الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أولا: منهاج التدريس

              كان للمسلمين أسلوبهم العلمي، ومنهجهم التربوي في دراسة الطب وعلاج المرضى، وهو الأسلوب الذي أخذه الغرب عنهم وطبقه، وإن زعم أنه لم يأخذه عن المسـلمين، ولكن الدراسة الموضوعية لتاريخ الطب تؤكد أن المسلمين كانوا هـم الرواد في هـذا المجال، وأن غيرهم قد انتفع بتراثهم، وكان لديهم المرجع العلمي في دراسة الطب لفترة زمنية طويلة، وأن من الغربيين من كان يترجم العلوم الرياضـية والطبية من العربية إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية ويدعون أنها مؤلفات أوروبية لم تعتمد على مصادر إسلامية، بل إن منهم من كان ينتحل أفكار ونظريات علمـاء المسلمين، كما فعل هـارفي (ت: 1657م) الذي زعم أنه أول من اكتشف الدورة الدموية وهو في الواقع لم يكتشفها، وإنـما ترجم ترجمة حرفية من اللاتينية ما قاله الطبيب المسلم ابن النفيس (ت: 687هـ / 1288م) في هـذا الموضوع، فهذا العالم المسلم الذي يسبق هـارفي بنحو أربعة قرون، هـو أول من اكتشف الدورة الدموية



              [1] .

              تقول العلامة الألمانية «سيجريد هـونكه» في كتاب: «شمس العرب تسطع على الغرب»: «كانت المستشفيات الكبيرة بمثابة مدارس عالية للطب، وكان الطلاب يتلقون فيها علومهم، ويتعلمون كل ما قاله أبو قراط [ ص: 139 ] وجالينوس ، وما جاء به أساتذتهم العرب الكبار أنفسهم، وكانوا يستمعون إلى كل هـذا أيضا في أحد الجوامع وفي مدارس طبية خاصة، كان يديرها أطباء معروفون. واتبع العرب في تدريس الطب طريقة علمية تقضي على طلاب العلم في الطب أن يدخلوا مع المرضى في احتكاك دائم مثمر. فيقابلوا ما قد تلقنوه نظريا بما يشاهدونه بأعينهم.

              وهكذا تخرجت طبقة من الأطباء الذين لم يشهد العالم لهم في ذلك الوقت مثيلا إلا في عصرنا الحديث»



              [2] .

              وبتنظيم الدراسات الطبية الهادفة وعقد امتحانات لطلاب الطب طهرت مهنة الطب من الكهنة والسحرة والدجالين وأدعياء الطب، تقول: «سيجريد هـونكه»: «لقد امتازت كتابات الأطباء العرب على أنواعها المختلفة بحسن التنظيم والتسلسل والشرح، وامتازت بروح علمية أصيلة، عبرت عن موهبة منهجية نظامية رائعة، وعبقرية خلاقة»

              [3] .

              لقد كانت العادة في البيمارستان النوري أنه بعد أن يعود الطبيب مرضاه الخاصين بعد الظهر، كان يرجع إلى البيمارستان؛ ليعطي دروسه لبضع ساعات. فأبو المجد بن أبي الحكم كان عندما ينتهي من معالجة وتفقد المرضى في البيمارستان النوري وفي القلعة، يأتي ويجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان، ويحضر الاشتغال. وكان نور الدين محمود بن زنكي قد [ ص: 140 ] وقف على هـذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية، فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين تأتى إليه، وتقعد بين يديه ثم تجرى مباحثات طبية، ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات، ثم يركب إلى داره، وكان لكل من: مهذب الدين بن النقاش، وشمس الدين اللبودي، في البيمارستان نفسه مجلس للمشتغلين عليهما



              [4] .

              كما أن بعضا من مشايخ الأطباء وكبار رؤسائهم كان يجعل له مجلسا لتدريس صناعة الطب للمشتغلين عليه في منـزله أو في مكان آخر أعد لهذه الغاية أو في أثناء تجواله.

              وكان الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي إذا فرغ من البيمارستان وتفقد المرضى، يأتي إلى داره، ثم يشرع في القراءة والدرس والمطالعة والنسخ، فإذا فرغ منه أذن للجماعة فيدخلون إليه، ويأتي قوم بعد قوم من الأطباء والمشتغلين، وكان يقرئ كل واحد منهم درسه ويبحث معه فيه، ويفهمه إياه بقدر طاقته، ويبحث في ذلك مع المتميزين منهم إذا كان الموضوع يحتاج إلى توسع في البحث.

              ويحدثنا ابن أبي أصيبعة كيف كانت تلقى الدروس على يد أساتذته في البيمارستان النوري، فيقول: «كنت بعد ما يفرغ الحكيم مهذب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين بالبيمارستان وأنا معهم، أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي، فأعاين كيفية استدلاله على الأمراض، وجملة [ ص: 141 ] ما يصف للمرضى، وما يكتب لهم من أبحاث، وأبحث معه في كثير من الأمراض ومداواتها..»، ثم قال: «.. وكان معه - أي: مهذب الدين - في البيمارستان لمعالجة المرضى، الحكيم عمران، وهو من أعيان الأطباء وأكابرهم في المداواة والتصرف في أنواع العلاج، فتتضاعف الفوائد المقتبسة من اجتماعهما، وما كان يجري بينهما من الكلام في الأمراض ومداواتها، وما كانا يصفان للمرضى»



              [5] .

              ويبدو أن عدد الطلاب الذين كانوا يتلقون دروس الطب عن أستاذ واحد كان لا يتجاوز الخمسين طالبا



              [6] .

              كان هـذا، هـو النظام الذي اتبعه العرب في تعليم الطلاب مهنة الطب، وإنه لمن أروع مظاهر الحضارة الطبية الإسلامية بشهادة علماء أوروبا المنصفين.

              يقول «بريفولت»: «.. إن مـا يدين به علمنا لعـلم العرب ليس فيما قدمـوه إلينا من كشوف مدهشـة لنظريات مبتكرة، بل يدين هـذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هـذا، إنه مدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم لم يكن فيه للعلم وجود..!!».

              ثم يعترف الأستاذ «بريفولت» بأولية المنهج العلمي للمسلمين والعرب قبل أوروبا، فقال: «.. لقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا [ ص: 142 ] النظريات، ولكن أساليب البحث والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليوناني، أما ما ندعوه «العلم» فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصـاء مستحـدثة، لطرق التجربة والملاحظـة والمقاييس، إلى صور لم يعرفها اليونان، وهذه الروح وتـلك المناهج العلمية أدخـلها العرب إلى أوروبا»



              [7] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية