الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أولا: البيمارستانات المتنقلة والثابتة

              لقد اعتنى المسلمون عناية فائقة بإنشاء البيمارستانات، وجعلوا الرعاية الطبية حقا لكل المواطنين. فقاموا بإنشاء البيمارستانات المتنقلة بجانب البيمارستانات الثابتة، وملأوا بها بقاع الدولة الإسلامية من بغداد شرقا إلى بلاد المغرب والأندلس غربا، كما عمت هـذه المستشفيات بلاد الشام ومصر، حتى السجون كان الأطباء يدخلونها لعلاج المرضى فيها. وكانت البيمارستانات تنقسم إلى قسمين: ثابت ومتنقل، فالثابت ما كان يشيد في [ ص: 71 ] مدينة من المدن أو حي من الأحياء. وأما المتنقل فهو الذي يحمل وينقل من مكان إلى مكان بحسب الظروف والأمراض والأماكن المنتشرة فيها الأوبئة، وكذلك ظروف الحرب، حيث كانوا يقيمون مستشفيات متنقلة في ميدان القتال في الخطوط الخلفية.

              1- البيمارستانات المتنقلة

              لقد حرص حكام الدول العربية الإسلامية ومسئولوها على تطبيق تعـاليم الدين الإسـلامي الحنيف، يما يحـض على فعل الخيرات، وكذلك بما يمكنهم من تحمل مسئوليتهم تجاه الرعية. فعمل المسئولون على توصيل الرعاية الصحية إلى جميع المحتاجين لها. فهذا هـو الوزير علي بن عيسى الجراح، الوزير في وزارة حامد ابن العباس زمن الخليفة المقتدر بالله ، يأمر الطبيب ثابت بن قرة ، عندما كان مشرفا على جميع بيمارستانات بغداد وغيرها، بما يلي:

              «فكرت مد الله في عمرك، في أمر من في الحبوس [1] وأنه لا يخلو من كثرة عددهم، وجفاء أماكنهم، أن تنالهم الأمراض، وهم معوقون عن التصرف في منافعهم، ولقاء من يشاورونه من الأطباء فيما يعرض لهم، فينبغي أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، وتحمل إليهم الأدوية والأشربة، ويطوفون في سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى، ويزيحون عللهم [ ص: 72 ] فيما يحتاجون إليه من الأدوية والأشربة. ويتقدم بأن تقام لهم المزورات لمن يحتاج إليها منهم» [2] .

              من هـذا النص الرائع الفريد يتضح لنا الأسلوب الراقي الذي يخاطب به الوزير أحد مرءوسيه، وبكل احترام وتبجيل يوجه الوزير أمره إلى الطبيب، لكونه من العلماء، بقوله: «فكرت، مد الله في عمرك »، وأيضا الرقة في التعبير والإحساس بالمسئولية تجاه الرعية، حتى لو كانوا من المجرمين المساجين في قوله: «... كثرة عددهم وجفاء أماكنهم، أن تنالهم الأمراض، وهم معوقون...». هـذا ويتضح لنا مجانية الخدمة الطبية وعمومها للمساجين، من كشف طبي ودواء وشراب وغيره، في قوله: «تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، وتحمل لهم الأدوية والأشربة، ويطوفون في سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى». ولم يكتف هـذا الوزير الإنسان بأن يقدم الخدمة الصحية للمساجين، بل أوصل الخدمات الطبية إلى الأطراف البعيدة عن المراكز الحضرية، فها هـو يأمر مسئول البيمارستانات مرة أخرى بإرسال الفرق الطبية المكونة من أطباء ومعاونين وصيدلية أو ما يطلق عليه «البيمارستانات المتنقلة» إلى الأطراف النائية، لخلوها من الأطباء، وحاجة الأهالي إليها: «فكرت في من في السواد من أهله، فإنه لا يخلو أن يكون فيه مرضى لا يشرف عليهم متطبب لخلو السواد من الأطباء، فتقدم، مد الله في عمرك، [ ص: 73 ] بإنفاذ متطببين، وخزانة للأدوية والأشربة، يطوفون في السواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إليه، ويعالجون من فيه من المرضى، ثم ينتقلون إلى غيره» [3] .

              ويرى الوزير نفسه أن تصل الخدمة الطبية العلاجية ليس للبشر فقط، بل أيضا للبهائم، فإنه يقول في أحد مراسلاته الرسمية «... ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به معالجة الناس قبل البهائم...» [4] .

              2 - البيمارستانات المحمولة

              في المعارك الحربية تصحب الجنود المتقدمة على خطوط المواجهة سرايا، تتكون في بعض الأحيان من أطباء ومسعفين ومعاونين، وأحيانا تقتصر على مسعفين ومعاونين فقط، وتقدم الإسعافات الأولية للمصابين قبل نقلهم إلى الخطوط الخلفية حيث توجد البيمارستانات الميدانية المتنقلة لتكملة العلاج.

              هذا، ويعتبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول من أنشأ سرايا الطبابة العسكرية في الإسلام. ( فعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت: أصيب سعد يوم الخندق [5] في الأكحل [6] فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم وفي المسجـد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيـل إليهم، فقالوا: [ ص: 74 ] يا أهل الخيمة، ما هـذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات فيها ) [7] . ولأبقراط تعريف مبسط للبيمارستانات، أورده ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، بأنها: الموضع المخصص للعناية بالمرضى، يقول ابن أبي أصيبعة عن أبقراط: «ويقال إنه أول من جدد البيمارستان واخترعه وأوجده، وذلك أنه عمل بالقرب من داره في موضع من بستان كان له، موضعا مفردا للمرضى وجعل فيه خدما يقومون بمداواتهم وسماه «أخسندوكين» أي: مجمع المرضى» [8] .

              نستنتج من هـذا كله، أن الرسول صلى الله عليه وسلم هـو أول من أقام بيمارستانا عسكريا متنقلا. وهذا ينقض قول ابن قتيبة الدينوري الذي أورده في كتابه «الإمامة والسياسة» من أن عبد الله بن الزبير هـو أول من أنشأ بيمارستانا للجيش في الإسلام عندما ضرب فسطاطا في ناحية من المسجد وجعله موضعا لمعالجة الجرحى من أصحابه، والاعتناء بهم والسهر على راحتهم، من قبل من هـم أكفاء في هـذا العمل [9] . [ ص: 75 ] ولكن الذي نتحدث عنه هـنا ما هـو إلا الفرق الطبية أو سرايا الطبابة العسكرية أو البيمارستانات المحمولة، التي تطورت مع التطور الذي شمل الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية، ووصلت إلى درجة من الرقي ما نستطيع أن نطلق عليه «بيمارستانات عسكرية كاملة متنقلة» صحبت الجيوش الإسلامية في أصقاع الأرض، تحتوي على جميع ما يلزم لمعالجة الجرحى والمرضى من أدوية وأدوات طبية لازمة، ومن أطباء ومشرفين وخدم، وفي كثير من الأحيان كان يرافق عدد من كبار الأطباء الجيش في حملاته. فهذا زكريا بن الطيفوري أحد مشاهير الأطباء في عهد المعتصم يصحب القائد الكبير «الأفشين»، قال يوسف بن إبراهيم: « حدثني زكريا بن الطيفوري قال: كنت مع الأفشين في معسكره وهو في محاربة بابك...» [10] .

              وكذلك يخبرنا ابن أبي أصيبعة في حديثه عن دراسته على يدي الطبيب الكبير، رئيس أطباء ديار مصر بأسرها وأطباء الشام مهذب الدين الدخوار، إذ يقول: «... فكنت أشتغل عليه في المعسكر لما كان أبي والحكيم مهذب الدين في خدمة السلطان الكبير...» [11] .

              وكذلك كان الأطـباء يصحبون الحجيج إلى مكة المكرمة، فقد ورد في عيون الأنبـاء لابن أبي أصيبعة حينما يتحـدث عن عمه رشيد الدين [ ص: 76 ] ابن خليفة: «ولما كان في سنة إحدى عشرة وستمائة حج الملك المعظم وحج عمي معه» [12] .

              وأحسن وصف لتلك البيمارستانات العسكرية هـو ما كتبته الكاتبة الألمانية «سيجريد هـونكه»، وهي تصف رحلة الطبيب والجراح البولوني المصاحب لإحدى الحملات الصليبية على مدينة دمياط ، وما لاحظه من تفضيل بعض القادة الصليبيين وجنودهم من العلاج لدى أعدائهم العرب في مستشفياتهم العسكرية المتنقلة، على الرغم من تحذير رجال الكنيسة لهم، حيث كتبت:

              «إن هـذه الكلمات لم تكن لتغير من موقفهم شيئا، وظلوا يفضلون التداوي على أيدي أطبـاء الأعداء، ولم يكن هـذا بأمر مشرف لرجل وطبيب قد بلـغ من العمر ما بلغه «هوجو». وفي خلال هـذه السنوات الثلاث، توافرت له أكثر من مناسبة للتعرف على هـؤلاء الجراحين المسلمين، الذين كثر فيهم المدح والذم في آن واحد، ورؤية عظمتهم وزيارة مستشفـاهم العسـكري الذي كان يحمـله إلى سـاحة المعركة ثلاثون أو أربعون جملا» [13] . [ ص: 77 ]

              3- البيمارستانات الثابتة

              يعتبر هـنود سيلان «سيريلانكا» هـم أول من بنى المستشفيات في التاريخ، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد حسب الاكتشافات والدراسات الحديثة، أما من جهة المصادر العربية القديمة فقد نسبت بناء أول مستشفى في التاريخ إلى أبقراط [14] حينما خصص جزءا من بستانه لجمع المرضى فيه وتقديم الرعاية الصحية لهم [15] .

              ثم تطورت فكرة مجمع المرضى هـذا، وانتشرت في البلاد الواقعة تحت تأثير الثقافة والحضارة الإغريقية، ووصلت من الانتشار حدا بدأت تظهر معه بعض المشكلات الفنية والإدارية، مما دعا الطبيب «روفسي الأفسي» إلى القيام بالتصدي لها، ووضع كتابا يتناول العمل في هـذه المجمعات، كما طرح بعض الآراء والحلول لتلك المشكلات [16] .

              ولعل أشهر بيمارستان في فارس، عندما فتحها المسلمون، هـو «بيمارستان جنديسابور». وقد ساهم هـذا البيمارستان بدور كبير في تطور الطب عند العرب، فكثير من الأطباء الذين تخرجوا فيه كان لهم دور ملحوظ في تطور الطب وانتشاره خلال الحضارة الطبية العربية والإسلامية [ ص: 78 ] مثل «ابن آثال الجنديسابوري» في الدولة الأموية، أو عائلة بختيشوع الطبية التي خدمت خلفاء الدولة العباسـية الأوائل أو «ماسويه» وابنه وغيرهم. كما أن بعض أطباء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا من خريجي أو ممن عملوا في هـذا البيمارستان مثل الحارث بن كلدة الثقفي وابنه النضر .

              وبيمارستان جنديسابور يعتبر النموذج الأول، الذي بنيت على نمطه أوائل البيمارستانات في الدولة الإسلامية، قبل أن يتطور ويصل أعلى درجة من الرقي بالنسبة إلى ذلك الزمن على يد أفذاذ هـذه الحضارة الوليدة [17] .

              هذا ويعتبر بيمارستان الرشيد «البيمارستان الكبير في بغداد» هـو أول مستشفى شيد في الإسلام، بناه هـارون الرشيد في أواخر القرن الثاني الهجري «أوائل القرن الثامن الميلادي»، علما بأن هـناك من أورد أن أول بيمارستان شيد في الإسلام كان في عصر الوليد بن عبد الملك في سنة ثمان وثمانين هـجرية، وكان مخصصا للمجذومين [18] .

              وسواء استدل من هـذه الأقوال أن الوليد بن عبد الملك هـو أول من بنى بيمارستانا في الإسلام أو لم يستدل، فإن بيمارستان الرشيد هـو أول بيمارستان عام به جميع التخصصات المعروفة في ذلك الوقت، أمر بتشييده هـارون الرشيد، وأوكل الإشراف على بنائه وتنظيمه لطبيبه الخاص جبرائيل بن بختيشوع [ ص: 79 ] ورئاسته إلى الطبيب ما سويه الخوزي [19] . وقد تم بناؤه على نمط بيمارستان جنديسابور بعد تعديله ليلائم العصر. ومنذ ذلك اليوم انتشرت البيمارستانات في جميع الدول الإسلامية، وكما هـي عادة علماء هـذه الدولة فقد أخضعوا هـندستها ونظمها للتحسين والتطوير بعد التجريب لتصل إلى درجة عالية من الرقي تقترب في بعض الأحيان مما وصلت إليه المستشفيات الحديثة.

              وقد انتشرت هـذه البيمارستانات في جميع مدن الدولة الإسلامية من حدود الصين إلى حدود بلاد الغال، ووصل عددها في قرطبة وحدها إلى خمسين بيمارستانا.

              تقول « سيجريد هـونكه »: «إن كل مستشفى، مع ما فيه من ترتيبات ومختبر، وكل صيدلية ومستودع أدوية في أيامنا هـذه، إنما هـي في حقيقة الأمر نصب تذكارية للعبقرية العربية» [20] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية