الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثالثا: دور الوقف في النهوض بعلم الطب عند المسلمين

              في كل حضارة من الحضارات القديمة بذرة بقاء هـي التراث العلمي الذي تتركه وراءها. وفي حضارات الأمم السابقة نجد البذرة الأولى لعلم الطب. وما نهضة الحضارة الطبية الحديثة إلا نتيجة تفاعلهما مع ما ورثته من الأمم القديمة من تراث علمي.

              ويقرر تاريخ إحصاء العلوم أن علم الطب كان له الفضل في ظهور علوم الطبيعة والنباتات والحيوان والكيمياء، فعن طريق التجارب الطبية استخرج الأطباء الأدوية لعلاج الإنسان من الأعشاب والمعادن والحيوانات؛ ولذلك قرر خبراء التعليم في العصر الحديث، في جميع دول العالم، أن تكون علوم الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية والفيزياء والنباتات والحيوان أساسا تبدأ به الدراسة في كليات الطب والصيدلة



              [1] .

              وعلم الطب من أقدم العلوم التي عرفها الإنسان منذ أن فكر في كيفية تسكين الدم في الجرح باللعاب، ومداواة لدغة الأفعى، وتخفيف لدغة النحل والزنبور بالطين والماء..

              وألجأته الحاجة إلى استعمال الحيل من السحر والشعوذة لعلاج ما يصيبه من أمراض في داخله دون أن يعرف لها سببا ظاهرا، حتى وصل إلى علم الطب التجريبي بطريق التجربة والملاحظة، فقد أدرك بعقله أنه محتاج إلى الصحة والعافية؛ لأنهما من مستلزمات الحياة السعيدة؛ والحاجة أم المعجزات. [ ص: 133 ]

              فظل علم الطب ينمو رويدا رويدا مع نماء العقل الإنساني، ويتطور بتطور المعارف الإنسانية من عصر إلى عصر، حتى وصل إلى ما هـو عليه الآن من علم وفن قائم على أسس علمية سليمة، استغرق الوصول إليها الآلاف من السنين.

              فعلم الطب فطري، نشأ بنشأة الإنسان الذي وجد نفسه مطالبا بحماية نفسه صحيا، ودفع الآلام والعوارض التي يتعرض لها وتضر بصحته.

              وتاريخ الطب هـو تاريخ الكفاح البشري منذ أن وجدت الحياة والأحياء على ظهر الأرض



              [2] .

              وينبغي علينا إذا ما تكلمنا عن «علم الطب» أن نضع نصب أعيننا دائما الخدمات الجليلة التي قدمها علماء المسلمين لهذا العلم، وكيف أنهم أنعشوه بل بعثوه بعد موت طويل، ثم طوروه وأضافوا عليه إضافاتهم ونظرياتهم الرائعـة. والحق أنـهم تربعوا على عرش الطب حقبة من الزمن لا منازع لهم فيه، وكانوا أساتذة أوروبا أكثر من ستة قرون



              [3] .

              يقول الفيلسوف البريطاني « هـ. ج.. ولز »: « لقد ازدهر علم الطب والتداوي عند المسلمين على حين كان الأوروبيون يجهلون هـذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه، إذا أن الكنيسة كانت قد حرمته عليهم وحصرت [ ص: 134 ] التداوي في زيارة الكنائس والاستشفاء بذخائر القديسين وبالتعاويذ والرقى التي كان يبيعها رجال الدين، فقد كان جراحو المسلمين يزاولون العمليات الجراحية بطريقة علمية فنية»



              [4] .

              لقد أثبت التاريخ أنه لم توجد أمة من الأمم في التاريخ الإنساني، تحولت حياتها من بداوة فطرية بسرعة مذهلة إلى أزهى وأرقى درجات الحضارة في مختلف العلوم والفنون كالأمة العربية، التي بلغت أوج الحضارة العلمية في مدة يسيرة، وأضاءت المعمور من الكون بنور العلم الذي ما يزال يصبغ الحضارة في العالم أجمع حتى الآن [5] .

              والمتتبع للأوقاف الإسلامية منذ بدايتها يجد أنها شملت الإنفاق على المصالح العامة والقيام بأمر ذوي الحاجة من أبناء الأمة، ثم توسعت رقعة تلك المؤسسة لتشمل دور العلم والعناية بها وإنشاء المساجد والملاجئ والمستشفـيات والمكتبات العلمية المتخصصة. وعمل الوقف على إثراء المجتمع الإسلامي بمؤسسات علمية وثقافية مختلفة الأشكال والصيغ والمناهج؛ مما كان له الأثر الكبير في بناء الحضارة الإسلامية وازدهارها وتنميتها



              [6] . [ ص: 135 ]

              وللأوقاف أثر كبير في النهوض بعلم الطب، والعمل على ترقيته؛ ذلك أن خدمات البيمارستانات لم تقتصر على معالجة المرضى؛ بل تعدى الأمر ذلك إلى تدريس الطب والاهتمام به، ويشبه هـذا إلى حد كبير ما يتم في كبرى المستشفيات في العصر الحديث من إلحاق كليات الطب بالمستشفيات حيث تتوافر الدراسة العملية، وممارسة الطب تحت يد الأساتذة. فقد نصت وثيقة وقف البيمارستان المنصوري على تعيين شيخ للاشتغال بالطب، يكون من بين أطباء البيمارستان، وخصص له الواقف مكانا محددا لإلقاء دروس الطب على طلبته. فنصت الوثيقة على أن: «... يصرف الناظر في هـذا الوقف لمن ينصبه شيخا للاشتغال عليه بعلم الطب على اختلافه، يجلس بالمصطبة الكبرى المعينة له في كتاب الوقف المشار إليه؛ للاشتغال بعلم الطب على اختلاف أوضاعه في الأوقات التي يعينها له الناظر... وليكن من جملة أطباء البيمارستان المبارك من غير زيادة عن العدد» [7] .

              وفي مجال الوقف على تعليم الطب، نجد أن وثيقة وقف حسام الدين لاجين، نصت على ترتيب مدرس للطب بالجامع الطولوني، والوقف على هـذا المدرس وعشرة طلبة يشتغلون بالطب، فنصت الوثيقة على أن: «..رجلا عارفا بطب الأبدان، مشهور المعرفة للأمراض والأدوية، وهو القاضي الأجل الصدر الريس العالم الفاضل شرف الدين محمد بن المرحوم شهاب الدين أحمد بن أبي الحوافر، الطبيب السلطاني، يجلس بالجامع المذكور [ ص: 136 ] لإقراء الطب وتعليمه، ويرتب له من الطلبة عشرة، يشتغلون بالطب، ويلزمهم المدرس بحفظ ما يجب حفظه في الطب وعرضه وتصحيحه، ويوضح لهم مشكله...»



              [8] .

              وجاء في وقفية الأمير عبد الرحمن كتخدا: «... على أن تكون المصطبة الكبرى بالبيمارستان المرقوم مرصدة لجلوس مدرس من الحكماء الأطباء عارفا بالطب وأوضاعه، متبحرا في فضله لكثرة عمله وإطلاعه، عالما بأسباب الأمراض وعلاجاتها، ولجلوس المشتغلين بعلم الطب على اختلافه»



              [9] .

              هكذا كان من أهم أهداف البيمارستان الرئيسة أن تكون هـناك مدرسة عليا لتخريج الأطباء وتدريبهم، مما يفرض على إدارة البيمارستان - تحقيقا لشروط الواقفين- أن:

              1- تخصص مكانا في البيمارستان لإلقاء رئيس الأطباء وبقية معلمي الطب محاضراتهم على طلبة الطب.

              2- تكلف رئيس الأطباء بالإشراف العام على التعليم الطبي والتدريب، يساعده رؤساء الأقسام المتخصصة.

              3- تنشئ مكتبة طبية متكاملة في البيمارستان، ويعين للعمل فيها الموظفون اللازمون



              [10] . [ ص: 137 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية