الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثانيا: آفاق المستقبل

              مفهوم الوقف في العالم العربي الإسلامي يستند بقوة إلى الخلفية الدينية التي يتوفر عليها المسلم.. فاستشعار المسلم لدوره في الحياة انطلاقا من العقيدة الإسلامية أدى إلى تلك الفعالية الهائلة لنظام الوقف في التجربة التاريخية في عالم المسلمين.

              غير أن ما يلحظ من تراجع في الفكر الإسلامي في توجيه القضايا الكبرى في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كان له مظاهر سلبية عديدة، منها ما رافق تلك الفترة من تراجع واضح للنظام الوقفي وتطبيقاته. [ ص: 170 ]

              إلا أن ما يحدث في عالمنا المعاصر من عودة فاعلة للفكر الإسلامي والرغبة العارمة في تقديم مشروع حضاري إسلامي، على الرغم من تباين المواقف تجاهه، رافقه أيضا اهتمام كبير بمسألتين تنطلقان من الخلفية الدينية للمسلم، ولهما آثارهما الاجتماعية والاقتصادية، وهما: الوقف والزكاة.

              معنى ذلك أن الإمكانات النفسية الكبيرة متوفرة لإعادة صياغة نظام الوقف وإطلاق فعاليته في المجتمعات المعاصرة العربية والإسلامية، التي تحتاج إلى إيجاد الأطر التشريعية التي تضمن للوقف ضوابطه من الضياع بشتى صوره.

              إن دعم الحركة الاجتماعية المستندة إلى الفكر الديني وتعزيز الفكر الإسلامي في بعده الاجتماعي كفيلان باستعادة دور فاعل للوقف



              [1] .

              وإذا كانت تجربة بعض الدول العربية والإسلامية تجاه إحياء دور الوقف، واهتمام الأوساط العربية والإسلامية ببعث الوقف، من خلال عقد المؤتمرات والندوات التي تستهدف وضع الخطط ورسم السياسات لتفعيل الوقف كصرح شامخ للعطاء والتكافل والتنمية وصناعة النهضة الإسلامية، فإن هـذه الجهود لا تزال في بداياتـها، لم تتبلور بعد في شـكل سياسات أو استراتيجيات متكاملة، ولم تخط بعد خطواتها الواثقة المتمثلة في صيغ وآليات محددة.

              وثمة أمر جدير بالتنويه، تفرضه المعالجة المستقبلية لدور الوقف، يتجلى في حتمية بناء الثقة بين المسـلم والدولة، ووجوب أن تقوم أجهزة السلطة في الدول الإسلامية بنـزع أسباب الشك والإحباط لدى المسلم، وإتاحة [ ص: 171 ] السبل أمامه بالسـلوك العلمي والعملي للمشاركة بالوقف في تحمل أعباء مجتمعه، وأن تزال الحواجز والعوائق بين المؤسسات الوقفية في الدول العربية والإسلامية، وأن تتمكن من أداء دورها التنموي، بحيث تكون الجهود الشعبية عونا لدور الحكومات ومضافا إليها، واستلهاما لمتطلبات جمهور الأمة وجماعة المسلمين



              [2] .

              ومن المهم أن تتلاقى وتتفاعل تلك الاستراتيجيات والخطط المرسومة في الدول العربية والإسلامية، وأن تتبادل هـذه الدول خبراتها، وأن تنحو نحو التكامل والتساند، حيث إن هـدفها في النهاية واحد، وهو إبراز الهوية الإسلامية للوقف، واحترام إرادة الواقفين، وتحقيق المقاصد الشرعية ومصلحة الأمة الإسلامية.

              إن التجربة الإسلامية العريقة في مجال الوقف الصحي والتي أشرنا إلى بعض جوانبها يمكن تكرارها اليوم، مع الأخذ في الاعتبار فوارق الزمن وتغير الآليات وتجدد الأسـاليب، حيث إن للوقف الإسلامي خصائص تجعله مناسبا للصرف على الخدمات الصحية في العصر الحالي، منها استمراريته، وثباته، وحريته، ومرونته، حيث يهدف في النهاية إلى تحسين وتعزيز الصحة بشتى الوسائل.

              ويستطيع الوقف الإسلامي أن يكون رافدا كبيرا للخدمات الصحية التي تقدمها الحكومة، بل إنه كان الأصل في الصرف على الخدمات [ ص: 172 ] الصحية، كما سبق بيانه، ويمكن عند إعادة دور الوقف على الخدمات الصحية لما كان عليه أن تتفرغ الإدارات الحكومية لتنظيم الخدمات الصحية، وللتنسيق بينها والإشراف عليها [3] .

              ومن المجالات التي يمكن أن يسهم بها الوقف في مجال الخدمات الصحية حسب إمكانيات الواقفين والتي سوف تخفف أعباء مالية كبيرة على ميزانية الحكومات وتحل كثيرا من المشكلات القائمة في مجال الرعاية الصحية ما يأتي:

              1 – وقف المستشفيات الكبيرة والصغيرة والمستوصفات، سواء العامة منها أو المتخصـصة، إما بتقديم المنشآت أو الأراضي الخاصة بها أو عمارتها أو تجهيزها وفرشها أو القيام بذلك كله، ثم تتولى الحكومة تشغيلها وصيانتها كما هـو الحال في وقف كثير من المساجد.

              2 – الوقف على تشغـيل وصيانة تلك المؤسـسات، سواء الموقوفة أو الحكومية، وذلك بتخصيص بعض العقارات أو المزارع أو المشروعات الاستثمارية للصرف على تلك المؤسسات الصحية، من مستشفيات ومستوصفات ومراكز علاجية ووقائية عامة أو متخصصة.

              3 – وقف الأجهزة الطبية التي تحتاجها المستشفيات والمراكز الصحية مثل جهاز غسيل الـكلى وأجهزة الأشعة المتطورة وغيرها مما قد لا يتوافر في كثير من المستشفيات رغم الحاجة المتزايدة إليها، وكذا وقف سيارات الإسعاف وغـيرها من الوسائل المسـاعدة التي تحتاجها المستشفيات والمراكز الطبية. [ ص: 173 ]

              4– الوقف على الأدوية، حيث يمكن تخصيص بعض الأوقاف لتوفير الأدوية وخاصة أدوية الأمراض المزمـنة، التي يحتاجها المريض فترات طويلة أو مدى الحياة مثل أدوية الضغط والسكر والقلب وغيرها.

              5– الوقف على كليات الطب والمعاهد الصحية، سواء وقف المنشآت أو تخصيص بعض الأوقاف للصرف على تلك الكليات والمعاهد ودعمها، وتوفير احتياجات طلابها وأساتذتها من الكتب والأجهزة وغير ذلك.

              6– الوقف على مراكز البحوث وهيئات البحث العلمي، وتخصيص أوقاف للصرف على المنح الدراسية في مجال الطب والصيدلة والتمريض.

              وهذه فقط أمثلة يمكن أن يضاف إليها الكثير مما يمكن أن يقدمه الوقف في مجال دعم مؤسسات الرعاية الصحية في البلاد الإسلامية.

              ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إنشاء لجان أو هـيئات تخصص لتنظيم وتنسيق هـذه الجهود واستقبال التبرعات واستثمارها، كما يمكن الاستفادة من تجربة بعض الدول الإسلامية في إنشاء صناديق وقفية تستقبل التبرعات الصغيرة وتنميها وتصرف من ريعها لدعم المؤسسات الصحية. كما يمكن أن يتم ذلك أيضا عن طريق التعاون المباشر والمستمر بين وزارة أو إدارة الأوقاف في كل بلد إسلامي وبين وزارة الصحة لتنسيق الجهود وتلبية الحاجات وترتيب الأولويات للاستفادة مما تقدمه الأوقاف لخدمة المجتمع في مجال الصحة. [ ص: 174 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية