- في الكليات الموضوعية (المتنية):
1- كلية العلمية: (القطع في الأصول/الصدق في الأخبار): /14
تتعدد النصوص الشاطبية خصوصا في "الموافقات" التي تثبت حقيقة أهمية القطع في الأصول ومركزيتها الفكرية عنده، ولا أدل على ذلك من تلك العبارة التأكيدية الأولى: "إن أصول الفقه في الدين قطعية"، ثم العبارة الأولى من المقدمة الثانية: "إن المقدمات المستعملة في هذا العلم، والأدلة المعتمـدة فيه لا تكون إلا قطعية"، وبين الأولى والثانية ميثاق دقيق، من حيث صيغة التأكيد "إن" المستعملة في مستهلهما، ثم من حيث الزيادة في التأكيد، والمبالغة فيه خصوصا إذا أضفنا إلى الأولى عبارة "لا ظنية"، وفي الثانية الاستثناء الجازم في قوله: "لا تكون إلا قطعية". [ ص: 125 ]
وما يفيد صحة موضوعية القطع عنده هو بحثه الدائم على الأدلة المعتبرة القاطعة في المسـألة؛ لأن البحـث في القطـعي الذي كان ديدن الأصوليين، لا يمكن تحصيله بسهولة، خاصة في غياب الدليل النقلي المباشر، وهذا ما دفعه إلى بيان أن "الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد، حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب" [1] .
ويظهر ذلك أيضا في التماسه الدليل الأنسب في القطع بكليات الشريعة ومقاصدها، وبعد بحث مضني، يقرر أن خلاص المسألة مرتبط بدليل الاستقراء "وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر، هو روح المسألة، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد، ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع، ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية" [2] .
فهذا على سبيل الإجمال المباشر، أما على سبيل التفصيل، فلا تخلو مسألة من المسائل التي درسها الشاطبي إلا وحضور البعد القطعي على وجه الصحة، أو التحقيـق فيها وارد، سـواء تعلـق الأمر بالبحـث في الأدلة الأصولية، أم بالقواعد العامة أم بالكليات الشرعية. [ ص: 126 ]
أما ابن خلدون فهمه ومبلغ انشغاله هو البحث في صدق الأخبار وصحتها، بتمييزها عن المزلات والمغالط والخرافات، وذلك من الأسباب الداعية إلى تأليف المقدمة بالقصد الأصلي، يقول رحمه الله: "فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران، علمنا ما نحكم بقبوله، مما نحكم بتزييفه، وكان لنا ذلك معيـارا، صحيحـا يتحـرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب، فيما ينقلونه، وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا" [3] .
والأساس العلمي للصدقية عنده هو وضع الأخبار وفق معيار المحددات العقلية المرتبطة بالإمكان والاستحالة، "فما يمنح الخبر مصداقيته أو مشروعيته العقلية (ما يجعله مشروعا داخل العقل) هو سلطة العقل التاريخي ذاته، ومعاييره التي يضعها (الإمكان العقلي والاستحالة العقلية) وليس هو سلطة الخبر (شخص المؤرخ)" [4] .
ويقول أيضا في نفس السياق: "فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتمـاع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته، وبمقتضى طبعـه، وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه" [5] . [ ص: 127 ]