تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي جعل التحقق بالبر -والبر كلمة جامعة لكل خير- ثمرة للإنفاق والعطـاء من أحب الأموال وأكثرها لصوقا بالنفس،
فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=92 ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران:92) ؛
لأن في ذلك ما فيه من اقتحام العقبة النفسية، ذلك أن اقتحام العقبات النفسية والإنفاق للوصول إلى تحرير الإنسان من العبودية وتحقيق التكافل الاجتماعي وتحريره من الفقر والعوز والتواصي بالتراحم هـو ثمرة التدين ومقصده،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=11 ( فلا اقتحم العقبة nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=12وما أدراك ما العقبة nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=13فك رقبة nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=14أو إطعام في يوم ذي مسغبة nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=15يتيما ذا مقربة nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=16أو مسكينا ذا متربة nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=17ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) (البلد:11-17) ،
فالاقتصار على ممارسة الشعائر، دون أن تؤتي ثمارها في تنمية الحس الاجتماعي، وتحقق حكمتها في الفعل الاجتماعي، لا تبلغ بصاحبها درجة البر المطلوب،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177 ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) (البقرة:177) .
فالمال حبيب للإنسان؛ لأنه يمنحه الإمكان والقدرة والسلطة والتفوق.. ونزعة التملك غريزية في جميع المخلوقات، وهي أوضح ما تكون في
[ ص: 5 ] الإنسان، فهي فطرة مطبوعة فيه،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=8 ( وإنه لحب الخير لشديد ) (العاديات:8) ، ويقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=19 ( وتأكلون التراث أكلا لما nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=20وتحبون المال حبا جما ) (الفجر:19-20) .
وهذا النـزوع إلى حب التملك وممارسته طبعي وفطري -كما أشرنا- يخشى أن يستأثر بالإنسـان؛ ولعل الله سماه خيرا بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=8 ( وإنه لحب الخير لشديد ) ليشير بشكل خفي نفسي داخلي إلى أهمية التنبه إلى وظيفة المال الاجتماعية وتوجيهه لفعل الخير، وترشيد ملكيته، بالالتزام بالضوابط الشرعية لكسبه وإنفاقه، سعيا لنيل البر، حتى لا يتحكم بالإنسان جريا وراء رغائب النفس وانشدادها إلى البخل
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16 ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هـم المفلحون ) (التغابن:16) .
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان - حيث الصيام ينمي الحس المادي بحاجة الآخر وارتفاع درجة التقوى - عندما يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، حتى إنه ليكون أجود بالخير من الريح المرسلة، التي لا تحول دونها حدود ولا حواجز، ولعل ذلك يجيئ ثمرة لنضح القرآن في النفس، ورسالته في تنقيتها من الشح والبخل والأثرة.
وبعد: فهذا «كتاب الأمة» التاسع عشر بعد المائة: «أوقاف الرعاية الصحية في المجتمع الإسلامي» للدكتور أحمد عوف محمد عبد الرحمن، في سلسلة
[ ص: 6 ] «كتاب الأمة»، التي تصدر عن «وقفية الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، للمعلومات والدراسات» (مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية سابقا) بدولة قطر، في سعيها المستمر لاسترداد الفاعلية، وإعادة الوعي بالمرجعية، وقراءة التراث وأدائه التاريخي قراءة قاصدة، للإفادة منه وتوظيفه لفقه الحاضر وتحديد الخلل الحاصل، واستشراف المستقبل والإعداد له، وتصويب المسيرة نحوه، وفك قيود التقليد الجماعي، التي باتت تنتقل من جيل إلى جيل بالتوارث الاجتماعي، والانتقال إلى الفضاء الفكري والفقهي، وفتح النوافذ والأبواب للحوار والمثاقفة والمفاكرة والمناظرة والمشاورة والاجتهاد والتجديد، وبناء العقل الناقد القادر على الانطلاق من المرجعية، وامتلاك القدرة على معايرة الواقع الذي عليه الناس، وتقويمه بقيم الوحي في الكتاب والسنة، وإشاعة ثقافة النقد، والتمحور حول شعار وشعيرة: «كل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم » وبذلك يصبح كل شيء، فيما وراء النص الصحيح في الكتاب والسنة، قابلا للنقد والنقض والتجاوز والإلغاء في ضوء معايير الكتاب والسنة.
فكل إنتاج بشري، مهما كان، يجري عليه الخطأ والصواب، لكن تبقى الإشكالية في كيفية تصويب آلية اعتماد المعيار، الذي يحدد الخطأ والصواب، في الموقع المناسب من قيم الوحي المعصوم، ونزع القدسية وصفة المعيارية عن كلام البشر، وكيفية تبديد مناخ الخوف من النقد، وفك الالتباس والخلط الواقع بين النقد والمناصحة، والتجريح والإساءة، والغيبة والازدراء.
[ ص: 7 ]
وقد يكون من الأهداف الرئيسة، التي ما تزال غائبة بأقدار متفاوتة، بناء الوعي بالعمل الجماعي، وتعميق ثقافة تقسيم العمل وتكامله، وتحقيق التيقن واليقين بأن طريق النهوض الوحيد هـو النفرة للفقه في تحقيق مقاصد الدين في المجالات المتعددة، ويأتي في مقدمة ذلك استشعار القائمين على أمر العمل الإسلامي من مؤسسات وجماعات وجمعيات ومنظمات أهمية حفظ الأمانة، التي تقتضي إيكال الأمر إلى أهله، وذلك بالعمل على استدراك التخصصات المتعددة في شعب المعرفة المتنوعة، وتيسير السبل لبلوغها، وتذليل العقبات من أمامها، وإتاحة الفرص المتكافئة أمام كل إنسان صاحب موهبة لتنمية موهبته والوصول إلى ما هـو مؤهل له، وعندها يتحقق فينا
( قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل ميسر لما خلق له ) (أخرجه
البخاري ) ، واستشعار الخطورة والخوف أيضا من الإقدام على إحداث الخلل في مسيرة الأمة، وذلك بتضييع الأمانة التي حملها الإنسان؛ وضياعها إنما يكون ابتداء بتوسيد «الأمر إلى غير أهله»، لغير المؤهلين له والمتخصصين به، فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر من هـذه الإصابات والعلل، التي سوف تؤدي بلا شك إلى حدوث الخلل في نظام الحياة، وعند ذلك تؤذن بالاستبدال
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=38 ( يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) (محمد:38) ، أو بتوقف الحياة وانتهائها وقيام الساعة.
( فعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة».. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) (أخرجه
البخاري ) ..
[ ص: 8 ] وإضاعة الأمانة تخرم الإيمان، وقد تأتي عليه من أصله،
( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «فلا إيمان لمن لا أمانة له ) (أخرجه
البيهقي ) .
فالأهلية ليست بالادعاء، والتطـاول، والتزييف، والزور والتزوير، وإنما تتحقق وتبنى بالخبرة والتخصص والعلم.
لذلك نقول في ضوء ذلك كله، وفي ضوء الواقع، الذي ما يزال التخلف ينمى فيه بضياع الأمانة: إنه لا بد من إعادة النظر بمصطلح «أهل الحل والعقد» ودلالاته، أو ما يمكن أن يسمى بأدوات وآليات تكوين «العقل الجمعي» للأمة، الذي يضبط تصرفاتها، ويرسم مساراتها، ويبصر تحدياتها، ويولد الحلول الملائمة لمشكلاتها والذي يمثله أهل الحل والعقد.
فلكل قضية مطروحة، ولكل إشكالية واقعة أو متوقعة بحسب موضوعها، ولكل خطة مستقبلية، ولكل قراءة للواقع، أهل حلها وعقدها من الخبراء والمتخصصين بعلمها، حتى لا تقاد الأمة إلى التهلكة بسبب من شيوع ثقافة الكذب والتضليل والادعاء وطرح عناوين طويلة عريضة دون التحقق بأية مضامين:
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=39 ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) (يونس:39) .
إن الوعي بأهمية استدراك التخصصات المتنوعة وفقهها في الشعب المعرفية والعلمية جميعا، القائمة منها والقادمة، واعتماد ذلك كأساس ومقوم وشرط في تشكيل أهل الحل والعقد، هـو سبيل الخروج وإعادة إخراج الأمة لاستئناف دورها الرسالي، وتخليصها من مركب النقص أمام ماضيها المتألق، وحاضرها المتخلف، وخصمها المتقدم.
[ ص: 9 ]
ذلك أن هـذه التخصصات المتنوعة هـي أشبه ما تكون بحواس الإنسان العضوية، التي تزود العقل بكل ما حوله ومن حوله؛ وفي ضوء عطائها والتمييز بينها واختبار معطياتها يرسم العقل طريق الحركة، ويحدد نوع الاستجابة.
فالتخصصات في شعب المعرفة المتنوعة هـي حواس «العقل الجمعي» للأمة، ومصادره المعرفية، وهي السبيل لإعادة بناء النسيج الاجتماعي المتماسك، وتجديد شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تعمل على ربط إنجازات المجتمع بتخصصات أفراده جميعا، وإشاعة ثقافة التعاون والتكامل، وتنمية الشعور بالحاجة الماسة إلى (الآخر) وقيمته كلبنة في البناء الحضاري.
وقد تبدو الحاجة إلى التوضيح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هـذه الحاجة تتمحور حول أهمية التمييز بين مدلول «الثقافة العامة»، الذي يعني معرفة شيء ما، أو قدر ما، أو معرفة ما، عن كل شأن من شئون الحياة ومعارفها، بالقدر الذي ييسر للإنسان الفهم والتكيف والتعامل، وبين مدلول «العلم والتخصص»، الذي يعني المعرفة الدقيقة والمحيطة بالأمر المطروح من كل جوانبه، والوصول به إلى مرحلة اكتساب ملكه الفرقان والبينة، التي تشكل المخرج من الحيرة والضلال والتيه والالتباس، وتكشف حقيقة الأشياء، وتدرك كنهها وعواقبها ومآلاتها، وبكلمة مختصرة: ما لم نميز بين «الثقافة العامة» التي تعني معرفة شيء عن كل شيء، و «العلم» الذي يعني معرفة كل شيء عن الشيء المطروح، فسوف تستمر حالة التيه، ويستمر تضييع الأمانة، ويتعمق الخلل الكامن بسبب من استمرار إيكال الأمر إلى غير
[ ص: 10 ] أهله، حتى ولو تحققوا ببعض ثقافته؛ فمجرد التمكن من ثقافة الحنجرة واللسان لا يغني الأمة شيئا، إن لم يساهم بضياعها وبعثرة طاقاتها.
إنه لا بد لنا من العمل على تحقيق وتأصيل النقلة الذهنية حول هـذا الأمر، بحيث نقتنع تماما أن استدراك التخصصات والنفرة لها هـو فقه في الدين وسبيل إلى الثواب، أو هـو دين من الدين، وفرض من فروض الكفايات، بحيث يحس الإنسان الذي ينفر إليها ويتخصص فيها ويكفي الأمة والمجتمع ويسد حاجتها في هـذا الثغر، بأنه يتقرب إلى الله، بالتزام شرعه والاستجابة لأمره، وأن ممارسته لذلك هـي استزادة ثواب لا يقل عن ثواب القائم الليل، الصائم النهار.
فإذا كان الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، القائم الليل، الصائم النهار، فأي قيام أعظم من العمل على كفاية الأمة كلها، وليس بعض أفرادها؟ وأي ثواب أكبر من ثواب من ينفر مجاهدا في طلب العلم للقيام بأمر الله وأداء حق الأمة وتحقيق كفايتها؟!
والوقف كفعل اجتماعي ووسيلة لبناء التكافل الاجتماعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، يأتي في مقدمة قضايانا وإنجازاتنا الكبرى، التي هـي بأمس الحاجة إلى استدراك التخصصات المعرفية في الإدارة، والاستثمار، والمسح الاجتماعي، وفقه الحكم الشرعي، وفهم الواقع العملي.
وما لم يدرك القائمون على أمر الوقف بخاصة هـذه الآفاق، وإذا لم يعها الواقفون أمام الثغور المفتوحة في جسم الأمة، فيخشى أن يفتقد الوقف رسالته وهدفه ودوره في التنمية والنهوض.
[ ص: 11 ]
إن انحسار وانكماش العقل الديني ومفهوم الفقه الديني ومفهوم العبادة في الذهنية المسلمة جاء نتيجة للعجز والتخلف وثمرة للانسحاب من مهام الحياة وحاجات العمران واستساغة العطالة والعجز، حتى أصبح ذلك مناخا قاتلا للقابليات والتوجهات نحو هـذه الثغور.. وليس ذلك فقط، بل دفع الكثير من الأفراد الذين تحصلوا على مثل هـذه التخصصات العلمية الغائبة عن الأمة إلى إخلاء الثغور العلمية والتكدس في ساحات الكسل والتكايا وممارسة تولية الأدبار لهذا النوع من الجهاد، والانسحاب من ممارسة التخصص ونفع الناس، إلى العيش عالة على (الآخر) ، وممارسة صناعة الكلام والضجيج واقتحام المواقع التي قد لا تكون لهم أهلية لها، ولا قبل لهم بها، وبذلك تتحلل المؤسسات الاجتماعية، وينحل عقد الأمة.
إن الإيمان بأن التخصصات هـي السبيل إلى الارتقاء والإبداع والعمل الجماعي وبناء التكافل الاجتماعي، هـو الكفيل بالخروج من حالة التخلف والعجز، وسوف ينتهي بالأمة إلى استرداد إقامة الأعمال المؤسسية، التي أصبحت اليوم، في العالم المتقدم، أشبه بمخابر للفكر والفعل الإنساني والتخطيط المستقبلي والنمو المستدام والتغيير الحضاري، لا تقل أهمية عن مخابر العلوم والبحوث الكيميائية والفيزيائية وسائر العلوم المادية التجريبية.
ويمكن القول، بكل الاطمئنان: إن الاستقراء والاستقصاء لشريعة الوقف وأحكامه، وفقهه، وتاريخه، وعطائه، يؤكد أنه كان يمثل رؤية مبكرة ومبكرة جدا للعمل المؤسسي، في مجتمع المسلمين، رافق مسيرة الحضارة
[ ص: 12 ] وساهم بصناعتها، ومكنها من بلوغ أهدافها، وسدد طريقها الطويل، ابتداء من الإنسان البدائي في المجتمع الرعوي، ومرورا بالمجتمع الزراعي، فالمجتمع الصناعي، فالميكانيكي، ووصولا إلى المجتمع الإلكتروني المعـاصر، ولا عبرة بما لحق به من الجمود والتخلف والتوقف، وانكماش الرؤية، والدوران في حلقات مفرغة على يد إنسان التخلف، حيث اقتصر العمل على نقل تعاريفه وأحكامه وشروطـه ودوره التاريخي ورؤية المذاهب الفقهية، دون توليد ولو فكرة واحدة أو خطوة معاصرة واحدة، حتى لنكاد نبصر أن الكلام نفسه يتحرك من كتاب إلى آخر، ومع ذلك كله استطاع نظام الوقف، كعمل مؤسسي تنموي، التجاوز والصمود والامتداد والعطاء لكثير من مؤسسات المجتمع المدني اليوم.
بل لعلنا نقول: إن الوقف كان تاريخيا وراء استمرار وامتداد المجتمع الإسلامي بمؤسساته، الصحية والعلمية والتعليمية والإغاثية والتنموية، دون انقطاع، حتى عندما كانت تغيب الدولة أو تقصر عن القيام بوظائفها ويقع الانفصال بين السلطان والقرآن، ذلك أن الوقف كان ولا يزال مؤسسة القرآن وليس أحد مؤسسات السلطان، بل هـو مؤسسة المجتمع وليس مؤسسة الدولة، هـو مؤسسة المجتمع المدني، حتى ليمكن القول: بأنه حمى المجتمع الإسلامي في فترات الشدة من عدوان الدولة، وامتد بالاحتفاظ بخمائر النمو وتحقيق التواصل العلمي والثقافي والصحي والاجتماعي في مراحل القهر والفقر والاستبداد.
[ ص: 13 ]
ولعل الوضع الشرعي للوقف ونظام الوقف، وحصانته بشروط الواقف والأحكام الشرعية والفقه الخاص به، حال دون العدوان عليه والعبث بممتلكاته من قبل أعداء الإسلام وخصومه على حد سواء؛ حتى في حالات التجمد التي لحقت بمؤسسات الوقف، لسبب أو لآخر، فمن الإنصاف أن نقول: إنه احتفظ دائما بالإمكان المؤهل للنمو والانطلاق حيثما تتوفر الظروف والشروط الملائمة.
ومن الأمور اللافتة حقا، أن النظر في تطوير مؤسسات الوقف ترافق مع عودة الوعي إلى الواقع الإسلامي، الذي أحدث التنبه إلى رسالة الوقف ودوره في الفعل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وحتى السياسي، سواء كان ذلك ناتجا عن الاستجابة للتحدي والعودة إلى «الذات» على مستوى الداخل، أو كان رد فعل وتحريض ومحاكاة لتطور أنظمة الوقف ومجالاته في دول الحضارة المتقدمة والمهيمنة.
لذلك بدأنا نلمح آثار هـذا الوعي في السعي لإقامة مؤسسات وقفية وبنوك وقفية، وإعلام وقفي، والدعوة إلى ندوات ومؤتمرات يشارك فيها اقتصاديون وإداريون وفقهاء للحوار والنظر والتطوير والارتقاء.
ولئن كان ذلك لم يتجاوز البدايات بعد، فإنه يحمل الكثير من بشائر الخير وبصائر المستقبل، شريطة أن نعيد النظر بجذور الذهنية، التي ما تزال تحكم تصرفاتنا، من الحماس والتحشيد والتعبئة ورد الفعل، والقفز من فوق القضايا، ومغادرة العمل قبل إكماله وإتقانه، والاضطراب في جدول
[ ص: 14 ] الأولويات، الأمر الذي يورث الفشل والضياع وتبديد الطاقات وبعثرتها، واختلاط الأمنيات بالإمكانيات، وطرح الكثير من القضايا والعناوين في غياب المقومات والإمكانات، بعيدا عن المرابطة في الموقع المختار وتوفير كل متطلباته وشروط نجاحه.
ولم نقصد من ذلك مصادرة الأحلام والأمنيات، ولا ممارسة التخذيل والإحباط، ولا محاولة بخس الناس أشياءهم، وإنما الذي نقصد إليه أن نستمر في طرح السؤال الكبير قبل الإقدام على أية قضية: ماذا أعددنا لها؟
ذلك أن الإشكالية عندنا كانت وما تزال، في عالمنا الإسلامي الكبير، أن المؤهلات والمقومات في الجماعات والتنظيمات والمؤسسات يحكمها الولاء والثقة والانتسـاب وليس العلم والتخصص والخـبرة والانتخاب، ولا مانع عندنا من تضييع الأمانة (إيكال الأمر إلى غير أهله) ، حتى ولو كانت تتم تحت شعارات وشعائر إسلامية (!)
هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن الجرأة في طرح الكثير من العناوين والقضايا والمؤسسات الكبيرة، دون توفير المقومات المطلوبة لها، ودون أن تسبقها دراسات متكاملة وتخطيط دقيق، تتحول إلى صناعة ألقاب لأصحابها، ذات مضامين فارغة، حيث ما تزال الألقاب تفعل فعلها في المجتمعات المتخلفة، دون أن ندري أن هـذه الألقاب والعناوين توبخنا تاريخيا، وتجهض العمل المؤسسي من داخله، وتقلل ثقة الناس بجدواه، وتحول بينهم وبين التعاطي معه والحماس لرسالته، وتكرس التخلف والجنوح إلى العزلة وإيثار العمل الفردي، وفي ذلك ما فيه من مجافاة روح العصر، وتكريس
[ ص: 15 ] التخلف، ومحاصرة الموارد، والإخلال برسالة العمل المؤسسي، وفي مقدمة ذلك الوقف ودوره. ويصدق فينا قول الشاعر:
أمة قد فت في ساعدها تعشق الألقاب في غير العلا بغضها الأهل وحب الغربا
وتفدي بالنفوس الرتبا
وقد لا نأتي بجديد عندما نقول: بأن العمل المؤسسي أصبح سمة العصر، وضرورة العصر، وحاجة العصر، وأصبحت له علومه ودراساته واختباراته ومعايير جودته وتخصصاته المتنوعة ومراكز بحوثه ودراساته، وكل يوم يحمل لنا إبداعا جديدا، وأسلوبا جديدا، وتطورا جديدا في الإدارة.. بل حتى الإدارة تنوعت وتقسمت إلى تخصصات، في الإدارة العامة وإدارة المشاريع، وأصبح لكل مشروع نمط في علم إدارته ومواصفات وتخصصات مديريه، عدا عن تطور آليات وأدوات وأوعية الاستثمار والمحاسبة والإحصاء والتخطيط ووسـائل دراسـات الجـدوى، التي تكاد في ضبطها وربطها لا تخطئ؛ لقد أصبحت بضبطها والتحكم بحركتها أقرب ما تكون إلى انضباط قوانين المادة، هـذا إضافة إلى ما ترافق مع ذلك من قوانين التعامل المالي والتحويلات وسندات القبض والاعتمادات المالية وتحديد نسبة المخاطر المتوقعة بدقة وكيفية تداركها ومعالجتها.
