الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 98 ] وإن ضيع كغزل وحلي وغير مثلي : فقيمته يوم غصبه ، [ ص: 99 ] وإن جلد ميتة لم يدبغ ، أو كلبا ولو قتله تعديا

التالي السابق


وشرع في بيان ضمان المقوم المغصوب فقال ( وإن ضيع ) بفتح الضاد المعجمة والتحتية مثقلة فعين مهملة ، أي أتلف الغاصب مغصوبا مقوما ( كغزل وحلي وغير مثلي ) عطف عام على خاص كعرض وحيوان ( فقيمته ) أي المغصوب تلزم الغاصب معتبرة ( يوم غصبه ) على المشهور . وقال أشهب تلزمه أعلى قيمة مضت عليه من يوم غصبه إلى يوم تلفه ، ونقله ابن شعبان عن ابن وهب وعبد الملك تت ذكر بعض من وقف على خط المصنف رحمه الله تعالى أنه بضاد معجمة فمثناة تحتية مشددة مبنيا للفاعل وغير بالرفع وغصبه فعل ماض . طفي قوله وغير بالرفع هكذا في النسخ التي وقفنا عليها من صغيره وكبيره ، وأصله تصحيف ، إذ الرفع لا يلائم بناء ضيع للفاعل .

الحط بعضهم أنه رأى خط المصنف بضاد معجمة وياء تحتية مبنيا للنائب وهو ظاهر ، وأشار به إلى أن الغاصب إذا غصب غزلا ثم ضاع بسبب الغاصب أو بغير سببه فإنه يلزمه غرم قيمته ، وهذا هو الذي صدر به ابن الحاجب ، وكذا الحلي إذا غصبه وتلف فإنه يلزمه غرم قيمته ، ونبه بالغزل والحلي على مذهب ابن القاسم في المثلي إذا صنع فإنه يصير مقوما " غ " كذا في النسخ التي وقفنا عليها صنع بالصاد المهملة والنون مبنيا للفاعل أو للنائب ، فينبغي نصب لفظ غير على الأول ورفعه على الثاني على حسب محل الكاف ، وكأنه من باب علفتها تبنا وماء باردا ، أي أو فوت غير مثلي ، وإنما خص الصنعة أولا نظرا إلى الغالب ، وفر بعضهم من هذا التخصيص فضبط ضيع بضاد معجمة ومثناة تحتية مشددة مبنيا [ ص: 99 ] للفاعل أو للنائب أيضا ، وزعم بعضهم أن قوله وإن صنع إغياء لمسألة تخليل الخمر ، أي وإن خلل ، وهذا معروف الأقوال عند ابن عرفة ، إذ قال ففي كونها بتخليلها عند الغاصب له أو لربها ثالثها إن تسبب في تخليلها لتخريج عبد المنعم والمعروف ومفهوم تعليل أبي محمد وعليه فصنع بصاد مهملة ونون مبنيا للنائب ليس إلا ، وغير مجرور عطفا على ما بعد الكاف وبقيمته بباء جر مكان فاء الجواب ، والمشبه به هو قوله المثلي ولو بغلاء بمثله وكأنه قال وضمن المثلي بمثله كضمان الغزل وحلي وغير مثلي بقيمته ا هـ .

في الشامل لو استهلك غزلا أو أتلف حليا فالقيمة . تت ظاهر كلام المصنف أن الغزل والحلي مثلي لقوله وغير مثلي على أصل غير ابن القاسم أن الصنعة لا تنقل المثلي ، وأصل ابن القاسم أن المثلي إذا دخلته صنعة يصير مقوما فهما مقومان عليه . ويلزم الغاصب قيمة المغصوب المقوم الذي تلف بيده إذا كان يجوز بيعه . بل ( وإن ) كان ( جلد ميتة لم يدبغ ) قاله ابن القاسم في المدونة ، ونصها من غصب جلد ميتة غير مدبوغ فعليه إن أتلفه قيمته ما بلغت كما لا يباع كلب ماشية أو زرع أو ضرع وعلى قاتله قيمته ما بلغت . البناني لو عبر بلو بدل إن كان أولى لرد الخلاف المذهبي . ابن رشد عقب نصها وقال في المبسوط لا شيء عليه فيه وإن دبغ لأنه لا يجوز بيعه . وقيل لا شيء فيه إلا أن يدبغ ففيه قيمته . وقيل إن دبغ فليس فيه إلا قيمة دبغه . والصواب أن يلزمه قيمة ذلك كله لجواز الانتفاع به ، والله أعلم ( أو ) إن كان ( كلبا ) مأذونا فيه لصيد أو حراسة ماشية أو زرع . اللخمي فإن كان كلب دار فلا يغرم قيمته ، وعلى الغاصب القاتل الكلب المأذون فيه قيمته يوم غصبه إن قتله بعد غصبه له قبل قتله ، هذا قول ابن القاسم وأشهب وهو المذهب . وقال ابن القاسم أيضا وسحنون لربه أخذ قيمته يوم قتله ، ومفهوم تعديا أنه لو قتله لدفعه عن نفسه حين عداء الكلب عليه ولم يمكنه التخلص منه إلا بقتله فلا شيء عليه وهو كذلك أفاده الحط ، ونصه في بعض النسخ بعداء بباء جر داخلة على [ ص: 100 ] عداء بفتح العين المهملة والمد وهو تجاوز الحد والظلم قاله في الصحاح . وفي بعض النسخ ولو تعديا بالمثناة من فوق أوله والتحتية آخره ، والمعنى أنه يضمن المقوم بقيمته يوم غصبه ولو قتل الغاصب المغصوب تعديا منه ، وهذا قول ابن القاسم وأشهب . وقال سحنون وابن القاسم أيضا في أحد قوليه له أخذه بالقيمة يوم القتل كالأجنبي .

" غ " قوله ولو قتله تعديا راجع لقوله بقيمته يوم غصبه ورده للكلب كما في الشامل ليس بشيء . تت إن أراد أنه لا خصوصية للكلب بذلك وأن القتل كالغصب في إيجاب القيمة على القاتل ، فقد تقدم أن إتلاف المقوم يوجب قيمته ، فلم يفد شيئا غير ما تقدم ، وإن أراد أن المعتبر في تقويمه يوم غصبه فلا خصوصية له بذلك أيضا لأن المصنف أعطى حكما كليا يعمه وغيره ، ونحوه ما في الشامل . وإذا كان كذلك فهو شيء حسن ، وأيضا الكلام إنما هو في مجرد قتل بغير غصب ، فلا يتأتى ما قاله والله أعلم . إنما ذكر المصنف هذا في الكلب لئلا يتوهم عدم قيمته . طفي جعله المبالغة في الكلب تبع فيه الشارح والصواب أنها مبالغة في قوله وغير مثلي بقيمته يوم غصبه ولو كان الغاصب قتل المغصوب تعديا منه ، وهذا قول ابن القاسم وأشهب . وقال سحنون وابن القاسم في أحد قوليه له أخذه بقيمته يوم قتله كالأجنبي ، هذا هو الموافق لكلام ابن الحاجب وابن شاس والمدونة ، وبه قرر الحط وغيره ، وعليه يتفرع قوله : وخير في الأجنبي ، فإنه إشارة للفرق بين قتل الغاصب والأجنبي ولا خصوصية للقتل ، فلو عبر بالإتلاف كابن الحاجب لكان أعم ، وأصل هذا التقرير لابن غازي وتحامل عليه تت في كبيره ، وذكر نصه المتقدم ثم قال وقوله إنما هو في مجرد قتله بلا غصب غير صواب إذ هو خروج عما الكلام فيه ، ولا تحسن المبالغة حينئذ ، إذ لا خلاف يشير إليه بها ويفوت المصنف الكلام على الغاصب إذا قتل المغصوب وهي مسألة مشهورة معلومة في كلام الأئمة . ابن الحاجب وغيره والخلاف فيها مبني على عدم اعتبار تعدد الأسباب في الضمان إذا كانت من فاعل واحد والله الموفق . [ ص: 101 ]

( تنبيهات )

الأول : لم يوقت الإمام مالك " رضي الله عنه " في المدونة في أثمان الكلاب بأن في كلب الماشية شاة ، وفي كلب الصيد أربعين درهما ، وفي كلب الزرع فرقا من طعام بفتح الفاء والراء ستة عشر رطلا ، وإنما قال فيها على قاتله قيمته .

الثاني : أطلق الكلب اعتمادا على قوله تعديا أو بعداء لأن غير المأذون فيه قتله مباح .

الثالث : لهاتين المسألتين نظائر في لزوم القيمة مع امتناع البيع وهي بئر الماشية ولحم الأضحية وخمر الذمي والثمرة التي لم يبد صلاحها وأم الولد والزرع قبل بدو صلاحه والمدبر . .




الخدمات العلمية