كان محصنا . وفي غير المحصن قال الحاكم في الكافي : يقام عليه الحد في الموت والغيبة ، ولو كان أحدهم مقطوع اليدين أو مريضا لا يستطيع الرمي وحضروا يرمي القاضي ، ولو قطعت بعد الشهادة امتنعت الإقامة . وقد يقال : إذا كان شرطا ففوات الشرط كيف كان يمنع المشروط . وأيضا عجزهم بالضعيف ليس فوق عجزهم بالموت ، إلا أن شمس الأئمة فرق بأنهم إذا كانوا مقطوعي الأيدي لم تستحق البداءة بهم ، وأما هاهنا فقد استحقت ، فإذا تعذر بالموت أو الغيبة صار كما لو امتنعوا ، وهذا تقييد لشرطيته بكون الشهود قادرين على الرجم ، ولا شك أن المعنى المسقط

[ ص: 228 ] يجمعها . ومما يبطل الشهادة ويسقط الحد أن يعترف المشهود عليه بالزنا قبل القضاء بالاتفاق ، ولو اعترف بعد القضاء بالحد عن البينة مرة يسقطه أبو يوسف ; لأن سقوطه في الوجه الأول كان ; لأن شرط الشهادة عدم الإقرار ففات الشرط قبل العمل بها ، وقد علم أن الإمضاء من القضاء في الحدود فكان كالأول ، وخالف محمد رحمه الله




الخدمات العلمية