الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أولا: حاضر الوقف

              لقد كان للوقف دوره الكبير في تاريخ المجتمعات الإسلامية، وبخاصة في إقامة المؤسسات التعليمية والصحية، وفي التنمية الاقتصادية، وكان له دوره في حفظ الهوية الثقافية الإسلامية.. لكن الوقف تراجع في الفترة الحديثة، وبخاصة حين صارت الدولة تتدخل في شئون الأوقاف، بصرف النظر عن الحجج، أي حين قلصت أو ألغت حرية إدارتها، وتولت هـي ذلك، وحين ألغى أكثرها الوقف الأهلي، وحين استولى بعضها على الأوقاف الخيرية وضمها إلى أملاك الدولة، مع إغفال ما خصصت له. وسعت الدولة منذ القرن الثالث الهجري للاستيلاء على الأوقاف أو الإشراف عليها، ثم ازداد تدخلها منذ القرن التاسع عشر الميلادي



              [1] .

              إن سعة العقارات الموقوفة، وعدم خضوعها للضرائب والرسوم، وضعف الإشراف أحيانا، وتردي وضع عقارات الوقف، وضآلة ريع [ ص: 163 ] الوقف، وتفاهة الأنصبة الفردية العـائدة على المستحقين، بسبب كثرة القضايا والمنازعات... كل ذلك كان وراء تدخل الدولة في الوقف



              [2] .. لذلك، كما يقول الدكتور محمد شوقي الفنجري : فإن «مجرد علم الواقف ببيروقراطيتها ، وأخطبوطها، فإنه يعزف تلقائيا عن إجراء هـذا الوقف الخيري، مما ينطوي على مصادرة للعمل الخيري وإجهاض للدوافع النبيلة، ومخالفة لإرادة الواقف»



              [3] .

              ولذلك كله نقـول: إن نظام الوقف في العالم العربي والإسلامي قد تلقى في العصـر الحـديث ضربة قاسية أنـهكت بنيانه، وقضـت على أسسه، وضيعت مفاهيمه، وغيبت أهدافه، وألغت نماذجه الراقية، وحولته إلى مجرد ثروة في الممتلكات المتفرقة، أغلبها معطل لا يستثمر، وإن استثمر فبأساليب غير مجدية، بحيث لم تعد إيراداتها تفي حتى للمجال الدينى الذي انحصر به الوقف



              [4] .

              ولئن برزت بعض العوامل التي لم تشجع الناس على الأوقاف، إلا أن الخيرية استمرت في نفوس الأمة المسلمة مصداقا ( لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة [ ص: 164 ] من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )



              [5] .

              وبالرغم من كثرة التطورات التي مر بها «نظام الوقف» وعمق التحولات التي طرأت عليه، وخاصة في ظل نمط «الدولة الحديثة»، إلا أنه ظل أمرا متعلقا بالإرادة الحرة لمؤسسيه من عامة الناس وخاصتهم، مع تمتعه بدرجة كبيرة من الاستقلالية والفاعلية التي كفلتها له أصوله الشرعية من ناحية، وأحكامه الفقهية «التنظيمية» من ناحية ثانية، وإطراء ممارسته في الواقع من جانب فئات اجتماعية متنوعة من ناحية ثالثة، وذلك في معظم فترات تاريخه، حتى بدأ هـذا النظام يضعف، وتضمر مؤسساته، ويفقد وظائفه، وتنحسر فاعليته.

              حدث هـذا في مجتمعاتنا في الوقت الذي شهدت فيه المجتمعات الأخرى، وخاصة أوروبا وأمريكا، نموا سريعا في الأعمال الخيرية والأنشطة التطوعية أو غير الهادفة للربح.

              في أوروبا الحديثة كثرت الأوقاف وتنوعت، وكان لفرنسا وبريطانيا الدور الرائد في هـذا المجال، فقد نصت القوانين فيهما على وضع الضوابط والقواعد للوقف. ففي القانون الفرنسي نوع من التصرفات المالية التي لها شبه بالوقف الذرى، كما أن الوقف الخيري قد عرف بأنه رصد شيء محدد من مال أو عقار على سبيل الدوام لعمل خيري خاص أو عام. أما العمل الخاص فيعود نفعه على الشخص الواقف نفسه كأن يكون ما وقفه صدقة على [ ص: 165 ] روحه بعد وفاته، ولكن العمل العام يعود نفعه على المجتمع بأن يكون الوقف من أجل إنشاء مدرسة أو مستشفى أو مساعدة جامعة



              [6] .

              ولقد سعت الجالية الإسلامية الفرنسية منذ بداية القرن العشرين، على صغر حجمها آنذاك، لتنظيم نفسها من خلال «جمعية الأحباس (الأوقاف) والحرمين الشريفين». ومع الزمن كثرت الجمعيات الإسلامية في صفوف الجالية الفرنسية واتسمت بالإقليمية، إلا أن العمل الاجتماعي شهد تحولات مهمة جدا، خاصة في السنوات الأخيرة



              [7] .

              وفي أمريكا الشمالية تأسس «الوقف الإسلامي» عام 1970م في إطار اتحاد الطلبة المسلمين، وأخذ ينمو نموا سريعا حتى أصبح أكبر هـيئة أوقاف للمسلمين خارج البلاد الإسلامية، بما يحوزه من ممتلكات، وبما يقدمه من خدمات، وقبل ذلك بما يناط به من أدوار ومسئوليات



              [8] .

              هذا، وتعد أمريكا اليوم من الدول التي تكثر فيها المؤسسات الخـيرية بصورة فرضت إنشاء مركز لهذه المؤسسات يحصيها ويتعقب أنشطتها.

              ومهما تكن الدوافع من وراء إنشاء المؤسسات الخيرية، فإنها تمثل تجربة فذة في تاريخ البشرية، جديرة بالتأمل والدراسة. [ ص: 166 ]

              وقد تطورت تلك الأعمال والأنشطة على أساس عدد من الصيغ التنظيمية التي من أبرزها: صيغة المؤسسة الخيرية، وهي في معنى الوقف الخيري الإسلامي، وصيغة الاستئمان، وهي أن يضع الشخص ماله أو جزءا منه في حيازة شخص آخر يسمى «الأمين» أو في حيازة أكثر من شخص يتكون منهم مجلس أمناء؛ ليقوم بتوظيف هـذا المال واستثماره لمصلحة شخص آخر أو أكثر من أولاد الموصي وذريته ويسمى «الاستئمان الأهلي» أو لمصلحة عامة يختارها الموصي ويسمى في هـذه الحالة «الاستئمان الخيري»، كذلك صيغة «الجمعية» وهي تتكون بعدد من الأشخاص، يحدد القانون الحد الأدنى لعددهم، بالإضافة إلى مواصفاتهم، يدفعهم إلى تأسيس الجمعية حب الخير وخدمة الآخرين.

              وليس ثـمة حدود فاصلة بين الصيغ المذكورة، وخاصة في الناحية العملية، فضلا عن أنها تحظى جميعا بالشخصية الاعتبارية في معظم الدول.

              ويتميز الوقف على تلك الصيغ بأنه يتمتع بالشخصية الاعتبارية دون إذن السلطة الإدارية. ولكن هـناك أوجه اختلاف أخرى بين نظام الوقف ومؤسساته وبين أنظمة العمل التطوعي في صيغها الحديثة المتعددة، ومن أهم هـذه الاختلافات هـو «النية» من الإنشاء أو ما يسمى «منبع النشأة» وتداعياته المعنوية والمادية. فبينما نبع «الوقف» من فكرة إيمانية دينية هـي فكرة الصدقة الجارية، نجد أن المنبع الأساس للعمل التطوعي وأنظمته المعاصرة هـو عبارة عن فكرة مادية دنيوية - في معظمها- تستهدف المصلحة [ ص: 167 ] الخاصة أو العامة. واختلاف منبع النشأة أمر مهم، والتداعيات المترتبة عليه في التطبيق العملي تؤكد هـذه الأهمية



              [9] .

              وبالرغم من أن مؤسسات الرعاية الصحية - بصفة عامة - قد حظيت باهتمام كبير من مؤسسي الأوقاف على مدى التاريخ الإسلامي، إلا أنه في العصر الحـديث لم تظـهر وقفيات ذات شأن في مجال إنشاء المستشفيات أو الإنفاق عليها، وتوفير العلاج للمرضى الفقراء.

              فمثلا في مصر



              [10] ، اقتصر الأمر على ما بقي من تلك المؤسسات الموروثة التي كانت تعرف « بالبيمارستانات » مع محاولات غير مؤثرة لتطويرها دون إنشاء المزيد منها، لدرجة أن الإقدام على تجديد «بيمارستان» واحد من قبل أحد الذين اشتهروا بإنشاء الأوقاف في عهد الخديوي إسماعيل - وهو راتب باشا - قد استحق أن ينوه به رفاعة الطهطاوي في معرض إشادته بإسهام الأهالي بوقفياتهم في أعمال المنافع العمومية



              [11] .

              وبعد تنظيم ميزانية «ديوان عموم الأوقاف»، عقب صدور لائحة سنة 1895م الخاصة بالإجراءات الإدارية لذلك الديوان، تبين أن قسم المصروفات بتلك الميزانية كان يحتوي على بند خاص بمصروفات «المستشفيات والعيادات الطبية».. وحتى سنة 1898م كان لديوان الأوقاف مستشفيان فقط هـما: مستشفى الأزهر، ومستشفى قلاوون. وبعد حوالي عشر سنوات بلغ عددها أحد عشر مستشفى وعيادة طبقا لميزانية الديوان في سنة 1912/1913م المالية. [ ص: 168 ]

              واستمرت وزارة الأوقاف المصرية في مباشرة مهمة الإشراف على تلك المستشفيات والإنفاق عليها من ريع الوقفيات التي كانت تديرها وتنفذ شروط واقفيها؛ بما في ذلك شروطهم الخاصة بمعالجة المرضى، ودعم المؤسسات الصحية، وتوفير الدواء مجانا للفقراء وغير القادرين.

              وإلى جانب مستشفيات وزارة الأوقاف وعياداتها في مصر ، كانت هـناك عيادتان في الأراضي الحجازية أيضا، إحداهما ملحقة بالتكية المصرية بمكة المكرمة ، والأخرى ملحقة بالتكية المصرية بالمدينة المنورة ، وظلت الوزارة تشرف عليهما وتمولهما من ريع أوقاف الحرمين الشريفين حسب شروط واقفيها بمصر، وذلك حتى سنة 1952م.

              ومع مطلع القرن العشرين، بدأ كبار الملاك من مؤسسي الأوقاف في الاهتمام بإنشاء المستشفيات الحديثة والإنفاق عليها من ريع وقفياتهم، فأقاموا حوالي ثلاثين مشروعا طبيا خلال النصف الأول من القرن العشرين، واشترطوا دوام الإنفاق عليها، كما اشترطوا معالجة المرضى الفقراء مجانا.

              هذا، ويعتبر مجال الرعاية الصحية من المجالات القليلة التي ظلت تجتذب بعض الواقفين فيما بعد سنة 1952م، ومن ذلك وقفيات المستشار الفنجري على مستشفى الأزهر، وبعض المستشفيات المتخصصة في علاج السرطانات والأمراض الخبيثة



              [12] .

              وفي الكويت نماذج لافته لذلك، فقد جاء في وثيقة وقف الجمعية الخيرية العربية بدولة الكويت عام 1913م ما يلي: «وقف كل من أولئك [ ص: 169 ] المذكورين هـذه الدار المحدودة، المشتملة على القسمين: البيت والعمارة، على الجمعية الخيرية العربية التي تألفت في الكويت في أوائل هـذه السنة ببركة سعيهم المشكور، ضوعفت لهم الأجور، على أن تكون مستشفى للمرضى، ومحلا لعيادة الطبيب المسلم..»



              [13] .

              وتشهد الحركة الوقفية المعاصرة، في التجربة الكويتية، تطورا سريعا يؤكد عودة المجتمع الكويتي والعربي والإسلامي إلى سنة الوقف كصيغة تستوعب وتلبي طموحه، فضلا عن أوقاف أخرى متنوعة من مختلف بلدان الوطن العربي والإسلامي. ونظرا لعدم وجود مرجعية علمية بشأن الأوقاف توفر الحجج والوثائق الوقفية الأصلية فإنه يتعذر اختيار نماذج نوعية أو عمل إحصاءات دقيقة تبرر ثراء مساهمة الأوقاف في حركة التنمية الصحية في المجتمعات العربية والإسلامية.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية