الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (22) قوله: وجوه يومئذ ناضرة : فيه أوجه أحدها: أن يكون "وجوه" مبتدأ، و"ناضرة" نعت له، و"يومئذ" منصوب بـ "ناضرة" و"ناظرة" خبره، و إلى ربها متعلق بالخبر، والمعنى: أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى، وهذا معنى صحيح وتخريج سهل. والناضرة: من النضرة وهي: التنعم، ومنه غصن ناضر. الثاني: أن يكون "وجوه" مبتدأ أيضا، و"ناضرة" خبره، و"يومئذ" منصوب بالخبر كما تقدم. وسوغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4416-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فثوب لبست وثوب أجر

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 575 ] ويكون "ناظرة" نعتا لوجوه، أو خبرا ثانيا، أو خبرا لمبتدأ محذوف. و"إلى ربها" متعلق بـ "ناظرة" كما تقدم. وقال ابن عطية: وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله "يومئذ". وقال أبو البقاء : "وجاز الابتداء هنا بالنكرة لحصول الفائدة". قلت: أما قول ابن عطية ففيه نظر; لأن قوله: "تخصصت بقوله: يومئذ"، هذا التخصيص: إما لكونها عاملة فيه، وهو محال; لأنها جامدة، وإما لأنها موصوفة به وهو محال أيضا; لأن الجثث لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها. وأما قول أبي البقاء فإن أراد بحصول الفائدة ما قدمته من التفصيل فصحيح، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما عرفته.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون "وجوه" مبتدأ، و"يومئذ" خبره، قاله أبو البقاء . وهذا غلط محض من حيث المعنى، ومن حيث الصناعة. أما المعنى فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك. وأما الصناعة فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثث، وإن ورد ما ظاهره ذلك تؤول نحو: "الليلة الهلال".

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون "وجوه" مبتدأ و"ناضرة" خبره، و إلى ربها ناظرة جملة في موضع خبر ثان، قاله ابن عطية. وفيه نظر; لأنه لا ينعقد منهما كلام، إذ الظاهر تعلق "إلى" بـ "ناظرة"، اللهم إلا أن يعني أن "ناظرة" خبر لمبتدأ مضمر، أي: هي ناظرة إلى ربها، وهذه الجملة خبر ثان. وفيه تعسف. [ ص: 576 ] الخامس: أن يكون الخبر لوجوه مقدرا، أي: وجوه يومئذ ثم، و"ناضرة" صفة، وكذلك "ناظرة"، قاله أبو البقاء . وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك. ولا أدري ما الذي حملهم على هذا مع ظهور الوجه الأول وخلوصه من هذه التعسفات؟ وكون "إلى" حرف جر، و"ربها" مجرورا بها هو المتبادر للذهن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد خرجه بعض المعتزلة: على أن تكون "إلى" اسما مفردا بمعنى النعمة مضافا إلى الرب، ويجمع على "آلاء" نحو: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقد تقدم أن فيه لغات أربعا، و "ربها" خفض بالإضافة، و"إلى" مفعول مقدم ناصبه "ناظرة" بمعنى منتظرة. والتقدير: وجوه ناضرة منتظرة نعمة ربها. وهذا فرار من إثبات النظر لله تعالى على معتقدهم.

                                                                                                                                                                                                                                      والزمخشري تمحل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة النحوية فقال - بعد أن جعل التقديم في "إلى ربها" مؤذنا بالاختصاص - والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: "أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي"، يريد معنى التوقع والرجاء. ومنه قول القائل:


                                                                                                                                                                                                                                      4417- وإذا نظرت إليك من ملك     والبحر دونك زدتني نعما



                                                                                                                                                                                                                                      وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس [ ص: 577 ] أبوابهم ويأوون إلى مقايلهم تقول: "عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم" والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم. قلت: وهذا كالحوم على قول من يقول: إن "ناظرة" بمعنى منتظرة. إلا أن مكيا قد رد هذا القول فقال: ودخول "إلى" مع النظر يدل على أنه نظر العين، وليس من الانتظار، ولو كان من الانتظار لم تدخل معه "إلى"; ألا ترى أنك لا تقول: انتظرت إلى زيد، وتقول: نظرت إلى زيد، فـ "إلى" تصحب نظر العين لا تصحب نظر الانتظار، فمن قال: إن "ناظرة" بمعنى منتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب، ووضع الكلام في غير موضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      والنضرة: طراوة البشرة وجمالها، وذلك من أثر النعمة، يقال: نضر وجهه فهو ناضر. وقال بعضهم: مسلم أنه من نظر العين، إلا أن ذلك على حذف مضاف، أي: ثواب ربها، ونحوه. قال مكي: "لو جاز هذا لجاز: نظرت إلى زيد، أي: إلى عطاء زيد. وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني". ونضره الله ونضره مخففا ومثقلا، أي: حسنه ونعمه، وفي الحديث: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها"، يروى بالوجهين. وقيل للذهب: "نضار" من ذلك. ويقال له: النضر أيضا، وأخضر ناضر، كـ أسود حالك، وقدح نضار ونضار، يروى بالإتباع والإضافة.

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على "ناضرة" بألف. وقرأ زيد بن علي "نضرة" بدونها، كفرح فهو فرح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية