الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثالثا: دار شفاء الربع الرشيدي أنموذجا

              واحد من تلك المراكز العلمية والتربوية الوقفية، هـو مركز الربع الرشيدي، الذي أسسه وأوقفه رشيد الدين فضل الله الهمداني (648-718هـ) ، الطبيب والمؤرخ والوزير الإسلامي المعروف



              [1] .

              ولعل جميع المنشآت العظيمة للربع الرشيدي والأوقاف التابعة والميزانية الكبرى كانت تقوم على محور تعليم العلوم المختلفة، وبعبارة أخرى: كان الهدف النهائي لرشيد الدين فضل الله الهمداني من إقامة هـذا الصرح إشاعة العلم بين الناس، فقد كان محبا للعلم وذا علاقة وطيدة بالعلم والعلماء.

              وفي التعليم الطبـي - مثلا - كان أطباء دار شفاء الربع الرشيدي، كما هـو مدون في حجة الوقف يتناوبون في الدوام؛ ليبقى المستشفى مفتوحا طوال اليوم مع وجود طالب في الطب وصيدلي بشكل مناوبة، وكان على كل طبيب أن يعلم طالبين: أحدهما في الطب والآخر في الصيدلة.

              إضافة إلى ذلك كتب رشيد الدين إلى ابنه سعد الدين يقول: «خمسون طبيبا حاذقا استقدمناهم من أفضل بلاد الهند ومصر والصين والشام وباقي البلدان، وأمرناهم بالتردد المتناوب في دار الشفاء، ووضعنا أمام كل طبيب [ ص: 145 ] عشرة من المتعلمين والطلبة المتفوقين؛ ليعلموهم هـذا العلم الشريف، وقد بنينا للكحالين (أطباء العيون) والجراحين والمجبرين (أطباء العظام) الموجودين في دار الشفاء المنشغلين بوظائفهم مستوصفا قرب بستان رشيد آباد، أطلقنا عليه اسم: «معالجة المعالجين» وأسكنا أصحاب الحرف والصناعات الذين جئنا بهم من البلدان الأخرى في أزقة خاصة»



              [2] .

              ولقد كان موضع سكن الأطباء والطلبة في سرايا وحجرات خاصة، وكانت دورة التعليم في الطب خمس سنوات تبين للأستاذ أن الطالب بات قادرا على علاج المرضى وحده، يمنحه وطبقا للعادة الجارية إجازة لممارسة مهنة الطب. وكان على الطبيب أن يعالج كافة سكان الربع الرشيدي القاطنين أو المسافرين والعمال، وقرر الواقف أن يقدم العلاج مجانا يومي الاثنين والخميس لجيران الربع الرشيدي من أولاد الواقف والغلمان الذين أطلقهم، والفلاحين والمزارعين في أوقاف الربع الرشيدي، وإذا ما تدهورت صحة أحد المسافرين، فإن على المتولي أن يحدد مكان استراحته؛ ليتولى الطبيب معالجته، ومن ثم مواصلة سفره.

              كانت دار الشفاء أو المستشفى وحدة منفصلة ومجهزة في الربع الرشيدي باعتبارها كلية طبية، ذلك أن كل طبيب ممارس كان له خمسة عشر من الطلبة المتعلمين في علوم الطب. وكان أطباء دار الشفاء في الربع الرشيدي، كما يبدو من حجة الواقف والمكاتبات الرشيدية، على نوعين: مجموعة كانت تعمل طوال اليوم، والأخرى كانت تعمل نصف الدوام. [ ص: 146 ]

              أما الأطباء الدائمون فكانوا في الفروع المختلفة: طبيب عام ومساعد طبيب للأمراض العامة، وطبيب عيون، وعدد من الجراحين وأطباء العظام، ولم يكن لهؤلاء حق ممارسة مهنة الطب في خارج الربع الرشيدي أو الخروج منه بدون إذن المتولي.

              وكان على الطلبة مواصلة الدراسة على مدى خمسة أعوام في مجال الطب، وفي نهاية المطاف كان عليهم أن يحصلوا على شهادة تمنحهم حق ممارسة الطبابة، وإلا فإنه لم يكن من حقهم ذلك. وكان لزاما على الطلبة وأثناء ممارسة معالجة المرضى (بعد الظهر في أيام الاثنين والخميس) أن يكونوا مساعدين للطبيب، أي: أن يتلقوا في الصباح الدروس النظرية في الطب، ويمارسوا الطب عمليا بعد الظهر إلى جانب الطبيب الأستاذ، إضافة إلى ذلك هـناك معيد إلى جانب الأستاذ يساعده في التدريس ومعالجة المرضى وإعداد الأدوية [3] .

              وأما الأطباء غير الدائمين فهم يعملون نصف وقت الدوام، ويترددون على الربع الرشيدي، وكانوا يقومون بتدريس علم الطب، وربما كانوا يمارسون الطبابة أيضا. وأغلب هـؤلاء الأطباء كانوا يقدمون من مناطق بعيدة أو من بلاد أجنبية إلى مدينة تبريز ، وكان لكل منهم عشرة من الطلبة يعلمونهم الطب - في حين أن لكل طبيب دائم مقيم خمسة من الطلاب - وكان محل سكنهم في محلة خاصة باسم «زقاق المعالجين»، في حين يسكن المقيمون في محال الصالحية المجاورة للربع الرشيدي باعتبارها واحدة من [ ص: 147 ] أفضل محلات المدينة الرشيدية، يضاف إلى ذلك أنه كان لهؤلاء غرفة عمل خاصة في الربع الرشيدي، ولم يكن للأطباء غير المقيمين غرفة عمل في داخل الربع، وكان عددهم يبلغ خمسين طبيبا.

              وهكذا يبدو أن عدد طلبة الطب على الأقل خمسمائة طالب، إذا احتسبنا أن لكل طبيب غير مقيم عشرة طلاب، بغير الطلبة الذين كانوا يتلقون تعليمهم في داخل الربع.

              إن رغبة رشيد الدين وشغفه بهذا الفرع من العلوم يرجع إلى أنه كان نفسه طبيبا حاذقا معروفا ومشهورا، ناهيك عن أن خانات المغول كانوا على رغبة شديدة بالعلوم الطبية ويدعمونها ويحرصون عليها



              [4] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية