ثانيا: الوقف وتطور الحضارة الإسلامية
قـال تعالى: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61) .
والاستعمار من الله، عز وجل ، هـو طلب العمارة، وهذا الطلب للوجوب، فلا تدل قرينة على صرفه عن غيره. فالتعمير والتنمية واجب على المسـلمين كافة، كل بحسب طاقته وما يسر الله له من الأعمال، فمن قصر أو أهمل فهو آثم؛ لأنه خالف ما أوجب الله عليه.
وعمارة الأرض تشمل كل ألوان التعمير بالزراعة والغراس والأبنية ودراسة التربة وعوامل الطبيعة المسخرة للإنسان منها، بل ويشمل أيضا دراسة الشمس والقمر والليل والنهار، وكل ما يهيء للبشر أقوم السبل لعمارة الأرض ونشر الخير وإشاعة الرخاء.
بل إن حماية البيئة في الإسلام مطلوبة على وجه الإيجاب؛ لأن الأمر بتعمير الأرض لن يكون له مردود إيجابي بغير الحفاظ على البيئة، هـواء وماء وتربة وحيوانا ونباتا، فضلا عن أن الإسلام يولي النظافة عناية بالغة، نظافة [ ص: 53 ] الأبدان والثياب والبيوت والطرقات وكل وسائل الحياة من طعام وشراب. إنها النظافة التي تكفل للإنسان بيئة صحية خالية من الأوبئة، حتى يعيش حياته في رفاهية ورغد، ويؤدي رسالته بصورة كاملة
[1] .
وإذا كانت الحضارة نهرا خالدا ومتجددا، على حين تمثل حياة الأفراد القطرات المتبخرة من هـذا النهر، فلقد قامت «الأوقاف» لتمويل الصناعة الحضارية الدائمة والمتطورة، تلك التي لا تفي برعايتها حياة الأفراد، وتصرفاتهم فيما يمتلكون من ثروات وأموال. فبهذه المؤسسة التمويلية الإسلامية الأم، أعاد الإنسان المسلم الثروات والأموال إلى مالكها الحقيقي؛ ليضمن إيجاب ضوابط الشرع في مصارفها؛ وليرتقي بذلك درجات على سلم العبودية لله.
يؤكد مصداقية ذلك ما كان عليه الوقف في المجتمع الإسلامي، عبر عصوره الطويلة من عمق واتساع، وما كان له من أثر بارز في النهضة الشاملة للمجتمع. وإشارة إلى ذلك، نجد أن الأموال الموقوفة قد تنوعت وتعددت وتفاوتت أحجاما وأنواعا، بحيث شملت الأراضي الزراعية والعقارات على مختلف صورها من دور وحوانيت وفنادق وأسواق ومصانع ومعامل وكتب ومكتبات، وغير ذلك حتى أشجار الفاكهة والأموال النقدية. كما نجد الموقوف عليهم وقد تنوعوا من فئات وأفراد ومرافق ومؤسسات علمية وصحية وثقافية واقتصادية، مثل المساجد والجوامع [ ص: 54 ] والمدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والطرق والآبار والجسور والقلاع وطلبة العلم والفقراء والمساجين والأسرى والرضع وغير ذلك
[2] .
وبالفعل مارس الوقف في حياة المجتمع الإسلامي، على امتداد عصوره، دوره البارز في الرقي والنهضة الشاملة التي حققتها الحضارة الإسلامية في مختلف جوانب الحياة. ولعل الحجة البالغة والحقيقة الدامغة التي لا تقبل الجدل ولا تجد تفسيرا لها سوى «الوقف»، تلك النهضة العلمية الصحية الفائقة في المجتمع الإسلامي، رغم عدم وجود دواوين حكومية للتعليم أو الصحة.