لقد أصبحت التحـويلات المالية تتم بلحظـة إلى كل أنحـاء العالم، بلا أحمال ولا أموال ولا أثقال، عن طريق ما يسمى بـ ( الفيزا كارد ) ، وبعضنا لا يزال مصرا على نظام المقايضة !!
[ ص: 16 ]
أما التخلف عن ارتياد آفاق واكتشاف مجالات للفعل الاجتماعي، والعمل الخيري والطوعي في شتى المجالات، ومحاولة إبداع أوعية سلسة لحركته، والإغراء بفعله، وإعفاء المواطن من الضرائب حال فعله، وتعدد خدماته وعطائه، فحدث ولا حرج؛ علما بأن نظام الوقف في الإسلام كان يمثل الرؤية الإنسانية المبكرة للعمل المؤسسي والتنموي، إضافة للآفاق والمجالات الاجتماعية التي ارتادها، كما أسلفنا.
وهنا حقيقة قد يكون من المفيد تجليتها، وهي أن نظام الوقف يختلف عن سائر موارد التكافل الاجتماعي في الإسلام، من صدقات وزكوات وكفارات ونذور ووصايا ومواريث... إلخ؛ لأن هـذه الموارد في معظمها تمثل علاجات إغاثية استهلاكية آنية موقوتة، وقد يكون نطاقها في كثير من الأحوال فرديا، أما الوقف فهو منذ البدء كان نزوعا إلى بناء النظام المؤسسي التنموي الإنتاجي دائم النفع والعطاء والتأصيل والتأسيس للعملية التنموية الاجتماعية، لدرجة يمكن معها وصفه بمؤسسة التنمية المستدامة في المجالات جميعا.
بل لعلنا نقول: إن نظام الوقف، بشروطه وأحكامه وثمراته ومجالاته، يعتبر عملا مؤسسيا، فهو مؤسسة المؤسسات جميعا، أو «أبو» المؤسسات جميعا.. فالدور التنموي الذي اضطلع به الوقف في التاريخ الإسلامي كان شاملا لكثير من مرافق الحياة ولا يزال.. فلقد كان يقوم بدور الكثير من الوزارات والمؤسسات اليوم، من مثل وزارة الصحة، وزارة التربية والتعليم، وزارة السياحة، وزارة الشئون الاجتماعية، وزارة الدفاع، ووزارات الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد والتوجيه، ومؤسسات الخدمة الاجتماعية... إلخ.
[ ص: 17 ]
وقضية أخرى تستحق التوقف عندها والنظر في بعض أبعادها، وهي البعد النفسي للوقف، إضافة إلى البعد الاجتماعي والاستثماري.. فالوقف يعتبر إحدى الوسائل والأبواب، التي تجعل المسلم بفعله هـذا من أطول الناس أعمارا، وأكثرهم كسبا للخيرية وامتدادا وارتقاء وثوابا،
( فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية (الوقف) أو علم ينتفع به (من ثمرات الوقف على العـلم والتعليم) أو ولد صالح يدعو له (من ثمرات الفعل التربوي) ) (أخرجه
مسلم ) .
فعمر المسلم يصبح طويلا، وعطاؤه ممتدا، ونفعه مستمرا، فلا يقاس عمره بعدد السنين والأيام المحدودة، بل يمتد عمره باستمرار ذكره ونفعه حتى يوم القيامة.. وأكثر من ذلك، فالمسلم إنسان خالد بإسلامه وأعماله، فهو خالد بإيمانه وإسلامه؛ لأنه يؤمن بكل النبوات، من لدن
آدم ، سبحانه وتعالى ، وحتى النبوة الخاتمة، التي من لوازمها الإيمان بالأنبياء جميعا:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=136 ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) (البقرة:136) ،
فثواب الإيمان وثمرة الإيمان بالأنبياء تاريخيا متحصلة للمسلم؛ وممارسته لتعاليم الرسالة الخاتمة، التي اجتمعت إليها أصول الرسالات جميعا، هـو استجابة وممارسة لتعاليم الأنبياء جميعا، بكل ما يترتب عليها من ثواب.
[ ص: 18 ]
فالمسلم يمتلك عمقا بعيدا، ضاربا في جذور تاريخ النبوة الأولى، وعمرا مديد الأثر، وذلك باستمرار عطائه ونفعه حتى يوم القيامه.. وهو خالد في الحياة، وأطول الناس أعمارا، وأكثرهم ثوابا وبقاء وعطاء، وهذا بعض أبعاد نعمة الإسلام والإيمان، التي تقتضي الشكر الدائم.. فالإنسان بالإسلام ليس عرضا زائلا، فقد يموت الشخص ويغيب ولكن تبقى الشخصية حاضرة ممتدة بآثارها، تفيض بعطائها ونفعها المستدام.
وقضية أخرى، وهي أن الأصل في نظام الوقف، أو رسالة الوقف العالمية، أو فقه الوقف، أو خطاب الوقف أن يستوعب العالم وحركته الاجتماعية، ويواكب تنمية الواقع الإسلامي الاجتماعية والاقتصادية بالدرجة الأولى، ومن ثم يستوعب العالم بكل تحركاته؛ يفيد ويستفيد من التجارب والمستجدات، ويكون قادرا على تطوير أوعية الوقف وآفاق فعله الاجتماعي؛ ومجالاته الاستثمارية لتعظيم دوره؛ لأن المجتمعات لا تتوقف، فهي في حركة مستمرة ونمو دائم، وقد تأخذ حركة المجتمعات مسارات خطرة إذا لم تقدم لها الحلول والأوعية الشرعية والمقنعة.
والاجتهاد روح الوقف الممتدة، ومحور حركته.. لذلك فإن توقف الاجتهاد حول آليات تثمير الوقف، لتعظيم دوره الاجتماعي، وتوقف الاجتهاد عن إبصار آفاق الفعل الاجتماعي، وإبداع أوعية تتلاءم مع وجهة المجتمع وحركته وحاجاته، سوف يؤدي إلى الجمود والتوقف بالمجتمع عند حدود الاجتهادات السابقة، وفي ذلك ما فيه من الجمود والتوقف ومحاصرة النمو، وهذا ضد طبيعة الأشـياء والحياة والأحـياء، الأمر الذي ينتهي
[ ص: 19 ] إلى العزلة والخروج من المجتمع، وتركه ينفلت ويسـير بدون ضوابط شرعية، أو على الأقل يسمح لـ (لآخر) بفكره ومشاريعه بالامتداد في فراغنا.
وقد تكون الإشكالية الذهنية أو الثقافية أننا ما نزال نبدي ونعيد، ونوجز ونختصر ونشرح، وننقل آراء أئمة المذاهب دون زيادة أو نقصان من كتاب إلى آخر، ونقتصر في ذلك على إيراد أحكام الوقف والخلاف المذهبي في بعض التفاصيل والدلالات اللغوية، ونحن نحسب أننا نحسن صنعا، دون أن ندري أن كل ذلك إنما يقع في إطار الوسائل والأدوات المعينة على تسديد مسيرة الوقف واستجلاء أحكامه وبناء الملكة على توليد رؤية قادرة على بناء فعله الاجتماعي بشكل رشيد.
أما في مجال مأسسة الوقف وتعظيم رسالته وتثمير أمواله وارتياد آفاق متطورة ومتوازية مع حركة المجتمع، ومجالات استثماراته وخططه التنموية، فنستطيع أن نقول: إنه على الرغم من الوعي المعاصر برسالة الوقف ودوره وإدراك أهميته والتحديات والمحرضات المتولدة من التقدم، والقفزات النوعية التي حققـها (الآخر) غير المسـلم في مجال الوقف وآفاق فعله، فإن النتاج ما يزال متواضعا، والركود والبطء ما يزال مسيطرا، والتخصص في مجال الإدارة وتقسيم العمل وتقدير التخصص وآليات الاستثمار والاجتهاد في توليد الأحكام لم يأخذ بعد بعده المطلوب.
لذلك نقول هـنا: إن الكتب والمؤلفات المعنية في أمر الوقف لا تخرج في عمومها عن أن تتكلم عن عظمة الوقف ودوره التاريخي ومؤسساته التاريخية في المجالات المتعددة، وقد يشكل ذلك في كثير من الأحيان وسيلة لمعالجة
[ ص: 20 ] مركب النقص والعجز، حيث نستغني بذلك عن امتلاك الفقه المطلوب لفعله في الحاضر ورسم خططه المستقبلية، وقد لا يجد الإنسان في معظم المؤلفات خطوة متقدمة، ولو حتى طرح قضية للمفاكرة والمناقشة في محاولة لإحداث نقلة أو ممارسة تحريك للواقع الراكد.
ولعل من المستغرب توقف الاجتهاد، وأمر الوقف وهدفه قائم على تحقيق المصالح التي تستدعي المزيد من الاجتهاد وتوليد الأحكام التي تحقق تلك المصالح وتسهم بتعظيم دور الوقف - وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله، كما يقول
ابن القيم ، رحمه الله - على خلاف الأمر في فقه العبادات، الذي غالبا ما يقـوم على التلـقي والتوقيف وعـدم التطـور، كما يشمل سائر أحكام الحلال والحرام في الأطعمة والأشربة التي تتحرك ببطء، فالوقف وسائر فقه المعاملات المبنية على تحقيق المصالح.
