الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أولا: الوقف والتعليم

              يكشف الإطلاع على بعض حجج الأوقاف ووثائقها المختلفة عن وجود تنوع كبير في أغراض « الوقف » ومصارفه، كما يكشف عن تعدد المجالات التي توجهت إليها جهود الواقفين، وقاموا بوقف بعض أو كل أملاكهم عليها. و «الحياة العلمـية» في تاريخ الحضارة الإسـلامية ما كان لها أن تبلغ ما بلغت من العطـاء والعبقرية لولا «الوقف» الذي كان من وراء نهضة هـذه الحياة وتنميتها، وما حققته في تاريخ البشرية من إبداعات قادت إلى الحضارة المعاصرة. فلقد أسهم الوقف في إرساء دعائم ثقافية متنوعة في المجتمعات الإسلامية على مدى قرون طوال، من بينها: [ ص: 121 ] أ- الاستفادة من المساجد في التعليم، بإيجاد الزوايا وحلقات الدرس وتأسيس الكتاتيب (مراكز التحفيظ) .

              ب- تشييد المدارس، وتعيين المدرسين فيها، والإنفاق على طلبة العلم.

              ج- العناية بتوفير مصادر المعلومات في المدارس والمساجد والبيمارستانات وغيرها [1] .

              ولقد شارك في هـذه الأنماط الوقفية قطاع عريض من المجتمع: خلفاء وسلاطين وحكام وأمراء وأثرياء وعلماء ووزراء، وبعض من عامة الناس.

              وإن المتمعن في تطور التعليم على مر العصور الإسلامية، يجد أنه لولا «الوقف» لما نما التعليم والخدمات اللازمة للتفرغ له من طعام وسكن وكسوة وعلاج وخلافه. ففي غياب تمويل الدولة للعملية التعليمية في السابق، ولوجود الآلاف الكبيرة من العلماء البارزين والفطاحل، فإن التفسير الوحيد لذلك التنامي في مخرجات التعليم يكمن في توافر «أوقاف» كافية لدعم العملية التعليمية الواسعة والشاملة، وكذلك في تطوع العديد من العلماء لتعليم العلم النافع من خلال وقف أوقاتهم وعلمهم لذلك. وقد أوضح العديد من المؤلفين دور «الوقف» في العملية التعليمية وسائر خدماتها وما أدت إليه من نهضة تعليمية بارزة على مر التاريخ الإسلامي [2] [ ص: 122 ]

              لقد كانت الأوقاف هـي المصدر الوحيد لتمويل العملية التعليمية بكل متطلباتها، دون تدخل يذكر من جانب الولاة والحكام وأولي الأمر. ويؤيد ذلك أنه لم ينشأ ديوان حكومي رسمي للتعليم في مصر -مثلا - حتى بداية عهد محمد علي باشا ، الذي شرع في وضع اللبنات الأولى للتعليم الحكومي، بعد أن ظل طوال العهود السابقة جهدا أهليا وعملا من أعمال الجمعيات الأهلية لا الحكومية



              [3] .

              ولم يقتصر أثر الأوقاف على التعليم، وإنما تعدى الأمر إلى كافة جوانب العملية التعليمية ، فوثيقة الوقف كانت بمثابة اللائحة الأساسية للمؤسسة التعليمية، التي تضم الشروط الواجب توافرها في القائمين بالتدريس، ومواعيد الدراسة، وما إلى ذلك من التنظيمات الإدارية والمالية. أما المدرسون على اختلاف تخصصاتهم فقد اشترط كثير من الواقفين صفات خاصة يجب أن تتوفر في المدرس.

              ومن دراسة بعض النصوص يتضح أن الواقفين كانوا يشترطون في المدرس أن يكون من أهل العلم والصلاح، وأن يكون حسن الهيئة؛ لما لهيئة المدرس من تأثير كبير على شخصيته في نظر طلبته، وهو ما تعنى به التنظيمات الحديثة. كما كان الواقفون يشترطون كتبا معينة للدراسة، وهم [ ص: 123 ] بذلك يضعون الحد الأدنى من التعليم الذي يجب أن يلقنه المدرس لطلابه. وأن يكون المدرس قادرا على إلقاء الدروس. ولما كان وقت المدرس لا يتسع لإعادة شرح بعض الدروس لمن يحتاج إلى ذلك من الطلبة، فقد حرص الواقفون على ترتيب معيد أو أكثر بالمدرسة، ووظيفة «المعيد» في تلك العصور تشبه إلى حد كبير وظيفة المعيد في الكليات الجامعية في العصر الحديث، فهو طالب متقدم يساعد المدرس الذي يتبعه في المذهب ومادة التخصص، وكان على المعيد أن يجلس مع الطلبة قبل الدرس أو بعده لمساعدتهم على استيعاب دروسهم



              [4] .

              ومن المجالات التي يظهر فيها أثر الأوقاف الشروط التي يضعها بعض الواقفين والخاصة بعملية التعليم أو ما يمكن أن نسميه «مناهج وطرق التدريس». ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في إحدى الحجج: «... فيفسر الشيخ ما تيسر له تفسـيره من آيات القرآن الكريـم، وإن أتى بالتفسير مرتبا من أول القرآن العظيم إلى آخره فهو أحسن، ويأتي بذلك على مقدار ما تبلغه طاقته من الأيام والشهور والأعوام، يتداول فعل ذلك، ويفيد طلبته ما يجهلون من الإفادة، ويرشدهم إلى ما يحتاجون، ويبحث معهم فيما يعرض لأحد منهم من المباحث، ويفهمهم ما أشكل عليهم، أو يبين لهم ما خفي، ويحثهم على الاشتغـال ويرشـدهم إلى أحسن الأحوال، ويفعل في ذلك ما جرت به عادة المدرسين»



              [5] . [ ص: 124 ]

              ولما كانت الموارد المالية لأي مدرسة محدودة بريع الوقف، فقد حدد الواقفون أعداد الطلبة الذين يتلقون العلم في المدرسة، كما حددوا كذلك طلبة كل مذهب وطلبة التفسير وطلبة الحديث... وتحديد الواقف لعدد الطلبة له علاقة بحسن الأداء في العملية التعليمية من حيث كفاءة المدرس.

              وقد حددت وثائق الوقف أيضا مواعيد الدراسة بدقة تامة، حتى أصبح تقليدا معمولا به. فاليوم الدراسي يمتد من طلوع الشمس إلى أذان العصر، وعلى المدرس أن يختار الوقت المناسب حسب إمكانيات المكان وظروفه، على أن تقتصر فترة الدراسـة الفعـلية على ما يقرب من 3-4 ساعات. أما أيام الدراسة فكانت تتراوح بين 3-5 أيام من كل أسبوع حسب شرط الواقف، فقد حدد جوهر اللالا أيام الدراسة في ثلاثة أيام من كل أسبوع هـي السبت والأحد والأربعاء.. ونصت وثائق أخرى أنها أربعة، ونصت غيرها على أنها خمسة عدا يوم الجمعة. أما الأجازات السنوية فكانت شهور رجب وشعبان ورمضان والعشرين الأول من شوال من كل سنة، ويحضرون في الحادي والعشرين من شوال



              [6] .

              ولما كان الطلبة في تلك العصور يأتون إلى المدارس من جميع الأنحاء، فقد وفرت لهم الأوقاف المساكن التي يبيتون بها حتى توفر لهم سبل الراحة وتساعدهم على الانقطاع للعبادة وطلب العلم. واشتهرت عدة مدارس [ ص: 125 ] بجودة مساكنها، وتنافس الطلاب على سكناها، مثال ذلك المدرسة الظاهرية، التي أنشأها الظاهر بيبرس بالقاهرة، وكذلك المدرسة الصاحبية التي أسسها الوزير الصاحب بهاء الدين على بن حنا، فكان «.. يتنافس الناس من طلبة العلم في النـزول بها، ويتشاحنون في سكنى بيوتها، حتى يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الاثنان من طلبة العلم والثلاثة»

              [7] .

              جدير بالذكر أن أثر الوقف في التعليم لم يقف عند علم بذاته، وإنما شمل كل ألوان المعرفة والعلوم، يستوي في ذلك العلوم الدينية والشرعية والفقهية والعلوم البحتة والتطبيقية في الفلك والرياضيات والكيمياء والنبات والحيوان والطب والصيدلة والبيطرة والتمريض، والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الفلسفة والمنطق والاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ واللغات وغيرها... كما ساهم باقتدار في تنمية الصناعات التطبيقية مثل صناعة النسيج والسجاد والصناعات الخشبية وصناعة السفن وتجهيزها وصناعة الورق وما يلزم الكتب والمكتبات وصناعة الحلي والمجوهرات وأدوات الزينة والصناعات التعدينية والأسلحة وأدوات الزراعة والفلاحة وصناعة الجلود وصناعات الخزف والفخار.. وغير ذلك



              [8] .

              وقد تخرج من مدارس الأوقاف أغلب أعلام الحضارة العربية الإسلامية في مختلف التخصصات؛ مما يبرهن على أن الوقف كان له دور رائع وبارز في [ ص: 126 ] إحداث النهضة العلمية الشاملة في كل ميادين المعرفة الحضارية، التي حققت التكامل لكل جوانب الحياة.

              ولعل ما يثير الاهتمام أنه في معظم حـالات الوقف على طلبة العلم، ما كان يشترط على طالب العلم الفقر والحاجة والعوز، وإنما الباب مفتوح أمام كل الفئات ولجميع الفقراء والأغنياء للتزود من المعرفة والتعليم واكتساب الخبرة والارتقاء في سلم التعليم لأقصاه. ومعنى ذلك، تشجيع وترغيب المقتدرين على تلقي العلم واستيعابه مع التمكين والتدعيم لغير المقتدرين. ومن الغريب أن الوقف على طلبة العلم ما كان يقتصر في كثير من حالاته على المسلمين، بل شمل غير المسلمين، وقد أقر الفقهاء صحة ذلك شرعا، مما يعني فتح باب العلم أمام جميع أبناء المجتمع على اختلاف فئاتهم الاجتماعية؛ لينهلوا ما استطاعوا من العلم والمعرفة.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية