الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب ما يحدث السارق في السرقة )

( ومن سرق ثوبا فشقه في الدار بنصفين ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم قطع ) وعن أبي يوسف أنه لا يقطع لأن له فيه سبب الملك وهو الخرق الفاحش فإنه يوجب القيمة وتملك المضمون وصار كالمشتري إذا سرق مبيعا فيه خيار للبائع [ ص: 418 ] ( ولهما أن الأخذ وضع سببا للضمان لا للملك ، وإنما الملك يثبت ضرورة أداء الضمان كي لا يجتمع البدلان في ملك واحد ، ومثله لا يورث ) الشبهة كنفس الأخذ ، وكما إذا سرق البائع معيبا باعه ، بخلاف ما ذكر ; لأن البيع موضوع لإفادة الملك ، وهذا الخلاف فيما إذا اختار تضمين النقصان وأخذ الثوب ، [ ص: 419 ] فإن اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع بالاتفاق ; لأنه ملكه مستندا إلى وقت الأخذ فصار كما إذا ملكه بالهبة فأورث شبهة ، وهذا كله إذا كان النقصان فاحشا ، فإن كان يسيرا يقطع بالاتفاق لانعدام سبب الملك إذ ليس له اختيار تضمين كل القيمة

التالي السابق


( باب ما يحدث السارق في السرقة )

( قوله ومن سرق ثوبا فشقه في الدار ) قبل أن يخرجه من الحرز ( نصفين ثم أخرجه ، وهو يساوي عشرة ) بعد الشق ( قطع . وعن أبي يوسف أنه لا يقطع ) وإن كان لا يساوي عشرة بعده لم يقطع بالاتفاق ، وإن شقه بعد الإخراج قطع بالاتفاق وهو ظاهر .

واختلفت العبارات في إفادة قول أبي يوسف في بعضها ما يفيد أنه رواية عنه وأن الظاهر من قوله كقولهما وهي كلام الهداية وفخر الإسلام البزدوي والصدر الشهيد والعتابي حيث قالوا : وعن أبي يوسف ، وكذا قول الإسبيجابي ذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع محمد وقول محمد مع أبي حنيفة في الظاهر [ ص: 418 ] وشمس الأئمة البيهقي زاد فقال في كفايته : وعن أبي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة ، وفي بعضها ما يفيد أنه الظاهر من قوله كقول صاحب الأسرار ، وقال أبو يوسف : لا يقطع ، وكذا قال الحاكم الشهيد في الكافي ، وقال أبو يوسف : كل شيء يجب عليه قيمته إن شاء ذلك رب المتاع فلا قطع عليه .

وجه قوله : إن السرقة ما تمت إلا وقد انعقد للسارق فيها سبب الملك ; إذ بالخرق الفاحش يثبت للمالك ولاية تضمين السارق قيمة الثوب وتركه له وإن كره ذلك ، وما انعقد للسارق فيه سبب الملك لا يقطع به . كما لو سرق المشتري المبيع الذي فيه خيار البائع ثم أسقط البائع الخيار فإنه لا يقطع لذلك ، وهو أن السرقة تمت على عين غير مملوك ، ولكن فيه سبب الملك للسارق ( ولهما أن الأخذ وقع سببا للضمان ) ولا يخفى أن المناسب أن يقول : إن الشق وقع سببا للضمان ( لا للملك ) وثبوت ولاية الغير أن يملك ليس سببا للملك ، بل السبب إنما يثبت عند اختيار التضمين ، وإنما تكون تلك الولاية موجبة للسببية إذا كان التصرف موضوعا للتمليك كالبيع فيما قست عليه لا فيما وضع سببا للضمان . فالفرق بين صورة الشق وصورة البيع كون نفس التصرف وضع للتمليك ، بخلاف الشق .

ولما كان الكلام ليس في الأخذ بل في الشق تكلف في تقريره بأن قيل الأخذ سبب للضمان لأنه عدوان محض لا للملك فكان كالشق عدوانا فكما لا تعتبر في الأخذ شبهة الملك دارئة للقطع بل يقطع إجماعا كذلك الشق ، وإنما يصير الشق سببا للضمان إذا اختار المالك التضمين ( فيثبت ضرورة أداء الضمان ) أو القضاء به ( ومثله لا يورث شبهة ) وإلا لثبت مثلها ( في نفس الأخذ ) ; لأنه أيضا يحتمل أن يصير سببا للملك بأداء الضمان كالشق فصار ( نظير ما إذا سرق البائع معيبا باعه ) ولم يعلم المشتري العيب فإنه يقطع وإن انعقد سبب الرد بالعيب الذي به يثبت الملك للبائع ( قوله : وهذا الخلاف إلخ ) الحاصل أن هذا الخلاف الكائن في القطع هو فيما إذا كان النقصان فاحشا واختار المالك تضمين النقصان وأخذ الثوب يقطع مع ذلك [ ص: 419 ] عندهما . وعند أبي يوسف لا يقطع ( ولو اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع بالاتفاق لأنه ملكه مستندا إلى وقت الأخذ فصار كما لو ملكه ) إياه ( بالهبة ) بعد القضاء لا يقطع على ما تقدم ( ولو كان يسيرا يقطع بالاتفاق لانعدام سبب الملك وليس للمالك تضمين كل القيمة ) فانتفى وجه أبي يوسف في عدم القطع في اليسير .

واعلم أن الخرق يكون يسيرا ويكون فاحشا ، وتارة يكون إتلافا واستهلاكا ، وفيه يجب ضمان كل القيمة بلا خيار ; لأنه استهلاك ، وعلى هذا لا يقطع ; لأنه ما تمت السرقة إلا بما ملكه بالضمان ، وقد حده التمرتاشي بأن ينقص أكثر من نصف القيمة . وأما الخرق الفاحش فقيل ما يوجب نقصان ربع القيمة فصاعدا فاحش ، وإلا فيسير ، ولا بد أن يكون المعنى فصاعدا ما لم ينته إلى ما به يصير إتلافا . والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة ، واليسير ما يفوت به شيء من المنفعة ذكره التمرتاشي .

وأورد في الكافي على القطع مع إيجاب ضمان النقصان في الخرق اليسير أن فيه جمعا بين القطع والضمان .

وأجاب فقال : إنما لا يجتمعان كي لا يؤدي إلى الجمع بين جزاء الفعل وبدل المحل في جناية واحدة وهنا لا يؤدي إليه ; إذ القطع يجب بالسرقة وضمان النقصان بالخرق والخرق ليس من السرقة في شيء . واستشكل على هذا الجواب الاستهلاك على ظاهر الرواية ، فإنه فعل غير السرقة مع أنه لا يجب به الضمان ; لأن عصمة المسروق تسقط بالقطع ، فكذا هنا عصمة المسروق تسقط بالقطع فينبغي أن لا يجب ضمان النقصان ، وعن هذا قال في الفوائد الخبازية : وفي الصحيح لا يضمن النقصان كي لا يجتمع القطع مع الضمان ، ولأنه لو ضمن النقصان يملك ما ضمنه فيكون هذا كثوب مشترك بينهما فلا يجب القطع لكنه يجب بالإجماع فلا يضمن النقصان ، والحق ما ذكر في عامة الكتب الأمهات أنه يقطع ويضمن النقصان ، والنقص بالاستهلاك غير وارد لأن الاستهلاك هناك بعد السرقة بأن سرق واستهلك المسروق ، وما نحن فيه ما إذا نقص قبل تمام السرقة فإن وجوب قيمة ما نقص ثابت قبل السرقة ، ثم إذا أخرجه من الحرز كان المسروق هو الناقص فالقطع حينئذ بذلك المسروق الناقص ولم نضمنه إياه ، ألا يرى إلى قول الإمام قاضي خان : فإن كان الخرق يسيرا يقطع ويضمن النقصان ، أما القطع فلأنه أخرج نصابا كاملا من الحرز على وجه السرقة ، وأما ضمان النقصان فلوجود [ ص: 420 ] سببه وهو التعييب الذي وقع قبل الإخراج الذي به تتم السرقة ، ووجوب ضمان النقصان لا يمنع القطع ; لأن ضمان النقصان وجب بإتلاف ما فات قبل الإخراج والقطع بإخراج الباقي فلا يمنع ، كما لو أخذ ثوبين وأحرق أحدهما في البيت وأخرج الآخر ، وقيمته نصاب .

وأما قول الباحث يملك ما ضمنه فيكون كثوب مشترك إلى آخره فغلط ; لأن عند السرقة وهو الإخراج ما كان له ملك في المخرج ، فإن الجزء الذي ملكه بالضمان هو ما كان قبل السرقة وقد هلك قبلها ، وحين وردت السرقة وردت على ما ليس فيه ذلك الجزء المملوك له




الخدمات العلمية