ولعل هـذا الأمر واضح في المعاملات، حيث مجاله رحب، والباب واسع جدا للاجتهاد والتوليد لتحقيق المصالح، لذلك نرى آيات وأحاديث الأحكام الناظمة له هـي ذات دلالات عامة أقرب ما تكون للقيم الضابطة للمسيرة أكثر من كونها أحكاما جزئية تتدخل في كل شيء، الأمر الذي دعا بعض الفقهاء إلى الرأي أن المصلحة في المعاملات مقدمة على النص؛ على عكس العبادات وأحكام الحلال والحرام، لأن مبتنى المعاملات المصالح، والانطلاق إلى الاجتهاد في تحقيقها سريع وبابه واسع جدا.
ونحن لسنا مع هـذا الرأي؛ لأن النصوص إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، لذلك لا نرى تقابلا بين المصلحة والنص، فالنص إنما جاء
[ ص: 21 ] لتحقيق المصلحة، فكيف يناقضها؟ لكن الإشكالية في الاجتهاد والتحقق من توفر شروط محل التكليف، ومن ثم تنـزيل النص على محله.
وتبقى الإشكالية أن نقابل هـذه الحركة المعاملاتية والاجتماعية الدينامية بالجمود وإغلاق الاجتهاد (!!) .. فالاجتهاد بالتوقف عن الاجتهاد بإطلاق أمر خطير، وفي اعتقادي أن الذي يستطيع تقدير المصالح والمفاسد هـم أهل الاختصاص في الشعب المعرفية المطلوبة وليسوا حملة وحفظة النصوص، بل فقهاء النص (كمرجعية) وفقهاء الاستثمار (كتنمية) وفقهاء الإدارة (كضبط وربط وسلاسة حركة) .
لذلك نرى أنه لا بد من مزيد من الاجتهاد في إشكالية «استبدال الوقف» وبيان حدود وضوابط جواز ذلك، كما ذهب إليه بعض الفقهاء؛ لأن فيه مصلحة، وفيه تعظيما للوقف، والحصول على قدر أكبر لموارده وتحقيق أهدافه، وعدم الجمود على الحال القديمة وقد تغيرت الدنيا، الأمر الذي قد ينتهي بالوقف إلى مؤسسة متخـلفة عاجزة عن النمـو بدل أن تكون قادرة على التنمية، وبذلك يفقد الوقف وظيفته الاجتماعية والاقتصادية أما الثوابية فأمرها إلى الله؛ لأن الثـواب على قدر العطاء، وقد لا تكفي في ذلك النوايا الطيبة، فالعمل الحسن هـو الذي يجمع بين الإخلاص (النية الخالصة) والصواب (الخطط والأدوات المناسبة) .
ولست أرى مع بعض الفقهاء أن شرط الواقف يمثل قيدا يحكم الحركة ويعطل الاجتهاد، وإنما يمثل الرؤية التي تحدد التوجه وتعين المقصد، وتفسح المجال للاجتهاد في وسائل تحقيق هـذا المقصد، لذلك فإبداع الوسائل
[ ص: 22 ] وتطويرها وإبصار الآفاق البعيـدة لشرط الواقف لا يشكل أي عدوان عليه أو يسقطه، بحال من الأحوال.
وليس ذلك فقط، وإنما لا بد أيضا من الاجتهاد في طبيعة المال بعموم وفقه مقاصد الموقوف، بين وقف الرقبة ووقف المنافع، وبحث مسألة التأبيد والتوقيت بالوقف، فكثير من الناس يرغب في أن يقف ساعات من اختصاصه لفعل الخير كالأطباء والحرفيين؛ وكثير من أصحاب الأراضي قد يرغبون في إيقاف أراضيهم لفترة زمنية محدودة أو وقف بعض المحصول السنوي لبساتينه وثمارها؛ وكثير من أصحاب مواقف السيارات المأجورة يرغبون في إيقاف مواقفهم بلا مقابل وقت صلاة الجمعة مثلا أو أثناء التجمعات والاجتماعات الخيرية؛ وكثير من أصحاب المعامل يريدون أن يقفوا جزءا من إنتاجهم على الفقراء؛ وكثير من الموظفين يريدون أن يوقفوا قسطا من مالهم شهريا ولو بقدر بسيط... وهكذا.
فكيف نجتهد ونؤسس ونؤصل ليسع الوقف فعل هـؤلاء جميعا، وغيرهم؟ وما الضرر الشرعي في أن نفيد من تطور هـذه الوسائل عند (الآخر) الذي يوقف أغنياؤه على الجامعات والمعاهد والأبحاث العلمية ومعالجة الأمراض واكتشاف الأدوية وتقديم البعثات الدراسية في تخصصات مطلوبة لنهضة الأمة؟
فالجمود والإصرار على الواقع، وحجر الوقف على الأغنياء غالبا، وقصره على الفعل الاستهلاكي، وعدم استشراف آفاق إنتاجية تنموية يتناقض - فيما نرى - مع رسالة الوقف وطبيعته التنموية.
[ ص: 23 ]
وقد يستغرب، أو لا يستغرب، أن أول وقف خيري عرف في الإسلام هـو وقف النبي صلى الله عليه وسلم لسبع حوائط بساتين في
المدينة كانت لرجل يهودي اسمه مخيريق.. يقول
ابن اسحاق في السيرة النبوية لابن هـشام (ط3، 1971م، 2/164) : « وكان من حديث مخيريق، وكان حبرا عالما، وكان رجلا غنيا كثير الأمـوال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد ، وكان يوم أحد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق.. قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم.. ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هـذا اليوم فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يقول: «مخيريق خير يهود».. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله.. فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها».
وفي هـذا ما فيه من الأبعاد والآفاق، ومحاولات الاجتهاد لمصادر الوقف وموارده وعالميته، والمشاركة فيه.. فاليهودي قاتل في أحد وهو على يهوديته، وأوقف للخير المستمر، ومات على يهوديته (الوقف
للشيخ مصطفى الزرقا ) ، ونحن ما نزال نحاصر أنفسنا بما لم يحاصرنا الله به.
وهنا قضية قد تكون ملتبسة في بعض الأذهان، وهي أن الوقف هـو ملكية عامة، أو مال أوقف للنفع العام، وبهذا يمكن أن يعتبر نظام الوقف في الإسلام أول نظام سعى إلى إقامة الملكية الجماعية أو تخصيص ملكية لصالح المجتمع، في مقابل الملكية الخاصة بالأفراد، وشرع لهذه الملكية أحكاما وضوابط
[ ص: 24 ] شرعية خاصة بها، قبل أن تولد الأفكار الاشتراكية.. لكن الإشكالية، بعد أن تطورت المجتمعات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية وشيوع المذاهب الاشتراكية، تعالت الأصـوات لإيجاد ملـكيات اجتماعية ذات نفـع عام، أو مرافق اجتماعية يشـترك في ملكيـتها الناس جميـعا، أو قطاعات عامة، أو أملاك دولة، بمعنى أن إدارتها وتثميرها إنما يكون بيد الدولة، على مختلف التسميات، فأدى الأمر إلى التباس في بعض الأذهان: أن الوقف هـو أحد أملاك الدولة، أو هـو يخضع، باعتباره ملكية جماعية أو عامة، لجميع القوانين التي تخضع لها الأملاك العامة، أو أملاك الدولة في جميع المعاملات، كسبا وتنمية وتمييزا وإنفاقا؛ لأنه يتقاطع أو يتشابه مع الملكية العامة... إلخ.
غير أن للوقف، كما هـو معلوم في مظانه من كتب العلم، شخصية اعتبارية خاصة، تحكمها أحكام شرعية في الكسب والصرف والتصرف، كما يحكمها ويوجهها شرط الواقف. فأشكال التصرف كلها، من جميع الوجوه، خاضعة للأحكام الشرعية ولشرط الواقف، وهي وإن كانت تشبه الملكية العامة من بعض الوجوه، من حيث النفع العام، إلا أنها تختلف عنها في ملكيتها، وأوعية استثمارها، وضوابط استثمارها وإنفاقها.
فالوقف مؤسسة خاصة، لها نظامها وأحكامها، وإن كانت تلتقي من بعض الوجوه مع أملاك الدولة في محصلة عطائها.
فالوقف عمل اجتماعي خيري وليس شركة استثمارية غايتها الربح فقط، وإنما السـعي إلى الربح وممارسة الاستثمار لتعظيم دور الوقف في الفعل الاجتماعي.
[ ص: 25 ]
وبعد:
فهذا الكتاب، هـو محاولة جديدة قديمة، وأحد الجهود المقدورة لتجلية تاريخ الوقف في مجال الرعاية الصحية، والعمل على استشعار دور الوقف، وتحقيق رسالته في الحياة الإسلامية المعاصرة، والإفادة من الماضي لرؤية الحاضر وارتياد مجالات جديدة، والاجتهاد في إقامة مشروعات وقفية تساهم بتوفير التنمية المستدامة، من خلال إبداع أوعية للاستثمار معاصرة ومنضبطة بالضوابط الشرعية، وتنشيط الهمم للاجتهاد وتوليد الأحكام الجديدة، التي تمكن من ارتياد آفاق وقفية أو أوعية وقفية جديدة، ومحاولات استثمارية متقدمة، والإفادة من تجارب (الآخر) الذي تطور نظام الوقف عنده وبلغ آفاقا تكاد تغطي جميع حاجات المجتمع، وتساهم في تنميته في شتى المجالات، وتحرك الهمم للبحث العلمي وتوفير متطلبات الحياة جميعا.
إن الإفادة من وسائل وآليات (الآخر) في الفعل الاجتماعي والبحث العلمي والتأمين الصحي والتكافل الاجتماعي هـو من المطالب الشرعية، فالحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها.
ونخشى أن نقول: إن الافتخار بالماضي دون القدرة على الإفادة منه لإصلاح الحاضر ورؤية المستقبل هـو نوع من تكريس التخلف، قد لا يختلف - من بعض الوجوه - عن حال من يتنكر للماضي بالمطلق، ويلغي ذاكرة الأمة وتجربتها الحضارية التاريخية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 26 ]
تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي جعل التحقق بالبر -والبر كلمة جامعة لكل خير- ثمرة للإنفاق والعطـاء من أحبّ الأموال وأكثرها لصوقا بالنفس،
فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=92 ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (آل عمران:92) ؛
لأن في ذلك ما فيه من اقتحام العقبة النفسية، ذلك أن اقتحام العقبات النفسية والإنفاق للوصول إلى تحرير الإنسان من العبودية وتحقيق التكافل الاجتماعي وتحريره من الفقر والعوز والتواصي بالتراحم هـو ثمرة التدين ومقصده،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=11 ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=12وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=13فَكُّ رَقَبَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=14أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=15يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=16أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=17ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) (البلد:11-17) ،
فالاقتصار على ممارسة الشعائر، دون أن تؤتي ثمارها في تنمية الحس الاجتماعي، وتحقق حكمتها في الفعل الاجتماعي، لا تبلغ بصاحبها درجة البر المطلوب،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177 ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (البقرة:177) .
فالمال حبيب للإنسان؛ لأنه يمنحه الإمكان والقدرة والسلطة والتفوق.. ونزعة التملك غريزية في جميع المخلوقات، وهي أوضح ما تكون في
[ ص: 5 ] الإنسان، فهي فطرة مطبوعة فيه،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=8 ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (العاديات:8) ، ويقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=19 ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=20وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ) (الفجر:19-20) .
وهذا النـزوع إلى حب التملك وممارسته طبعي وفطري -كما أشرنا- يخشى أن يستأثر بالإنسـان؛ ولعل الله سماه خيرا بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=8 ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) ليشير بشكل خفي نفسي داخلي إلى أهمية التنبه إلى وظيفة المال الاجتماعية وتوجيهه لفعل الخير، وترشيد ملكيته، بالالتزام بالضوابط الشرعية لكسبه وإنفاقه، سعيا لنيل البر، حتى لا يتحكم بالإنسان جريا وراء رغائب النفس وانشدادها إلى البخل
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16 ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هـُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (التغابن:16) .
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان - حيث الصيام ينمي الحس المادي بحاجة الآخر وارتفاع درجة التقوى - عندما يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، حتى إنه ليكون أجود بالخير من الريح المرسلة، التي لا تحول دونها حدود ولا حواجز، ولعل ذلك يجيئ ثمرة لنضح القرآن في النفس، ورسالته في تنقيتها من الشح والبخل والأثرة.
وبعد: فهذا «كتاب الأمة» التاسع عشر بعد المائة: «أوقاف الرعاية الصحية في المجتمع الإسلامي» للدكتور أحمد عوف محمد عبد الرحمن، في سلسلة
[ ص: 6 ] «كتاب الأمة»، التي تصدر عن «وقفية الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، للمعلومات والدراسات» (مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية سابقا) بدولة قطر، في سعيها المستمر لاسترداد الفاعلية، وإعادة الوعي بالمرجعية، وقراءة التراث وأدائه التاريخي قراءة قاصدة، للإفادة منه وتوظيفه لفقه الحاضر وتحديد الخلل الحاصل، واستشراف المستقبل والإعداد له، وتصويب المسيرة نحوه، وفك قيود التقليد الجماعي، التي باتت تنتقل من جيل إلى جيل بالتوارث الاجتماعي، والانتقال إلى الفضاء الفكري والفقهي، وفتح النوافذ والأبواب للحوار والمثاقفة والمفاكرة والمناظرة والمشاورة والاجتهاد والتجديد، وبناء العقل الناقد القادر على الانطلاق من المرجعية، وامتلاك القدرة على معايرة الواقع الذي عليه الناس، وتقويمه بقيم الوحي في الكتاب والسنة، وإشاعة ثقافة النقد، والتمحور حول شعار وشعيرة: «كل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم » وبذلك يصبح كل شيء، فيما وراء النص الصحيح في الكتاب والسنة، قابلا للنقد والنقض والتجاوز والإلغاء في ضوء معايير الكتاب والسنة.
فكل إنتاج بشري، مهما كان، يجري عليه الخطأ والصواب، لكن تبقى الإشكالية في كيفية تصويب آلية اعتماد المعيار، الذي يحدد الخطأ والصواب، في الموقع المناسب من قيم الوحي المعصوم، ونزع القدسية وصفة المعيارية عن كلام البشر، وكيفية تبديد مناخ الخوف من النقد، وفك الالتباس والخلط الواقع بين النقد والمناصحة، والتجريح والإساءة، والغيبة والازدراء.
[ ص: 7 ]
وقد يكون من الأهداف الرئيسة، التي ما تزال غائبة بأقدار متفاوتة، بناء الوعي بالعمل الجماعي، وتعميق ثقافة تقسيم العمل وتكامله، وتحقيق التيقن واليقين بأن طريق النهوض الوحيد هـو النفرة للفقه في تحقيق مقاصد الدين في المجالات المتعددة، ويأتي في مقدمة ذلك استشعار القائمين على أمر العمل الإسلامي من مؤسسات وجماعات وجمعيات ومنظمات أهمية حفظ الأمانة، التي تقتضي إيكال الأمر إلى أهله، وذلك بالعمل على استدراك التخصصات المتعددة في شعب المعرفة المتنوعة، وتيسير السبل لبلوغها، وتذليل العقبات من أمامها، وإتاحة الفرص المتكافئة أمام كل إنسان صاحب موهبة لتنمية موهبته والوصول إلى ما هـو مؤهل له، وعندها يتحقق فينا
( قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ) (أخرجه
البخاري ) ، واستشعار الخطورة والخوف أيضا من الإقدام على إحداث الخلل في مسيرة الأمة، وذلك بتضييع الأمانة التي حملها الإنسان؛ وضياعها إنما يكون ابتداءً بتوسيد «الأَمْر إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ»، لغير المؤهلين له والمتخصصين به، فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر من هـذه الإصابات والعلل، التي سوف تؤدي بلا شك إلى حدوث الخلل في نظام الحياة، وعند ذلك تؤذن بالاستبدال
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=38 ( يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (محمد:38) ، أو بتوقف الحياة وانتهائها وقيام الساعة.
( فعَنْ أَبِي هـُرَيْرَةَ ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) (أخرجه
البخاري ) ..
[ ص: 8 ] وإضاعة الأمانة تخرم الإيمان، وقد تأتي عليه من أصله،
( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «فلا إيمان لمن لا أمانة له ) (أخرجه
البيهقي ) .
فالأهلية ليست بالادعاء، والتطـاول، والتزييف، والزور والتزوير، وإنما تتحقق وتبنى بالخبرة والتخصص والعلم.
لذلك نقول في ضوء ذلك كله، وفي ضوء الواقع، الذي ما يزال التخلف ينمَّى فيه بضياع الأمانة: إنه لا بد من إعادة النظر بمصطلح «أهل الحل والعقد» ودلالاته، أو ما يمكن أن يسمى بأدوات وآليات تكوين «العقل الجمعي» للأمة، الذي يضبط تصرفاتها، ويرسم مساراتها، ويبصر تحدياتها، ويولد الحلول الملائمة لمشكلاتها والذي يمثله أهل الحل والعقد.
فلكل قضية مطروحة، ولكل إشكالية واقعة أو متوقعة بحسب موضوعها، ولكل خطة مستقبلية، ولكل قراءة للواقع، أهل حلها وعقدها من الخبراء والمتخصصين بعلمها، حتى لا تقاد الأمة إلى التهلكة بسببٍ من شيوع ثقافة الكذب والتضليل والادعاء وطرح عناوين طويلة عريضة دون التحقق بأية مضامين:
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=39 ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) (يونس:39) .
إن الوعي بأهمية استدراك التخصصات المتنوعة وفقهها في الشعب المعرفية والعلمية جميعا، القائمة منها والقادمة، واعتماد ذلك كأساس ومقوم وشرط في تشكيل أهل الحل والعقد، هـو سبيل الخروج وإعادة إخراج الأمة لاستئناف دورها الرسالي، وتخليصها من مركب النقص أمام ماضيها المتألق، وحاضرها المتخلف، وخصمها المتقدم.
[ ص: 9 ]
ذلك أن هـذه التخصصات المتنوعة هـي أشبه ما تكون بحواس الإنسان العضوية، التي تزوِّد العقل بكل ما حوله ومن حوله؛ وفي ضوء عطائها والتمييز بينها واختبار معطياتها يرسم العقل طريق الحركة، ويحدد نوع الاستجابة.
فالتخصصات في شعب المعرفة المتنوعة هـي حواس «العقل الجمعي» للأمة، ومصادره المعرفية، وهي السبيل لإعادة بناء النسيج الاجتماعي المتماسك، وتجديد شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تعمل على ربط إنجازات المجتمع بتخصصات أفراده جميعا، وإشاعة ثقافة التعاون والتكامل، وتنمية الشعور بالحاجة الماسة إلى (الآخر) وقيمته كلبنة في البناء الحضاري.
وقد تبدو الحاجة إلى التوضيح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هـذه الحاجة تتمحور حول أهمية التمييز بين مدلول «الثقافة العامة»، الذي يعني معرفة شيءٍ ما، أو قدرٍ ما، أو معرفةٍ ما، عن كل شأن من شئون الحياة ومعارفها، بالقدر الذي ييسر للإنسان الفهم والتكيف والتعامل، وبين مدلول «العلم والتخصص»، الذي يعني المعرفة الدقيقة والمحيطة بالأمر المطروح من كل جوانبه، والوصول به إلى مرحلة اكتساب ملكه الفرقان والبيِّنة، التي تشكل المخرج من الحيرة والضلال والتيه والالتباس، وتكشف حقيقة الأشياء، وتدرك كنهها وعواقبها ومآلاتها، وبكلمة مختصرة: ما لم نميز بين «الثقافة العامة» التي تعني معرفة شيء عن كل شيء، و «العلم» الذي يعني معرفة كل شيء عن الشيء المطروح، فسوف تستمر حالة التيه، ويستمر تضييع الأمانة، ويتعمق الخلل الكامن بسببٍ من استمرار إيكال الأمر إلى غير
[ ص: 10 ] أهله، حتى ولو تحققوا ببعض ثقافته؛ فمجرد التمكن من ثقافة الحنجرة واللسان لا يغني الأمة شيئا، إن لم يساهم بضياعها وبعثرة طاقاتها.
إنه لا بد لنا من العمل على تحقيق وتأصيل النقلة الذهنية حول هـذا الأمر، بحيث نقتنع تماما أن استدراك التخصصات والنفرة لها هـو فقه في الدين وسبيل إلى الثواب، أو هـو دين من الدين، وفرض من فروض الكفايات، بحيث يحس الإنسان الذي ينفر إليها ويتخصص فيها ويكفي الأمة والمجتمع ويسد حاجتها في هـذا الثغر، بأنه يتقرب إلى الله، بالتزام شرعه والاستجابة لأمره، وأن ممارسته لذلك هـي استزادة ثوابٍ لا يقل عن ثواب القائم الليل، الصائم النهار.
فإذا كان الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، القائم الليل، الصائم النهار، فأي قيام أعظم من العمل على كفاية الأمة كلها، وليس بعض أفرادها؟ وأي ثواب أكبر من ثواب من ينفر مجاهدا في طلب العلم للقيام بأمر الله وأداء حق الأمة وتحقيق كفايتها؟!
والوقف كفعل اجتماعي ووسيلة لبناء التكافل الاجتماعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، يأتي في مقدمة قضايانا وإنجازاتنا الكبرى، التي هـي بأمس الحاجة إلى استدراك التخصصات المعرفية في الإدارة، والاستثمار، والمسح الاجتماعي، وفقه الحكم الشرعي، وفهم الواقع العملي.
وما لم يدرك القائمون على أمر الوقف بخاصة هـذه الآفاق، وإذا لم يعها الواقفون أمام الثغور المفتوحة في جسم الأمة، فيخشى أن يفتقد الوقف رسالته وهدفه ودوره في التنمية والنهوض.
[ ص: 11 ]
إن انحسار وانكماش العقل الديني ومفهوم الفقه الديني ومفهوم العبادة في الذهنية المسلمة جاء نتيجة للعجز والتخلف وثمرة للانسحاب من مهام الحياة وحاجات العمران واستساغة العطالة والعجز، حتى أصبح ذلك مناخا قاتلا للقابليات والتوجهات نحو هـذه الثغور.. وليس ذلك فقط، بل دفع الكثير من الأفراد الذين تحصلوا على مثل هـذه التخصصات العلمية الغائبة عن الأمة إلى إخلاء الثغور العلمية والتكدس في ساحات الكسل والتكايا وممارسة تولية الأدبار لهذا النوع من الجهاد، والانسحاب من ممارسة التخصص ونفع الناس، إلى العيش عالة على (الآخر) ، وممارسة صناعة الكلام والضجيج واقتحام المواقع التي قد لا تكون لهم أهلية لها، ولا قبل لهم بها، وبذلك تتحلل المؤسسات الاجتماعية، وينحل عقد الأمة.
إن الإيمان بأن التخصصات هـي السبيل إلى الارتقاء والإبداع والعمل الجماعي وبناء التكافل الاجتماعي، هـو الكفيل بالخروج من حالة التخلف والعجز، وسوف ينتهي بالأمة إلى استرداد إقامة الأعمال المؤسسية، التي أصبحت اليوم، في العالم المتقدم، أشبه بمخابر للفكر والفعل الإنساني والتخطيط المستقبلي والنمو المستدام والتغيير الحضاري، لا تقل أهمية عن مخابر العلوم والبحوث الكيميائية والفيزيائية وسائر العلوم المادية التجريبية.
ويمكن القول، بكل الاطمئنان: إن الاستقراء والاستقصاء لشريعة الوقف وأحكامه، وفقهه، وتاريخه، وعطائه، يؤكد أنه كان يمثل رؤية مبكرة ومبكرة جدا للعمل المؤسسي، في مجتمع المسلمين، رافق مسيرة الحضارة
[ ص: 12 ] وساهم بصناعتها، ومكنها من بلوغ أهدافها، وسدد طريقها الطويل، ابتداءً من الإنسان البدائي في المجتمع الرعوي، ومرورا بالمجتمع الزراعي، فالمجتمع الصناعي، فالميكانيكي، ووصولا إلى المجتمع الإلكتروني المعـاصر، ولا عبرة بما لحق به من الجمود والتخلف والتوقف، وانكماش الرؤية، والدوران في حلقات مفرغة على يد إنسان التخلف، حيث اقتصر العمل على نقل تعاريفه وأحكامه وشروطـه ودوره التاريخي ورؤية المذاهب الفقهية، دون توليد ولو فكرة واحدة أو خطوة معاصرة واحدة، حتى لنكاد نبصر أن الكلام نفسه يتحرك من كتاب إلى آخر، ومع ذلك كله استطاع نظام الوقف، كعمل مؤسسي تنموي، التجاوز والصمود والامتداد والعطاء لكثير من مؤسسات المجتمع المدني اليوم.
بل لعلنا نقول: إن الوقف كان تاريخيا وراء استمرار وامتداد المجتمع الإسلامي بمؤسساته، الصحية والعلمية والتعليمية والإغاثية والتنموية، دون انقطاع، حتى عندما كانت تغيب الدولة أو تقصر عن القيام بوظائفها ويقع الانفصال بين السلطان والقرآن، ذلك أن الوقف كان ولا يزال مؤسسة القرآن وليس أحد مؤسسات السلطان، بل هـو مؤسسة المجتمع وليس مؤسسة الدولة، هـو مؤسسة المجتمع المدني، حتى ليمكن القول: بأنه حمى المجتمع الإسلامي في فترات الشدة من عدوان الدولة، وامتد بالاحتفاظ بخمائر النمو وتحقيق التواصل العلمي والثقافي والصحي والاجتماعي في مراحل القهر والفقر والاستبداد.
[ ص: 13 ]
ولعل الوضع الشرعي للوقف ونظام الوقف، وحصانته بشروط الواقف والأحكام الشرعية والفقه الخاص به، حال دون العدوان عليه والعبث بممتلكاته من قِبَل أعداء الإسلام وخصومه على حدٍ سواء؛ حتى في حالات التجمد التي لحقت بمؤسسات الوقف، لسببٍ أو لآخر، فمن الإنصاف أن نقول: إنه احتفظ دائما بالإمكان المؤهِّل للنمو والانطلاق حيثما تتوفر الظروف والشروط الملائمة.
ومن الأمور اللافتة حقا، أن النظر في تطوير مؤسسات الوقف ترافق مع عودة الوعي إلى الواقع الإسلامي، الذي أحدث التنبه إلى رسالة الوقف ودوره في الفعل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وحتى السياسي، سواء كان ذلك ناتجا عن الاستجابة للتحدي والعودة إلى «الذات» على مستوى الداخل، أو كان رد فعل وتحريض ومحاكاة لتطور أنظمة الوقف ومجالاته في دول الحضارة المتقدمة والمهيمنة.
لذلك بدأنا نلمح آثار هـذا الوعي في السعي لإقامة مؤسسات وقفية وبنوك وقفية، وإعلام وقفي، والدعوة إلى ندوات ومؤتمرات يشارك فيها اقتصاديون وإداريون وفقهاء للحوار والنظر والتطوير والارتقاء.
ولئن كان ذلك لم يتجاوز البدايات بعد، فإنه يحمل الكثير من بشائر الخير وبصائر المستقبل، شريطة أن نعيد النظر بجذور الذهنية، التي ما تزال تحكم تصرفاتنا، من الحماس والتحشيد والتعبئة ورد الفعل، والقفز من فوق القضايا، ومغادرة العمل قبل إكماله وإتقانه، والاضطراب في جدول
[ ص: 14 ] الأولويات، الأمر الذي يورث الفشل والضياع وتبديد الطاقات وبعثرتها، واختلاط الأمنيات بالإمكانيات، وطرح الكثير من القضايا والعناوين في غياب المقومات والإمكانات، بعيدا عن المرابطة في الموقع المختار وتوفير كل متطلباته وشروط نجاحه.
ولم نقصد من ذلك مصادرة الأحلام والأمنيات، ولا ممارسة التخذيل والإحباط، ولا محاولة بخس الناس أشياءهم، وإنما الذي نقصد إليه أن نستمر في طرح السؤال الكبير قبل الإقدام على أية قضية: ماذا أعددنا لها؟
ذلك أن الإشكالية عندنا كانت وما تزال، في عالمنا الإسلامي الكبير، أن المؤهلات والمقومات في الجماعات والتنظيمات والمؤسسات يحكمها الولاء والثقة والانتسـاب وليس العلم والتخصص والخـبرة والانتخاب، ولا مانع عندنا من تضييع الأمانة (إيكال الأَمْر إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ) ، حتى ولو كانت تتم تحت شعارات وشعائر إسلامية (!)
هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن الجرأة في طرح الكثير من العناوين والقضايا والمؤسسات الكبيرة، دون توفير المقومات المطلوبة لها، ودون أن تسبقها دراسات متكاملة وتخطيط دقيق، تتحول إلى صناعة ألقاب لأصحابها، ذات مضامين فارغة، حيث ما تزال الألقاب تفعل فعلها في المجتمعات المتخلفة، دون أن ندري أن هـذه الألقاب والعناوين توبخنا تاريخيا، وتجهض العمل المؤسسي من داخله، وتقلل ثقة الناس بجدواه، وتَحُول بينهم وبين التعاطي معه والحماس لرسالته، وتكرس التخلف والجنوح إلى العزلة وإيثار العمل الفردي، وفي ذلك ما فيه من مجافاة روح العصر، وتكريس
[ ص: 15 ] التخلف، ومحاصرة الموارد، والإخلال برسالة العمل المؤسسي، وفي مقدمة ذلك الوقف ودوره. ويصدق فينا قول الشاعر:
أمة قد فتّ في ساعدها تعشق الألقاب في غير العلا بغضها الأهل وحب الغربا
وتفدي بالنفوس الرّتبا
وقد لا نأتي بجديد عندما نقول: بأن العمل المؤسسي أصبح سمة العصر، وضرورة العصر، وحاجة العصر، وأصبحت له علومه ودراساته واختباراته ومعايير جودته وتخصصاته المتنوعة ومراكز بحوثه ودراساته، وكل يوم يحمل لنا إبداعا جديدا، وأسلوبا جديدا، وتطورا جديدا في الإدارة.. بل حتى الإدارة تنوعت وتقسمت إلى تخصصات، في الإدارة العامة وإدارة المشاريع، وأصبح لكل مشروع نمط في علم إدارته ومواصفات وتخصصات مديريه، عدا عن تطور آليات وأدوات وأوعية الاستثمار والمحاسبة والإحصاء والتخطيط ووسـائل دراسـات الجـدوى، التي تكاد في ضبطها وربطها لا تخطئ؛ لقد أصبحت بضبطها والتحكم بحركتها أقرب ما تكون إلى انضباط قوانين المادة، هـذا إضافة إلى ما ترافق مع ذلك من قوانين التعامل المالي والتحويلات وسندات القبض والاعتمادات المالية وتحديد نسبة المخاطر المتوقعة بدقة وكيفية تداركها ومعالجتها.
لقد أصبحت التحـويلات المالية تتم بلحظـة إلى كل أنحـاء العالم، بلا أحمال ولا أموال ولا أثقال، عن طريق ما يسمى بـ ( الفيزا كارد ) ، وبعضنا لا يزال مصرًّا على نظام المقايضة !!
[ ص: 16 ]
أما التخلف عن ارتياد آفاق واكتشاف مجالات للفعل الاجتماعي، والعمل الخيري والطوعي في شتى المجالات، ومحاولة إبداع أوعية سلسة لحركته، والإغراء بفعله، وإعفاء المواطن من الضرائب حال فعله، وتعدد خدماته وعطائه، فحدِّث ولا حرج؛ علما بأن نظام الوقف في الإسلام كان يمثل الرؤية الإنسانية المبكرة للعمل المؤسسي والتنموي، إضافة للآفاق والمجالات الاجتماعية التي ارتادها، كما أسلفنا.
وهنا حقيقة قد يكون من المفيد تجليتها، وهي أن نظام الوقف يختلف عن سائر موارد التكافل الاجتماعي في الإسلام، من صدقات وزكوات وكفارات ونذور ووصايا ومواريث... إلخ؛ لأن هـذه الموارد في معظمها تمثل علاجات إغاثية استهلاكية آنية موقوتة، وقد يكون نطاقها في كثير من الأحوال فرديا، أما الوقف فهو منذ البدء كان نزوعا إلى بناء النظام المؤسسي التنموي الإنتاجي دائم النفع والعطاء والتأصيل والتأسيس للعملية التنموية الاجتماعية، لدرجة يمكن معها وصفه بمؤسسة التنمية المستدامة في المجالات جميعا.
بل لعلنا نقول: إن نظام الوقف، بشروطه وأحكامه وثمراته ومجالاته، يعتبر عملا مؤسسيا، فهو مؤسسة المؤسسات جميعا، أو «أبو» المؤسسات جميعا.. فالدور التنموي الذي اضطلع به الوقف في التاريخ الإسلامي كان شاملا لكثير من مرافق الحياة ولا يزال.. فلقد كان يقوم بدور الكثير من الوزارات والمؤسسات اليوم، من مثل وزارة الصحة، وزارة التربية والتعليم، وزارة السياحة، وزارة الشئون الاجتماعية، وزارة الدفاع، ووزارات الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد والتوجيه، ومؤسسات الخدمة الاجتماعية... إلخ.
[ ص: 17 ]
وقضية أخرى تستحق التوقف عندها والنظر في بعض أبعادها، وهي البعد النفسي للوقف، إضافة إلى البعد الاجتماعي والاستثماري.. فالوقف يعتبر إحدى الوسائل والأبواب، التي تجعل المسلم بفعله هـذا من أطول الناس أعمارا، وأكثرهم كسبا للخيرية وامتدادا وارتقاءً وثوابا،
( فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ (الوقف) أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ (من ثمرات الوقف على العـلم والتعليم) أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (من ثمرات الفعل التربوي) ) (أخرجه
مسلم ) .
فعمر المسلم يصبح طويلا، وعطاؤه ممتدا، ونفعه مستمرا، فلا يقاس عمره بعدد السنين والأيام المحدودة، بل يمتد عمره باستمرار ذكره ونفعه حتى يوم القيامة.. وأكثر من ذلك، فالمسلم إنسان خالد بإسلامه وأعماله، فهو خالد بإيمانه وإسلامه؛ لأنه يؤمن بكل النبوات، من لدن
آدم ، سبحانه وتعالى ، وحتى النبوة الخاتمة، التي من لوازمها الإيمان بالأنبياء جميعا:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=136 ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (البقرة:136) ،
فثواب الإيمان وثمرة الإيمان بالأنبياء تاريخيا متحصلة للمسلم؛ وممارسته لتعاليم الرسالة الخاتمة، التي اجتمعت إليها أصول الرسالات جميعا، هـو استجابة وممارسة لتعاليم الأنبياء جميعا، بكل ما يترتب عليها من ثواب.
[ ص: 18 ]
فالمسلم يمتلك عمقا بعيدا، ضاربا في جذور تاريخ النبوة الأولى، وعمرا مديد الأثر، وذلك باستمرار عطائه ونفعه حتى يوم القيامه.. وهو خالد في الحياة، وأطول الناس أعمارا، وأكثرهم ثوابا وبقاءً وعطاءً، وهذا بعض أبعاد نعمة الإسلام والإيمان، التي تقتضي الشكر الدائم.. فالإنسان بالإسلام ليس عرضا زائلا، فقد يموت الشخص ويغيب ولكن تبقى الشخصية حاضرة ممتدة بآثارها، تفيض بعطائها ونفعها المستدام.
وقضية أخرى، وهي أن الأصل في نظام الوقف، أو رسالة الوقف العالمية، أو فقه الوقف، أو خطاب الوقف أن يستوعب العالم وحركته الاجتماعية، ويواكب تنمية الواقع الإسلامي الاجتماعية والاقتصادية بالدرجة الأولى، ومن ثم يستوعب العالم بكل تحركاته؛ يفيد ويستفيد من التجارب والمستجدات، ويكون قادرا على تطوير أوعية الوقف وآفاق فعله الاجتماعي؛ ومجالاته الاستثمارية لتعظيم دوره؛ لأن المجتمعات لا تتوقف، فهي في حركة مستمرة ونمو دائم، وقد تأخذ حركة المجتمعات مسارات خطرة إذا لم تقدم لها الحلول والأوعية الشرعية والمقنعة.
والاجتهاد روح الوقف الممتدة، ومحور حركته.. لذلك فإن توقف الاجتهاد حول آليات تثمير الوقف، لتعظيم دوره الاجتماعي، وتوقف الاجتهاد عن إبصار آفاق الفعل الاجتماعي، وإبداع أوعية تتلاءم مع وجهة المجتمع وحركته وحاجاته، سوف يؤدي إلى الجمود والتوقف بالمجتمع عند حدود الاجتهادات السابقة، وفي ذلك ما فيه من الجمود والتوقف ومحاصرة النمو، وهذا ضد طبيعة الأشـياء والحياة والأحـياء، الأمر الذي ينتهي
[ ص: 19 ] إلى العزلة والخروج من المجتمع، وتركه ينفلت ويسـير بدون ضوابط شرعية، أو على الأقل يسمح لـ (لآخر) بفكره ومشاريعه بالامتداد في فراغنا.
وقد تكون الإشكالية الذهنية أو الثقافية أننا ما نزال نبدي ونعيد، ونوجز ونختصر ونشرح، وننقل آراء أئمة المذاهب دون زيادة أو نقصان من كتاب إلى آخر، ونقتصر في ذلك على إيراد أحكام الوقف والخلاف المذهبي في بعض التفاصيل والدلالات اللغوية، ونحن نحسب أننا نحسن صنعا، دون أن ندري أن كل ذلك إنما يقع في إطار الوسائل والأدوات المعِينة على تسديد مسيرة الوقف واستجلاء أحكامه وبناء الملكة على توليد رؤية قادرة على بناء فعله الاجتماعي بشكل رشيد.
أما في مجال مأسسة الوقف وتعظيم رسالته وتثمير أمواله وارتياد آفاق متطورة ومتوازية مع حركة المجتمع، ومجالات استثماراته وخططه التنموية، فنستطيع أن نقول: إنه على الرغم من الوعي المعاصر برسالة الوقف ودوره وإدراك أهميته والتحديات والمحرضات المتولدة من التقدم، والقفزات النوعية التي حققـها (الآخر) غير المسـلم في مجال الوقف وآفاق فعله، فإن النتاج ما يزال متواضعا، والركود والبطء ما يزال مسيطرا، والتخصص في مجال الإدارة وتقسيم العمل وتقدير التخصص وآليات الاستثمار والاجتهاد في توليد الأحكام لم يأخذ بعد بُعده المطلوب.
لذلك نقول هـنا: إن الكتب والمؤلفات المعنية في أمر الوقف لا تخرج في عمومها عن أن تتكلم عن عظمة الوقف ودوره التاريخي ومؤسساته التاريخية في المجالات المتعددة، وقد يشكل ذلك في كثير من الأحيان وسيلة لمعالجة
[ ص: 20 ] مركب النقص والعجز، حيث نستغني بذلك عن امتلاك الفقه المطلوب لفعله في الحاضر ورسم خططه المستقبلية، وقد لا يجد الإنسان في معظم المؤلفات خطوة متقدمة، ولو حتى طرح قضية للمفاكرة والمناقشة في محاولةٍ لإحداث نقلة أو ممارسة تحريكٍ للواقع الراكد.
ولعل من المستغرب توقف الاجتهاد، وأمر الوقف وهدفه قائم على تحقيق المصالح التي تستدعي المزيد من الاجتهاد وتوليد الأحكام التي تحقق تلك المصالح وتسهم بتعظيم دور الوقف - وحيثما وجدت المصلحة فثمّ شَرْع الله، كما يقول
ابن القيم ، رحمه الله - على خلاف الأمر في فقه العبادات، الذي غالبا ما يقـوم على التلـقي والتوقيف وعـدم التطـور، كما يشمل سائر أحكام الحلال والحرام في الأطعمة والأشربة التي تتحرك ببطء، فالوقف وسائر فقه المعاملات المبنية على تحقيق المصالح.
ولعل هـذا الأمر واضح في المعاملات، حيث مجاله رحب، والباب واسع جدا للاجتهاد والتوليد لتحقيق المصالح، لذلك نرى آيات وأحاديث الأحكام الناظمة له هـي ذات دلالات عامة أقرب ما تكون للقيم الضابطة للمسيرة أكثر من كونها أحكاما جزئية تتدخل في كل شيء، الأمر الذي دعا بعض الفقهاء إلى الرأي أن المصلحة في المعاملات مقدمة على النص؛ على عكس العبادات وأحكام الحلال والحرام، لأن مبتنى المعاملات المصالح، والانطلاق إلى الاجتهاد في تحقيقها سريع وبابه واسع جدا.
ونحن لسنا مع هـذا الرأي؛ لأن النصوص إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، لذلك لا نرى تقابلا بين المصلحة والنص، فالنص إنما جاء
[ ص: 21 ] لتحقيق المصلحة، فكيف يناقضها؟ لكن الإشكالية في الاجتهاد والتحقق من توفر شروط محل التكليف، ومن ثم تنـزيل النص على محله.
وتبقى الإشكالية أن نقابل هـذه الحركة المعاملاتية والاجتماعية الدينامية بالجمود وإغلاق الاجتهاد (!!) .. فالاجتهاد بالتوقف عن الاجتهادِ بإطلاقٍ أمرٌ خطير، وفي اعتقادي أن الذي يستطيع تقدير المصالح والمفاسد هـم أهل الاختصاص في الشعب المعرفية المطلوبة وليسوا حملة وحفظة النصوص، بل فقهاء النص (كمرجعية) وفقهاء الاستثمار (كتنمية) وفقهاء الإدارة (كضبط وربط وسلاسة حركة) .
لذلك نرى أنه لا بد من مزيد من الاجتهاد في إشكالية «استبدال الوقف» وبيان حدود وضوابط جواز ذلك، كما ذهب إليه بعض الفقهاء؛ لأن فيه مصلحة، وفيه تعظيما للوقف، والحصول على قدر أكبر لموارده وتحقيق أهدافه، وعدم الجمود على الحال القديمة وقد تغيرت الدنيا، الأمر الذي قد ينتهي بالوقف إلى مؤسسة متخـلفة عاجزة عن النمـو بدل أن تكون قادرة على التنمية، وبذلك يفقد الوقف وظيفته الاجتماعية والاقتصادية أما الثوابية فأمرها إلى الله؛ لأن الثـواب على قدر العطاء، وقد لا تكفي في ذلك النوايا الطيبة، فالعمل الحسن هـو الذي يجمع بين الإخلاص (النية الخالصة) والصواب (الخطط والأدوات المناسبة) .
ولستُ أرى مع بعض الفقهاء أن شرط الواقف يمثل قيدا يحكم الحركة ويعطل الاجتهاد، وإنما يمثل الرؤية التي تحدد التوجه وتعيِّن المقصد، وتفسح المجال للاجتهاد في وسائل تحقيق هـذا المقصد، لذلك فإبداع الوسائل
[ ص: 22 ] وتطويرها وإبصار الآفاق البعيـدة لشرط الواقف لا يشكل أي عدوان عليه أو يسقطه، بحال من الأحوال.
وليس ذلك فقط، وإنما لا بد أيضا من الاجتهاد في طبيعة المال بعموم وفقه مقاصد الموقوف، بين وقف الرقبة ووقف المنافع، وبحث مسألة التأبيد والتوقيت بالوقف، فكثير من الناس يرغب في أن يقف ساعات من اختصاصه لفعل الخير كالأطباء والحرفيين؛ وكثير من أصحاب الأراضي قد يرغبون في إيقاف أراضيهم لفترة زمنية محدودة أو وقف بعض المحصول السنوي لبساتينه وثمارها؛ وكثير من أصحاب مواقف السيارات المأجورة يرغبون في إيقاف مواقفهم بلا مقابل وقت صلاة الجمعة مثلا أو أثناء التجمعات والاجتماعات الخيرية؛ وكثير من أصحاب المعامل يريدون أن يقفوا جزءا من إنتاجهم على الفقراء؛ وكثير من الموظفين يريدون أن يوقفوا قسطا من مالهم شهريا ولو بقدر بسيط... وهكذا.
فكيف نجتهد ونؤسس ونؤصل ليسع الوقف فعل هـؤلاء جميعا، وغيرهم؟ وما الضرر الشرعي في أن نفيد من تطور هـذه الوسائل عند (الآخر) الذي يوقف أغنياؤه على الجامعات والمعاهد والأبحاث العلمية ومعالجة الأمراض واكتشاف الأدوية وتقديم البعثات الدراسية في تخصصات مطلوبة لنهضة الأمة؟
فالجمود والإصرار على الواقع، وحجر الوقف على الأغنياء غالبا، وقصره على الفعل الاستهلاكي، وعدم استشراف آفاق إنتاجية تنموية يتناقض - فيما نرى - مع رسالة الوقف وطبيعته التنموية.
[ ص: 23 ]
وقد يُستغرب، أو لا يستغرب، أن أول وقف خيري عرف في الإسلام هـو وقف النبي صلى الله عليه وسلم لسبع حوائط بساتين في
المدينة كانت لرجل يهودي اسمه مخيريق.. يقول
ابن اسحاق في السيرة النبوية لابن هـشام (ط3، 1971م، 2/164) : « وكان من حديث مخيريق، وكان حبرا عالما، وكان رجلا غنيا كثير الأمـوال من النخل، وكان يَعْرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصِفَتِه وما يجد في علمه، وغلب عليه إلْفُ دينه فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أُحُد ، وكان يوم أُحُد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نَصْرَ محمدٍ عليكم لحقٌ.. قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم.. ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وعَهِد إلى من وراءه من قومه: إنْ قُتِلْتُ هـذا اليوم فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قُتِلَ. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يقول: «مخيريق خيرُ يهود».. وقَبَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالَه.. فعامّة صَدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها».
وفي هـذا ما فيه من الأبعاد والآفاق، ومحاولات الاجتهاد لمصادر الوقف وموارده وعالميته، والمشاركة فيه.. فاليهودي قاتل في أُحُد وهو على يهوديته، وأوقف للخير المستمر، ومات على يهوديته (الوقف
للشيخ مصطفى الزرقا ) ، ونحن ما نزال نحاصر أنفسنا بما لم يحاصرنا الله به.
وهنا قضية قد تكون ملتبسة في بعض الأذهان، وهي أن الوقف هـو ملكية عامة، أو مال أُوقف للنفع العام، وبهذا يمكن أن يُعتبر نظام الوقف في الإسلام أول نظام سعى إلى إقامة الملكية الجماعية أو تخصيص ملكية لصالح المجتمع، في مقابل الملكية الخاصة بالأفراد، وشرّع لهذه الملكية أحكاما وضوابط
[ ص: 24 ] شرعية خاصة بها، قبل أن تولد الأفكار الاشتراكية.. لكن الإشكالية، بعد أن تطورت المجتمعات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية وشيوع المذاهب الاشتراكية، تعالت الأصـوات لإيجاد ملـكيات اجتماعية ذات نفـع عام، أو مرافق اجتماعية يشـترك في ملكيـتها الناس جميـعا، أو قطاعات عامة، أو أملاك دولة، بمعنى أن إدارتها وتثميرها إنما يكون بيد الدولة، على مختلف التسميات، فأدى الأمر إلى التباس في بعض الأذهان: أن الوقف هـو أحد أملاك الدولة، أو هـو يخضع، باعتباره ملكية جماعية أو عامة، لجميع القوانين التي تخضع لها الأملاك العامة، أو أملاك الدولة في جميع المعاملات، كسبا وتنمية وتمييزا وإنفاقا؛ لأنه يتقاطع أو يتشابه مع الملكية العامة... إلخ.
غير أن للوقف، كما هـو معلوم في مظانّه من كتب العلم، شخصية اعتبارية خاصة، تحكمها أحكام شرعية في الكسب والصرف والتصرف، كما يحكمها ويوجهها شرط الواقف. فأشكال التصرف كلها، من جميع الوجوه، خاضعة للأحكام الشرعية ولشرط الواقف، وهي وإن كانت تشبه الملكية العامة من بعض الوجوه، من حيث النفع العام، إلا أنها تختلف عنها في ملكيتها، وأوعية استثمارها، وضوابط استثمارها وإنفاقها.
فالوقف مؤسسة خاصة، لها نظامها وأحكامها، وإن كانت تلتقي من بعض الوجوه مع أملاك الدولة في محصلة عطائها.
فالوقف عمل اجتماعي خيري وليس شركة استثمارية غايتها الربح فقط، وإنما السـعي إلى الربح وممارسة الاستثمار لتعظيم دور الوقف في الفعل الاجتماعي.
[ ص: 25 ]
وبعد:
فهذا الكتاب، هـو محاولة جديدة قديمة، وأحد الجهود المقدورة لتجلية تاريخ الوقف في مجال الرعاية الصحية، والعمل على استشعار دور الوقف، وتحقيق رسالته في الحياة الإسلامية المعاصرة، والإفادة من الماضي لرؤية الحاضر وارتياد مجالات جديدة، والاجتهاد في إقامة مشروعات وقفية تساهم بتوفير التنمية المستدامة، من خلال إبداع أوعية للاستثمار معاصرة ومنضبطة بالضوابط الشرعية، وتنشيط الهمم للاجتهاد وتوليد الأحكام الجديدة، التي تمكن من ارتياد آفاق وقفية أو أوعية وقفية جديدة، ومحاولات استثمارية متقدمة، والإفادة من تجارب (الآخر) الذي تطور نظام الوقف عنده وبلغ آفاقا تكاد تغطي جميع حاجات المجتمع، وتساهم في تنميته في شتى المجالات، وتحرك الهمم للبحث العلمي وتوفير متطلبات الحياة جميعا.
إن الإفادة من وسائل وآليات (الآخر) في الفعل الاجتماعي والبحث العلمي والتأمين الصحي والتكافل الاجتماعي هـو من المطالب الشرعية، فالحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها.
ونخشى أن نقول: إن الافتخار بالماضي دون القدرة على الإفادة منه لإصلاح الحاضر ورؤية المستقبل هـو نوع من تكريس التخلف، قد لا يختلف - من بعض الوجوه - عن حال من يتنكر للماضي بالمطلق، ويلغي ذاكرة الأمة وتجربتها الحضارية التاريخية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 26 ]