الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثامنا: وقفية السلطان قلاوون على البيمارستان المنصوري أنموذجا

              تعد الوثائق الوقفية بأشكالها المتعددة، كالوقفيات في الصكوك أو على جدران المباني، من أهم الموارد العلمية والتاريخية لمعرفة الحياة الحضارية الإسلامية. فنجد فيها بيانا لقيمة المنشأة، مادة وكيفية، إضافة إلى معرفة مصارف الوقف والجهات المستفيدة من ريعه، وتعد أيضا مصدرا كبيرا للمؤرخين والباحثين في خطط المدن، وللدارسين في الحياة الدينية والأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... وغيرها. [ ص: 112 ] ومن الوثائق الوقفية على البيمارستانات وعلاج المرضى المسلمين والتي تعبر في جلاء عن كثرة الأموال الموقوفة للرعاية الصحية، فضلا عن الدقة في تنظيم العمل وتحديد الاختصاصات، تلك الوثيقة الخاصة بالبيمارستان المنصوري، الذي أنشأة الملك المنصور قلاوون بالقاهرة سنة 683هـ .

              ويقع هـذا البيمارستان «بالقاهرة المحروسة بين القصرين بخط المدارس الكاملية والصالحية والظاهرية، رحم الله واقفيها، على يمينه السالك من المدرسة الكاملية إلى باب الزهومة، وفنادق الطواشي شمس الخواص مسرور، رحمه الله، وفندقي الحجر والفاكهة، والحريريين، والسقطيين، والشرابشيين وغير ذلك» [1] .

              ويشير الواقف في وثيقته إلى الغرض من وقف هـذا البيمارستان، ويعدد المنتفعين به، كما يعدد الأمراض التي تعالج فيه، مما يعطينا صورة واضحة عن مدى أهمية هـذا البيمارستان، والدور الذي قام به في تقديم الرعاية الصحية لمختلف فئات الشعب في العصر المملوكي.

              وهذا البيمارستان كان عبارة عن مستشفى عام لعلاج جميع الأمراض، وكان مقسما إلى قسمين: أحدهما للذكور، والآخر للإناث. وكل قسم مقسم إلى قاعات، حسب أنواع الأمراض، ولكل قسم ما بين طبيب أو ثلاثة حسب اتساع القسم وعدد المرضى، ولكل قسم رئيس يتولى الإشراف عليه. [ ص: 113 ]

              وتمدنا وثيقة وقف السلطان قلاوون بكثير من المعلومات عن هـذا البيمارستان الشهير، وعن الخدمات الجليلة التي تؤدى للمرضى فيه، والتي كان يصرف عليها من ريع الوقف، وأهم هـذه الخدمات: توفير الأسرة والفرش اللازمة للمرضى، وتوفير الأدوية والعقاقير على اختلاف أنواعها، وتوفير الغذاء المناسب لكل مريض حسب حالته الصحية، فضلا عن توفير الإضاءة، والماء العذب، وترتيب الفراشين والقومة الذين يتولون أعمال النظافة وغسل ملابس المرضى والقيام بمختلف مصالحهم التي يحتاجون إليها.

              كما يوضح لنا الواقف في هـذه الوثيقة بعض الأنظمة، التي كان معمولا بها والتي تعتبر من أسس الرعاية الصحية الحديثة، من ذلك ما يشترطه من ضرورة تحضير الأدوية في أوانها وتخزينها لحين الحاجة إليها، على أن يصرف لكل مريض ما يحتاج إليه فقط دون زيادة أو نقصان. فقد كان للبيمارستان خزانة كاملة للشراب.. كذلك راعى الواقف حالة الجو في مصر صيفا، فاشترط ضرورة صرف مراوح من الخوص؛ ليستخدمها المرضى في من حرارة الصيف. كما حرص الواقف على أن يكون هـناك ما يغطى به غذاء المرضى؛ لمنع تلوثه، وأن يتناول كل مريض غذاءه من غير مشاركة مع مريض آخر، زيادة في الحيطة، واتباعا لأساليب صحية أصبحت بمرور الزمن ونتيجة للعمل بشرط الواقف من التقاليد الصحية المرعية [2] . [ ص: 114 ]

              ومن الوظائف التي رتبها الواقف بالبيمارستان، ما يماثل وظيفة الصيدلي والممرض في العصر الحديث، فنصت الوثيقة على أن: «... يصرف الناظر في هـذا الوقف لرجلين مسلمين موصوفين بالديانة والأمانة، يكون أحدهما خازنا لمخزن حاصل التفرقة، يتولى تفرقة الأشربة والأكحال والأعشاب والمعاجين والأدهان والشيافات المأذون له في صرف ذلك من المباشرين، ويكون الآخر أمينا يتسلم صبيحة كل يوم وعشيته أقداح الشراب المختصة بالمرضى والمختلين، من الرجال والنساء، المقيمين بهذا المارستان، ويفرق ذلك عليهم، ويباشر شرب كل منهم لما وصف له من ذلك، ويباشر المطبخ بهذا المارستان، وما يطبخ به للمرضى من فراور ودجاج و فراريج ولحم وغير ذلك، ويجعل لكل مريض ما طبخ له في كل يوم في زبدية منفردة له من غير مشاركة مع مريض آخر، ويغطيها، ويوصلها إلى المريض، إلى أن يتكامل إطعامهم، ويستوفي كل منهم غذاءه، وعشاءه، وما وصف له بكرة وعشية..» [3] .

              كذلك اهتم الواقف بتنظيم أمر البيمارستان الطبي والعلاجي تنظيما دقيقا، فيأخذ المحتسب (وهو من يقوم بعمل الحسبة) على الأطباء عهدا بمزاولة العمل بأمانة، دون أن يؤذوا أحدا، كما كان المحتسب لا يعطي إذن العمل إلا بعد إجراء الامتحان المقرر حسب اختصاص كل منهم. وهذه الإجراءات التي يقوم بها المحتسب نحو مختلف فئات الأطباء إنما تدل على [ ص: 115 ] حرصه على مراقبة حسن العمل، ومحاسبة كل من يعمل في هـذا المجال إذا قصر أو أهمل [4] .

              أما أطباء البيمارستان فكانوا حسب ما جاء بوثيقة الوقف من ثلاث فئات: «الطبائعيون» Physician وهم الذين يقومون بعلاج الأمراض الباطنية، و «جرائحيون» Surgeon وهم الذين يقومن بالعمليات الجراحية، والكحالون Ophthalmic Surgeon وهم الذين يقومون بعلاج أمراض العيون. وتوضح لنا وثيقة السلطان قلاوون كيفية قيام الأطباء ببعض مهامهم في هـذا البيمارسـتان، من ذلك ما تذكره من مباشـرة المرضى « مجتمعين أو متناوبين »، وأن يصفوا لكل مريـض ما يحتاج إليه من علاج وغذاء «وفي دستور ورق، ليصرف على حكمه ».

              وكذلك حدد الواقف مواعيد حضور الأطباء بكل دقة، فشرط ضرورة حضور الأطباء الكحالين صباح كل يوم، حتى لا يأتي مريض ويرد. وأيضا توضح لنا الوثيقة نقطتين من الأهمية بمكان: الأولى: ضرورة مراجعة الطبيب الكحال (طبيب العيون) للطبيب الطبائعي (طبيب الأمراض الباطنية) ، للنظر سويا في علاج المريض الذي قد يرجع مرض عينيه إلى أسباب باطنية، وتوضح لنا تلك النقطة مدى التعاون بين الأطباء في فروع الطب المختلفة في ذلك العصر، وهو ما يقابل أحدث وسائل تشخيص وعلاج الأمراض في العصر الحديث. والنقطة الأخرى: هـي حرص الواقف على ضرورة حضور الأطباء [ ص: 116 ] بالبيمارستان ليلا، مجتمعين أو متناوبين؛ مما يدل على مدى اهتمام الواقف بالرعاية الصحية النموذجية، وضرورة الاحتياط لمواجهة الحالات الطارئة والحوادث المفاجئة، فضلا عما يحدث من أزمات لمرضى البيمارستان ليلا



              [5] .

              ولم يقتصر أثر الأوقاف في مجال الرعاية الصحية على المترددين على البيمارستانات، بل شمل ذلك أيضا المرضى الفقراء في بيوتهم. ولقد نص السلطان قلاوون في كتاب وقفه على أن: «... من كان مريضا في بيته، وهو فقير، كان للناظر أن يصرف إليه ما يحتاج إليه من حاصل هـذا البيمارستان من الأشربة والأدوية والمعاجين، وغيرها، مع عدم التضييق في الصرف على من هـو مقيم به، فإن مات بين أهله صرف إليه الناظر في يومه تجهيزه وتغسيله وتكفينه وحمله إلى مدفنه ومواراته في قبره ما يليق بين أهله...»



              [6] .

              أما من شفاه الله، عز وجل ، من علته، فإن الوثيقة تنص على أن يصرف إليه - بحسب حاله - كسوة ومبلغ من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرا على العمل دون أن يؤثر ذلك في مصالح المرضى أو التضييق عليهم، وإن كان الأمر متروكا لاجتهاد الناظر ورأيه، وفق ما تدعو إليه الحاجة.

              وتختتم تلك الوثيقة بهذه العبارة التي تؤكد المساواة بين الناس في العلاج: «...وعلى الناظر في هـذا الوقف أن يراعي تقوى الله سبحانه وتعالى [ ص: 117 ] سرا وجهرا، ولا يقدم صاحب جاه على ضعيف، ولا قويا على من هـو أضعف منه، ولا متأهلا على غريب، بل يقدم في الصرف إليه زيادة الأجور والثواب، والتقرب إلى رب الأرباب»



              [7] .

              ومـن الأطـباء الذين خدموا في البيمارسـتان المنصـوري نذكر: ابن الأكفاني، تقى الدين يحيى بن محمود الكرماني، ومحمد بن صغير الكحال، وشهاب الدين أحمد بن الصائغ



              [8] .

              وهكذا تضافرت جهود أبناء الأمة الإسلامية على النهوض بعلم الطب فنا وعلما، لتوفير رعاية طبية سليمة لبني الإنسان..!!

              التالي السابق


              الخدمات العلمية