الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثانيا: الوقف وصياغة العقول الإسلامية

              إن أهم شيء يميز الأمة الإسلامية أنها أمة العلم؛ لأن دينها الحنيف حث على طلب العلم، والسعي إلى المعرفة في جميع مراحل حياة الفرد.

              ومن القضايا التي يكاد يجمع عليها المؤمنون بالإسلام وغير المؤمنين به أن هـذا الدين دين التفكير والنظر، ودين العلم والمعرفة، وأنه لا يسوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

              إن أول آية نزلت من كتاب الله عز وجل ، وهي: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1) ،

              تعتبر «مفتاح العلم» أيا كان نوعه، والقرآن [ ص: 127 ] ومجاميع السنة النبوية ليس فيهما آية كريمة واحدة أو حديث شريف واحد يقف في طريق العقل وتقدمه..!!

              بل على العكس، تدعو الآيات القرآنية الكثيرة وكذلك الأحاديث النبوية إلى النظر في الأنفس وفي خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وغير ذلك مما أبدع الله في هـذا الكون.

              وإلى جانب الآيات والأحاديث التي تأمر بالتفكر وتحض على التأمل والتدبر هـناك آيات وأحاديث تنهى عن التقليد، وتحذر من اتباع الظن، والقول دون علم، وتبين أن الذين ألغوا عقولهم واتبعوا سواهم دون برهان أو دليل كالأنعام بل أضل سبيلا. وهذا يقطع بأن الإسلام دين العلم، بمعناه الشامل، العلم الذي يكفل للإنسان حياة كريمة تليق بمكانته في الكون ورسالته في الحياة..!!

              ومن دلائل احترام الإسلام للتفكير، وإنزاله منـزلة الفريضة أن مناط التكليف والثواب والعقاب هـو «العقل» الذي هـو أداة التفكير والنظر والتمييز بين الحق والباطل، وأن المجتمع الإنساني قبل الإسلام كان متخلفا علميا، حيث سادت الخرافات والأوهام وعبادة الأصنام، فلما جاء الإسلام انتشل العقل الإنساني من مستنقع التخلف في الإيمان والتفكير، ومن ثم تبدل وجه الحياة بعد أن أشرق نور هـذا الدين، وأخذت أعلام الخرافة والجهالة والضلالة تتهاوى. ويتبوأ العقل المسلم مكانته في قيادة الحياة، وكان المسلمون خير صورة معبرة عن ذلك، فقد كانت لهم أصالتهم الفكرية [ ص: 128 ] النابعة من أصالة إيمانهم، وصدق يقينهم، وخلفوا لنا تراثا ضخما في العلوم النظرية والتجريبية، يشهد لهم بالنبوغ والإبداع، وكان هـذا التراث النور الذي أضاء للبشرية سبيل النهضة والحضارة



              [1] .

              والمسلم في طلبه للعـلم لا يعرف مرحلة دراسية يقف عندها، فهو يطلبه من المهد إلى اللحد، وهو مع هـذا يدرك بأنه مهما يبلغ من العلم يجهل أكثر مما يعلم، ومن ثم يواصل جهاده في الطلب؛ لذا أقبل المسلمون على طلب العلم، وعاشوا رهبانا له لا يبتغون بطلبه جاها ولا مالا، وإنما يريدون أداء الرسالة كاملة غير منقوصة. فصار العلم جزءا من حياتهم اليومية، وأسلوبا في معاشهم، ودور سكنهم، وصار الكتاب مركزا للإشعاع والتنوير وتنافس الناس في الحصـول عليه، وبدأت حركة بحث وترجمة وتأليف ونسخ



              [2] .

              وما كان لعلماء المسلمين أن يتركوا ذلك التراث الزاخر بالمعرفة في شتى التخصصات والمجالات والذي تمتاز به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، وآية ذلك أنه لا تكاد تخلو مكتبة في جميع دول العالم من قدر من هـذا التراث الباهر، بل إنه في بعض الدول مكتبات خاصة تتكون من عدة طوابق تضم قدرا هـائلا من تراثنا العلمي المخطوط. وما كان لعلماء [ ص: 129 ] المسلمين أن يتركوا ذلك التراث كله لولا إخلاصهم النادر في طلب العلم، وإيمانهم بأن طلبه فريضة وجهاد في سبيل الله، وأن مداد العلماء يعدل دماء الشهداء، وأن العلم ينفع الإنسان في حياته وبعد مماته؛ فهو صدقة جارية لا تنقطع



              [3] .

              وكان العلماء المدرسون في صدر الإسلام لا يأخذون أجرا على ما يقـومـون به من تعـليم، وكانوا يرون هـذا فرضا عليهم، ولا يجوز أن يأخذوا راتبا عليه، وكانوا يؤمنـون بأن البخل بالعلم لؤم وظلم، والمنع منه حسد وإثم..!! فكانوا يذيعونه بين الناس حسبة وأداء لفريضة البلاغ والبيان؛ ليظل العلم نورا يبدد ظلمات الجهل والتخلف، ويهدي الجميع سواء السبيل.

              ولكن لما امتد الزمن، واتسعت الحضارة، وبنيت المدارس، وأوقف عليها الأوقاف، جعل للمدرسين فيها رواتب شهرية، تختلف بين الكثرة والقلة بحسب الأمصار والمدارس والأوقاف



              [4] .

              وفى دراسة تحليلية عن الأوقاف شملت «104» أوقاف من الأوقاف الكبيرة، واختيرت مصر وسوريا وفلسطين وإستانبول والأناضول على مدى [ ص: 130 ] ستمائة سنة (من سنة 1340م إلى 1947م) ، تبين أن 58% منها كان وقفا لعقـارات في المدن، من أسـواق ودكاكين ومنازل وغيرها، وأن 35% منها كان وقفا لعقـارات في الريف من أراض زراعية وحدائق، والباقي أموال نقدية.

              أما من جهة الموقوف عليهم فإن 55% كان وقفا خيريا، و 25% كان وقفا على الذرية، و14.2% أوقاف مختلفة، والباقي أوقاف لم تحدد نوعيتها.

              وبالنسبة إلى الأوقاف الخيرية، كان 38% على الجوامع والمساجد، و19% على المدارس والكتاتيب، و9% على الأسبلة



              [5] ، و7% على التكايا



              [6] والزوايا، و5% على الحرمين الشريفين، و5% على الفقراء والمساكين، والباقي منوعات.

              ويظهر من هـذا البيان أن هـدفا أساسيا من أهداف الوقف كان يتعلق بتمويل العملية التعليمية والثقافية، وأن الموقوف على الجوامع والمساجد، [ ص: 131 ] والموقوف على المدارس والكتاتيب كان مجموعه من العينة السابقة يبلغ 75% من الأوقاف المختارة.

              ويمكن أن يضاف إلى هـذا المجموع، الموقوف على الحرمين الشريفين، والموقوف على التكايا والزوايا، فيكون المجموع الكلي 69% من الأوقاف



              [7] .

              فالوقف كان يمثل الوعاء الحقيقي في صياغة العقول البشرية وفي التعليم، كما أنه كان يمثل قيمة عظيمة في مسيرة الحضارة الإسلامية، حيث كان يمكن من عمل الصيغـة التنظيمية والتشريعية والفقهية لتنظيم المال وفقا لأغراض لا تتجاوز خط الحياة الإنسانية.

              وقد استطاع الوقف خلال تلك السنوات أن يوجـد طبقة من المتعلمين، بعيدا عن تقلبات السياسة، الأمر الذي أوجد استقرارا في التعليم، فكانت مناهج التعليم لا تتغير بتغير النظم، حيث الوعـاء المصرفي له كان مستقلا عن ميزانية الدول، وتمويله ذاتي المصدر



              [8] . [ ص: 132 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية