الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أولا: عمارة البيمارستان

              باعتبار البيمارستانات - أو المستشفيات - هـي أهم وأكثر الوسائل فاعلية في الرعاية الصحية، فلقد كان لها أوقاف تعولها، وكان الواقفون يسجلون الوقف في حجج مكتوبة - وينقشون بعض ما فيها على الحجارة، ويبينون فيها أن الغاية هـي تشييد البيمارستان والاعتناء بالمرضى، وكانت عائدات الأوقاف، المداخيل الأساسية التي تفي بحاجات البيمارستان من [ ص: 90 ] طعام ولباس ومحروقـات وأدوية ورواتب الأطباء والممرضين وبقية العاملين في المؤسسة [1] .

              ولقد تنافس الولاة والخلفاء والسلاطين والأمراء والوزراء في تشييد البيمارستانات ووقف الأموال عليها، كما وقف كثير من المسلمين الدور والأراضي لبناء المستشفيات وعلاج المرضى، بل دأب على تأسيسها الأطباء أيضا أو أشاروا إلى إقامتها..!!

              وعندما يقرر أحد الأشخاص، السابق ذكرهم، بناء بيمارستان فإنه يكلف أحد الأشخاص بالإشراف العام على العمارة والتأثيث، مثلما فعل هـارون الرشيد عندما أمر جبرائيل بن بختيشوع بإنشاء بيمارستان الرشيد في بغداد، وكما فعلت أم المقتدر عندما اختارت سنان بن ثابت، وكما فعل أيضا الملك المنصور قلاوون عندما اختار علم الدين سنجر الشجاعي لمباشرة عمارة البيمارستان المنصوري بالقاهرة.

              ولقد تطورت عمارة البيمارستانات خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية، فبين عمارة بيمارستان الرشيد ببغداد، وعمارة أرقى وأعظم بيمارستان في الإسلام ألا وهو البيمارستان المنصوري بالقاهرة عدة قرون من التطور والرقي الحضاري والمعماري.

              لقد تطور، عبر تلك العصور، نظام معماري ميز هـذه البيمارستانات الإسلامية، وطبعها بطابع خاص، نلخصه فيما يلي: [ ص: 91 ]

              أ- اختيار الموقع

              اختيار الموقع الذي سيبنى فيه البيمارستان من الأمور التي أولاها العرب اهتماما كبيرا عند بناء بيمارستاناتهم، حيث كانوا يشترطون أن يتمتع الموقع بهواء صحي.. ولقد ورد أن الرازي [2] عندما أراد اختيار موقع للبيمارستان العضدي، وضع قطعا من اللحـم في أماكن مختلفـة من بغداد، واختار الموقع الذي بقيت فيه قطعـة اللحم سليمة أكثر من غيرها في المواقع الأخرى. والقصة نفسها تكررت عند إنشاء البيمارستان النوري في حلب حيث أحضروا خروفا وقطعوه أربعة أرباع، وعلقوها بأرباع المدينة ليلا، فلما أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة الذي كان في هـذا القطر، فبنوا البيمارستان فيه [3] .

              وكان الموقع يختار أيضا قريبا من الأنهار أو منابع المياه، فالمستشفى العضدي، كان الماء يدخل إليه من دجلة، والمستشفى النوري بحلب كان به بركتا ماء يأتي إليهما الماء الحلو من قناة حبلان... وبيمارستان غرناطة له [ ص: 92 ] باحة داخلية في وسطها حوض عميق لقبول الماء من عينين، كل عين عبارة عن أسد جاث [4] .

              ب- مصدر الماء

              كان اهتمامهم في اختيار الموقع بقرب الأنهار ومنابع المياه يرجع إلى حرصهم على إيصال الماء الجاري إلى بيمارستاناتهم؛ بل في بعض الأحيان إلى جميع عنابر المرضى، كما كان الحال في بيمارستان مراكش، حيث أجريت فيه مياه كثيرة تدور على جميع العنابر، زيادة على أربع برك في وسط إحداها رخام أبيض [5] .

              ج- مخطط البيمارستان

              بغض النظر عن سعة البيمارستان، التي قد تختلف من بيمارستان إلى آخر، ومقدار الزخرفة ومساحة الحدائق الملحقة وعدد النوافير الذي قد يختلف أيضا، فإن البيمارستانات العربية الإسلامية كان لها مخطط أساس يحتوي على:

              1- أقسام خاصة بالرجال، وأخرى خاصة بالنساء منفصلة عن الأولى.

              2- قاعات مرضى حسب التخصصات، فهناك قاعات أو عنابر مخصصة للمرضى المصابين بالحمى، والأخرى للأمراض العقلية والنفسية، وغيرها لمرضى الرمد، وهكذا. [ ص: 93 ]

              3- عنابر خاصة للناقهين من المرضى إلى أن يتم شفاؤهم، تحكى لهم فيها الحكايات المسلية.

              4- غرف للأطباء للكشف على المرضى غير المنومين «عيادات خارجية».

              5- غرف لرئيس الأطباء وبقية الإداريين.

              6- قاعة محاضرات، يلقي فيها رئيس الأطباء دروسه ويجتمع فيها مع تلاميذه.

              7- مكتبة.

              8- مطبخ لطبخ الأغذية الصحية؛ حيث كان الغذاء أحد طرق العلاج الرئيسة، وكذلك لطبخ الأشربة وغيرها من المواد العلاجية.

              9- صيدلية لتحضير الأدوية.

              10- مخازن.

              11- قاعة لغسل الموتى.

              12- مصلى «مسجد».

              13- مراحيض وحمامات.

              بالإضافة إلى الباحات والأفنية والحدائق التي تحتوي على الأشجار والشمومات والمأكولات. وكثير من هـذه البيمارستانات كانت تحتوي على سكن للعاملين فيها [6] [ ص: 94 ]

              د- تأثيث البيمارستان

              عندما تنتهي عمارة البيمارستان يقوم ناظره بتأثيثه بما يحتاج إليه لإيواء المرضى ومعالجتهم والعناية بهم. وقد يختلف الأثاث من بيمارستان لآخر من حيث الفخامة، ولكنها اتفقت جميعها على توفير سرير بكامل تجهيزاته لكل مريض، بالإضافة إلى الأدوات الطبية اللازمة لكل تخصص، وأدوات تحضير العقاقير وتحضير الأغذية للمرضى المنومين.

              فهذا الرحالة الأندلسي ابن جبير يصف البيمارستان الصلاحي «البيمارستان العتيق» في القاهرة بقوله: «ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى» [7] .

              وجاء في وقفية السلطان الملك المنصور قلاوون للبيمارستان المنصوري «..ويصرف الناظر من ريع هـذا الوقف ثمن مـا تدعو حاجة المرضى إليه، من سرير حديد أو خشب على ما يراه مصلحـته ولحف محشوة قطنا وطراريح محشوة بالقطن أيضا... ثمن سكر يصنعه أشربة مختلفة الأنواع، ومعاجين وثمن ما يحتاج إليه لأجل ذلك من الفواكه والخماير.. رسم الأشربة وثمن ما يحتاج إليه من أصنـاف الأدوية والمعاجين والعقاقير والمراهم والأكحال والشيافات والذرورات والأدهان والسفوفات والدرياقات والأقراص» [8] [ ص: 95 ]

              وقال عبد الواحد المراكشي في وصف بيمارستان مراكش: « ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره مما يزيد عن الوصف ويأتي فوق النعت...» [9] .

              ويصف العيني في «عقد الجمان» إعادة صيانة وتأثيث البيمارستان العضدي: «وأقام الفرش واللحف للمرضى، وكان فيه عدة جباب فيها السكر الطبرزد والأبلوج واللوز والمشمش والخشخاش، وسائر الحبوب والبراني الصينية فيها العقاقير وأربع قواصر فيها الأهليلج الأصفر والكابلي والهندي وأربع قواصر تمر هـندي وزنجبيل وعود وند ومسك وعنبر والرواند الصيني في البراني والترياق الفاروقي وجميع الأفاوية وصناديق فيها أكفان وقدور كبار وصغار وآلات وأربعة وعشرون فراشا» [10] .

              كذلك، جاء في وثيقة أوقاف السلطان شعبان بن حسين على بيمارستان مكة المكرمة احتياجات البيمارستان السنوية كما يلي: «ثلاثمائة درهم ثمـن حطب تطبخ به الجريرة السـابقة (الدقيق والسمن) وغيرها مما يحتاج إليه المرضى بالبيمارستان المذكور في كل يوم، وأربعمائة وخمسين درهما في ثمن زيت الزيتون وما يقوم مقامه ليضاء به على الضعفاء بالمارستان في طول السنة. وأربعة آلاف درهم تصرف في ثمن لحم برسم الضعفاء في طول المدة وفي ثمن سكر وأشربة وغير ذلك مما يحتاج إليه في كل سنة. [ ص: 96 ]

              ويصرف للناظر على المارستان مبلغ خمسمائة درهم للإنفاق على ما تقتضيه مصلحة المرضى وما يحتاجون إليه من سكر وأدوية وأشربة وغير ذلك، وما يحتاج إليه المارستان من عبي ومكانس وأسطال وغيرها بحيث يستمر نفعه على الدوام والاستمرار» [11] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية