الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              رابعا: التعليم الطبي المستمر

              وبعد إنهاء الطالب تحصيله العلمي للحصول على الحد المقرر من المعرفة والخبرة الطبية اللازمة للبدء بممارسة المهنة؛ يسمح له معلمه بتقديم الامتحان أمام رئيس الأطباء، فإذا اجتاز الطالب هـذا الامتحان، يقسم القسم أمام المحتسب ويحصل على تصريح مزاولة مهنة الطب.

              هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هـل عند هـذا الحد كانت تنتهي علاقة الطبيب بالعلم والتعلم؟!

              لقد أدرك الأجداد في تلك العصور ما نسيه الأحفاد في العصور اللاحقة، وما أدركه الغرباء في العصور الحديثة: أن الطب من العلوم المتطورة [ ص: 148 ] والطويلة المتشعبة، وقد يقصر العمر ولا يبلغ الإنسان الكمال فيه؛ لذا كان على الطبيب أن يكون على اتصال دائم ومستمر بالعلم والتعلم، سواء كان من الكتب أو من مجالس العلم وما يدور فيها من مناقشات ومحاورات علمية أو من العمل بالبيمارستانات بين وقت وآخر للإطلاع على الأمراض، خاصة الغريب والنادر منها، والتعرف على طرق العلاج لكبار الأطباء السريريين. يقول « الكندي »: «إن العاقل يظن أن فوق علمه علما، فهو أبدا يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فتمقته النفوس لذلك»



              [1] .

              وكان التعليم الطبي المستمر يتم من خلال

              أ- قراءة الكتب والاطلاع على القديم منها والحديث، وعلى الطبيب أن يكون شديد الحرص على جمعها واقتنائها، وإذا ملكها، عليه أن يواظب على قراءتها وفهمها، أي: أن يكون حرصه بقراءتها أشد من حرصه بتملـكها، فإنما الغرض في ملكة الكتب التفهم، وفي ادخار العلوم التعلم، وإلا كان مالكها حمارا يحمل أسفارا



              [2] .

              ب- حضور المجالس العلمية التي يعقدها كبار الأطباء لتلاميذهم، وقد بينا كيف كان يدرس فيها الطب للطلبة قبل التخرج، وكيف كان يحضرها الأطباء المتخرجون الذين يلازمون أستاذهم للاستزادة من العلم.

              ج- حضور الاجتماعات العلمية التي كانت تعقد بين كبار الأطباء، ولو تتبعنا هـذه الاجتماعات لوجدناها كثيرة على مر عصور الحضارة العربية [ ص: 149 ] الإسلامية؛ فهذا ابن أبي أصيبعة يحدثنا عن اجتماعات الدخوار والحكيم موفق الدين يعقوب، فيقول: «.. وفي أوقات كثيرة، لما أقام (موفق الدين يعقوب) بدمشق يجتمع هـو والشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي (الدخوار) في الموضع الذي يجلس فيه الأطباء عند دار السلطان، ويتباحثان في أشياء من الطب



              [3] ، وفي فترة الحج كانت تعقد المؤتمرات الطبية حيث يجتمع الأطباء للتعارف والمناقشة والمحاورة العلمية وتبادل المعلومات والخبرات»



              [4] .

              د- العمل في البيمارستانات حيث إنه كان على طالب الطب أن يتدرب في البيمارستانات قبل تخرجه، ولم يكن يكتفي بذلك فقط حيث كان عليه بعد التخرج وممارسة المهنة الالتحاق من وقت لآخر بالبيمارستان لمزيد من التدريب والتعرف على غرائب الأمراض، وحضور الاجتماعات الاستشارية التي تعقد فيها بين كبار الأطباء، ولا نجد طبيبا مشهورا من تلك العصور إلا وعمل في عدة بيمارستانات.

              هـ- السفر والترحال والتنقل في الديار بحثا عن العلوم ، طلبا لملاقاة ذوي الفضل. وإذا اطلعنا على تراجم المبرزين من أطباء الحضارة العربية الإسلامية، نجد أنهم كانوا كثيري السفر والترحال بحثا عن العلم ومقابلة العلماء والعمل في كبرى البيمارستانات. [ ص: 150 ]

              ولعل أسمـاء الأطـباء التي وصـلتنا عن طريق مؤرخي الطب مثل «ابن أبي أصيبعة»، و «ابن جلجل» و «القفطي» وغيرهم، هـي أسماء المشاهير ومن برز في الطب من علمائه الذين تبحروا وتفقهوا في علم الطب، مثلا: إن عدد الأطباء الذين أوردهم ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» حوالي ثلاثمائة طبيب ممن برزوا في الطب إلى عصره (القرن السابع الهجري) ، بينما نجد أن عدد الأطباء في بغداد وحدها في زمن محدد من بدايات القرن الرابع الهجري بلغ ثمانمائة ونيفا وستين ممارسا. ففي تلك العصور كانت هـناك طبقتان أساسيتان من الأطباء: طبقة الأطباء الممارسين، وكانت هـي الغالبية، وكانوا جيدي التدريب والتأهيل للقيام بعملهم. والطبقة الأخرى وهي الأقل عددا، وهي طبقة الأطباء العلماء الذين تبحروا في العلم وقادوا النهضة الطبية ونهضوا بتعليم الطب، طبقة الرازي وابن سينا ، وابن النفيس وابن الهيثم وابن رشد والزهراوي وغيرهم.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية