الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأركانه ستة على ما نظمه ابن الغرس بقوله : أطراف كل قضية حكمية ست يلوح بعدها التحقيق حكم [ ص: 353 ] ومحكوم به وله ومحكوم عليه وحاكم [ ص: 354 ] وطريق ( وأهله أهل الشهادة ) أي أدائها على المسلمين كذا في الحواشي السعدية [ ص: 355 ] ويرد عليه أن الكافر يجوز تقليده القضاء ليحكم بين أهل الذمة ذكره الزيلعي في التحكيم .

التالي السابق


( قوله : وأركانه ستة إلخ ) فيه نظر ; لأن المراد بالقضاء الحكم كما مر ، والحكم أحد الستة المذكورة فيلزم أن يكون ركنا لنفسه فالمناسب ما في البحر من أن ركنه ما يدل عليه من قول أو فعل ويأتي بيانه .

( قوله : على ما نظمه ) أي من بحر الكامل ونصف البيت الثاني الحاء من محكوم ط .

( قوله : ابن الغرس ) بالغين المعجمة هو العلامة أبو اليسر بدر الدين محمد الشهير بابن الغرس له شرح على البيتين المذكورين وهو الرسالة المشهورة المسماة الفواكه البدرية في البحث عن أطراف القضايا الحكمية وله الشرح المشهور على شرح العقائد النسفية للتفتازاني .

( قوله : أطراف كل قضية حكمية ) الأطراف جمع طرف بالتحريك وطرف الشيء منتهاه ، وقضية أصله قضوية بياء النسبة إلى القضاء حذفت منه الواو بعد قلبها ألفا وحكمية صفة مخصصة ; لأن القضاء يطلق على معان منها الحكم كما مر والمراد بالقضية الحادثة التي يقع فيها التخاصم كدعوى بيع مثلا فركنها اللفظ الدال عليها ، ولا تكون قضوية أي منسوبة إلى القضاء والحكم أي لا تكون محلا لثبوت حق المدعي فيها وعدمه إلا باستجماع هذه الشروط الستة التي هي بمنزلة أطراف الشيء المحيطة به أو أطراف الإنسان هذا ما ظهر لي فافهم .

( قوله : بعدها ) بتشديد الدال مصدر عد الشيء يعده أحصى عدة أفراده ، ويلوح بمعنى يظهر والتحقيق فاعله .

( قوله : حكم ) تقدم تعريفه ، وعلمت أنه قولي وفعلي فالقولي مثل ألزمت وقضيت مثلا ، وكذا قوله بعد إقامة البينة لمعتمده أقمه واطلب الذهب منه وقوله ثبت عندي يكفي ، وكذا ظهر عندي أو علمت فهذا كله حكم في المختار زاد في الخزانة أو أشهد عليه ، وحكى في التتمة الخلاف في الثبوت ، والفتوى على أنه حكم كما في الخانية وغيرها وتمامه في البحر وذكر في الفواكه البدرية أنه المذهب ولكن عرف المشرعين والموثقين الآن على أنه ليس بحكم ، ولذا يقال : ولما ثبت عنده حكم والوجه أن يقال إن وقع الثبوت على مقدمات الحكم كقول المسجل ثبت عنده جريان العين في ملك البائع إلى حين البيع ، فليس بحكم إذا كان المقصود من الدعوى الحكم على البائع بملك المشتري للعين المبيعة وإلا فهو حكم وتمامه فيها وفيها أيضا . [ ص: 353 ] مطلب في التنفيذ

وأما التنفيذ فالأصل فيه أن يكون حكما إذ من صيغ القضاء قوله : أنفذت عليك القضاء قالوا وإذا رفع إليه قضاء قاض أمضاه بشروطه ، وهذا هو التنفيذ الشرعي ومعنى رفع اليد حصلت عنده فيه خصومة شرعية ، وأما التنفيذ المتعارف في زماننا غالبا فمعناه إحاطة القاضي الثاني علما بحكم الأول على وجه التسليم له ويسمى اتصالا ا هـ ملخصا وسيأتي تمام الكلام عليه في آخر فصل الحبس . مطلب أمر القاضي هل هو حكم أو لا ؟

وأما أمر القاضي فاتفقوا على أن أمره بحبس المدعى عليه قضاء بالحق كأمره بالأخذ منه ، وعلى أن أمره بصرف كذا من وقف الفقراء إلى فقير من قرابة الواقف ليس بحكم ، حتى لو صرفه إلى فقير آخر صح واختلفوا في قوله سلم الدار وتمام الكلام عليه في البحر والنهر ، وأطلق الشارح في الفروع آخر الفصل الآتي تبعا للبزازي أنه حكم إلا في مسألة الوقف وسيأتي تمامه . مطلب الحكم الفعلي

وأما الحكم الفعلي فسيأتي في الفروع هناك أن فعل القاضي حكم إلا في مسألتين ، وحقق ابن الغرس أنه ليس بحكم وأطال الكلام عليه في البحر والنهر ، وسيأتي توضيحه هناك إن شاء الله تعالى .

( قوله : ومحكوم به ) وهو أربعة أقسام حق الله تعالى المحض كحد الزنا أو الخمر ، وحق العبد المحض ، وهو ظاهر وما فيه الحقان وغلب فيه حق الله تعالى كحد القذف أو السرقة أو غلب فيه حق العبد كالقصاص والتعزير ابن الغرس وشرطه كونه معلوما ، بحر عن البدائع ، وعن هذا فالحكم بالموجب بفتح الجيم لا يكفي ما لم يكن الموجب أمرا واحدا كالحكم بموجب البيع أو الطلاق أو العتاق وهو ثبوت الملك والحرية ، وزوال العصمة فلو أكثر فإن استلزم أحدهما الآخر صح ، كالحكم على الكفيل بالدين فإن موجبه الحكم عليه به ، وعلى الأصيل الغائب وإلا فلا كما لو وقع التنازع في بيع العقار فحكم شافعي بموجبه فإنه لا يثبت به منع الجار عن الشفعة فللحنفي الحكم بها وأطال في بيانه العلامة ابن الغرس وسيذكره الشارح آخر الفصل الآتي لكن هذا في الحقيقة راجع إلى اشتراط الدعوى في الحكم كما أشار إليه في البحر ويأتي ذكره في الطريق .

( قوله : وله ) أي ومحكوم له وهو الشرع كما في حقوقه المحضة أو التي غلب فيها حقه ولا حاجة في ذلك إلى الدعوى بخلاف ما تمحض فيها حق العبد أو غلب والعبد هو المدعي ، وعرفوه بمن لا يجبر على الخصومة إذا تركها ، وقيل غير ذلك والشرط فيه بالإجماع حضرته أو حضرة نائب عنه كوكيل أو ولي أو وصي فالمحكوم له المحجور كالغائب ا هـ ملخصا من الفواكه البدرية .

( قوله : ومحكوم عليه ) وهو العبد دائما لكنه إما متعين واحدا أو أكثر كجماعة اشتركوا في قتل فقضي عليهم بالقصاص أو لا ، كما في القضاء بالحرية الأصلية ، فإنه حكم على كافة الناس ، بخلاف العارضة بالإعتاق فإنه جزئي واختلفوا في الوقف والصحيح المفتى به أنه لا يكون على الكافة فتسمع فيه دعوى الملك ، أو وقف آخر والمحكوم عليه في حقوق الشرع من يستوفي منه حقه ، سواء كان مدعى عليه أو لا ، كما مرت الإشارة إليه ا هـ ملخصا من الفواكه وسيذكر المصنف آخر الفصل الآتي حكاية الخلاف في نفاذ الحكم على الغائب ، ويأتي تحقيقه هناك إن شاء الله تعالى .

( قوله : وحاكم ) هو إما الإمام أو القاضي أو المحكم أما الإمام فقال علماؤنا حكم السلطان العادل ينفذ واختلفوا في المرأة فيما سوى الحدود والقصاص وإطلاقهم [ ص: 354 ] يتناول أهلية الفاسق الجاهل ، وفيه بحث وأما المحكم فشرطه أهلية القضاء ويقضي فيما سوى الحدود والقصاص ثم القاضي تتقيد ولايته بالزمان والمكان والحوادث ا هـ ملخصا من الفواكه ، وجميع ذلك سيأتي مفرقا في مواضعه مع بيان بقية صفة الحاكم وشروطه .

( قوله : وطريق ) طريق القاضي إلى الحكم يختلف بحسب اختلاف المحكوم به والطريق فيما يرجع إلى حقوق العباد المحضة عبارة عن الدعوى والحجة : وهي إما البينة أو الإقرار أو اليمين أو النكول عنه أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به أو القرائن الواضحة التي تصير الأمر في حيز المقطوع به فقد قالوا لو ظهر إنسان من دار بيده سكين وهو متلوث بالدم سريع الحركة عليه أثر الخوف فدخلوا الدار على الفور فوجدوا فيها إنسانا مذبوحا بذلك الوقت ولم يوجد أحد غير ذلك الخارج ، فإنه يؤخذ به وهو ظاهر إذ لا يمتري أحد في أنه قاتله ، والقول بأنه ذبحه آخر ثم تسور الحائط أو أنه ذبح نفسه احتمال بعيد لا يلتفت إليه إذ لم ينشأ عن دليل ، ا هـ من الفواكه لابن الغرس ثم أطال هنا في بيان الدعوى ، وتعريفها وشروطها إلى أن قال : ثم لا يشترط في الطريق إلى الحكم أن تكون بتمامها عند القاضي الواحد ، حتى لو ادعى عند نائب القاضي ، وبرهن ثم وقعت الحادثة إلى القاضي أو بالعكس صح وله أن يبني على ما وقع أولا ويقضي ا هـ ، وستأتي هذه متنا ثم قال في الفصل السابع وقد اتفق أئمة الحنفية والشافعية على أنه يشترط لصحة الحكم واعتباره في حقوق العباد الدعوى الصحيحة وأنه لا بد في ذلك من الخصومة للشرعية وإذا كان القاضي يعلم أن باطن الأمر ليس كظاهره وأنه لا تخاصم ولا تنازع في نفس الأمر بين المتداعيين ليس له سماع هذه الدعوى ولا يعتبر القضاء المترتب عليها ولا يصح الاحتيال لحصول القضاء بمثل ذلك وأما إذا لم يعلم عذر ونفذ قضاؤه ولعمري هذا شيء عمت به البلوى وبلغت شهرة اعتباره الغاية القصوى ا هـ ملخصا ، ونقله المصنف في المنح بتمامه وأقره فراجعه ، وكذا جزم به في فتاواه . [ تنبيه ]

بقي طريق ثبوت الحكم أي بعد وقوعه ، وعليه اقتصر في البحر فقال له وجهان :

أحدهما : اعترافه حيث كان مولى فلو معزولا فكواحد من الرعايا لا يقبل قوله إلا فيما في يده .

الثاني : الشهادة على حكمه بعد دعوى صحيحة إن لم يكن منكرا أما لو شهدا أنه قضى بكذا ، وقال لم أقض لا تقبل شهادتهما خلافا لمحمد ورجح في جامع الفصولين قول محمد لفساد قضاة الزمان ، ا هـ وسيأتي تمام الكلام عند قول المصنف ، ولم يعمل بقول معزول وقد ذكر في البحر فروعا كثيرة في أحكام القضاء يلزم الوقوف عليها .

( قوله : وأهله أهل الشهادة ) أهل الأول خبر مقدم والثاني مبتدأ مؤخر ; لأن الجملة الخبرية يحكم فيها بمجهول على معلوم فإذا علم زيد وجهل قيامه تقول زيد القائم ، وإذا علم وجهل أنه زيد تقول القائم زيد ; ولذا قالوا لما كان أوصاف الشهادة أشهر عند الناس عرف أوصافه بأوصافها ثم الضمير في أهله راجع إلى القضاء بمعنى من يصح منه أو بمعنى من يصح توليته كما في البحر . وحاصله : أن شروط الشهادة من الإسلام والعقل والبلوغ والحرية وعدم العمى والحد في قذف شروط لصحة توليته ، ولصحة حكمه بعدها ومقتضاه أن تقليد الكافر لا يصح ، وإن أسلم قال في البحر : وفي الواقعات الحسامية الفتوى على أنه لا ينعزل بالردة فإن الكفر لا ينافي ابتداء القضاء في إحدى الروايتين ، حتى لو قلد الكافر ، ثم أسلم هل يحتاج إلى تقليد آخر فيه روايتان ا هـ قال في البحر : وبه علم أن تقليد الكافر صحيح ، وإن لم يصح قضاؤه على المسلم حال كفره ا هـ ، وهذا ترجيح لرواية صحة التولية أخذا من كون الفتوى على أنه لا ينعزل بالردة خلافا لما مشى عليه المصنف في باب التحكيم من رواية عدم الصحة وفي الفتح قلد عبد فعتق جاز قضاؤه بتلك الولاية [ ص: 355 ] بلا حاجة إلى تجديد بخلاف تولية صبي فأدرك ، ولو قلد كافر فأسلم قال محمد : هو على قضائه فصار الكافر كالعبد ، والفرق أن كلا منهما له ولاية وبه مانع وبالعتق والإسلام يرتفع ، أما الصبي فلا ولاية له أصلا وما في الفصول لو قال لصبي أو كافر : إذا أدركت فصل بالناس أو اقض بينهم جاز لا يخالف ما ذكر في الصبي ; لأن هذا تعليق الولاية والمعلق معدوم قبل الشرط وما تقدم تنجيز ا هـ ، وبه ظهر أن الأولى كون المراد في مرجع الضمير من يصح منه القضاء لا من تصح توليته إلا أن يراد بها الكاملة وهي النافذة الحكم وأما تولية الأطرش فسيذكرها الشارح .

( قوله : ويرد عليه إلخ ) أي على ما في الحواشي من تقييده بالمسلمين ، فكان عليه إسقاطه ليكون المراد أداءها على من يقضي عليه فيدخل الكافر ، لكن التفسير بالأداء احتراز عن التحمل ; لأنه يصح تحملها حالة الكفر والرق لا أداؤها فينافي ذلك ، والتحقيق أن يقال كما يعلم مما قدمناه إن كان المراد بمرجع الضمير من تصح توليته يكون المراد بالشهادة تحملها فيدخل فيه العبد والكافر . نعم يخرج عنه الصبي لعدم ولايته أصلا ، وإن كان المراد من يصح منه القضاء يكون المراد بالشهادة أداءها فقط ، فيدخل فيه الكافر المولى على أهل الذمة فإنه يصح قضاؤه عليهم حالا وكونه قاضيا خاصا لا يضر كما لا يضر تخصيص قاضي المسلمين بجماعة معينين ; لأن المراد من يصح قضاؤه في الجملة وعلى كل فالواجب إسقاط ذلك القيد إلا أن يكون مراده تعريف القاضي الكامل .

( قوله : ليحكم بين أهل الذمة ) أي حال كفره وإلا فقد علمت أن الكافر يصح توليته مطلقا لكن لا يحكم إلا إذا أسلم . مطلب في حكم القاضي الدرزي والنصراني [ تنبيه ]

ظهر من كلامهم حكم القاضي المنصوب في بلاد الدروز في القطر الشامي ، ويكون درزيا ويكون نصرانيا فكل منهما لا يصح حكمه على المسلمين ، فإن الدرزي لا ملة له كالمنافق والزنديق وإن سمى نفسه مسلما وقد أفتى في الخيرية بأنه لا تقبل شهادته على المسلم . والظاهر أنه يصح حكم الدرزي على النصراني وبالعكس تأمل ، وهذا كله يعد كونه منصوبا من طرف السلطان أو مأموره بذلك وإلا فالواقع أنه ينصبه أمير تلك الناحية ، ولا أدري أنه مأذون له بذلك أم لا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، لكن جرت العادة أن أمير صيدا يولى القضاء في تلك الثغور والبلاد بخلاف دمشق ونحوها ، فإن أميرها ليس له ذلك فيها بدليل أن لها قاضيا في كل سنة يأتي من طرف السلطان ثم رأيت في الفتح قال : والذي له ولاية التقليد الخليفة والسلطان الذي نصبه الخليفة ، وأطلق له التصرف وكذا الذي ولاه السلطان ناحية ، وجعل له خراجها وأطلق له التصرف فإن له أن يولي ويعزل كذا قالوا : ولا بد من أن لا يصرح له بالمنع أو يعلم ذلك بعرفهم فإن نائب الشام وحلب في ديارنا يطلق لهم التصرف في الرعية والخراج ولا يولون القضاء ولا يعزلون ا هـ والله سبحانه أعلم




الخدمات العلمية