الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4999 5000 5001 5002 5003 5004 ص: حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس، قال: " قدم ثمانية رهط من عكل ، فاستوخموا المدينة، ، فبعثهم النبي -عليه السلام- إلى ذود له، فشربوا من ألبانها، فلما صحوا ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي الإبل، وساقوا الإبل، فبعث في آثارهم، فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم حتى ماتوا".

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا عبد الله بن بكر ، قال: ثنا حميد الطويل ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.

                                                حدثنا أبو أمية ، قال: ثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس : - رضي الله عنه -: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله قال: هم من عكل، ، قطع النبي -عليه السلام- أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم".

                                                [ ص: 251 ] حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حميد ، عن أنس (ح).

                                                وحدثنا صالح ، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس: " أن النبي -عليه السلام- قطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم حتى ماتوا".

                                                حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان ، قال: ثنا زهير، قال: ثنا سماك بن حرب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- نفر من حي من أحياء العرب، فأسلموا وبايعوه، قال: فوقع الموم -وهو البرسام- فقالوا: يا رسول الله هذا الوجع قد وقع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فكنا فيها؟ قال: نعم، اخرجوا فكونوا فيها، فخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين، وذهبوا بالإبل، قال: وجاء الآخر وقد خرج فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. وعنده شبان من الأنصار قربت من عشرين، قال: فأرسل إليهم الشبان، وبعث معهم قائفا يقص آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم". . ففعل رسول الله -عليه السلام- بالعرنيين ما فعل بهم من هذا، فلما حل له من سفك دمائهم، فكان له أن يقتلهم كيف أحب وإن كان ذلك تمثيلا بهم; لأن المثلة حينئذ كانت مباحة، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها رسول الله -عليه السلام- فلم يكن لأحد أن يفعلها، فيحتمل أن يكون فعل باليهودي ما فعل من أجل ذلك، ثم نسخ ذلك بعد بنسخ المثلة، . ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- لم ير ما وجب على اليهودي من ذلك لله، ولكنه رآه واجبا لأولياء الجارية، فقتله لهم، واحتمل أن يكون قتله كما فعل; لأن ذلك هو الذي وجب عليه، واحتمل أن يكون الذي كان وجب عليه هو سفك الدم بأي شيء ما شاء الولي سفكه به، فاختاروا الرضخ، ففعل ذلك لهم رسول الله -عليه السلام-.

                                                هذه الوجوه يحتملها هذا الحديث، ولا دلالة معنا تدلنا أن النبي -عليه السلام- أراد بعضها دون بعض.

                                                [ ص: 252 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 252 ] ش: هذا بيان لقوله كما فعل رسول الله -عليه السلام- بالعرنيين.

                                                وأخرجه من ستة طرق صحاح:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم ، عن عبد الله بن وهب ، عن جرير بن حازم ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

                                                وأخرجه البخاري: نا موسى بن إسماعيل ، عن وهيب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس، قال: "قدم رهط من عكل على النبي -عليه السلام- كانوا في الصفة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله ابغنا رسلا فقال: ما أجدكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله -عليه السلام- فأتوها فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأتى النبي -عليه السلام- الصريخ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتي بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا. قال أبو قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله".

                                                وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضا.

                                                الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري ، عن حميد الطويل ، عن أنس - رضي الله عنه -.

                                                وأخرجه أبو داود: عن موسى ، عن حماد ، عن حميد ، عن أنس، نحو رواية البخاري .

                                                [ ص: 253 ] والنسائي أيضا من حديث حميد ، عن أنس - رضي الله عنه -.

                                                الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري ، عن سفيان الثوري ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد ، عن أنس .

                                                وأخرجه النسائي: عن أحمد بن سليمان ، عن محمد بن بشر ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس، قال: "أتى النبي -عليه السلام- نفر من عكل -أو عرينة- فأمر لهم واجتووا المدينة بذود ولقاح يشربون ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث في طلبهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم".

                                                الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود ، عن هشيم بن بشير ، عن حميد الطويل ، عن أنس .

                                                وأخرجه النسائي: من حديث حميد ، عن أنس .

                                                الخامس: عن صالح أيضا، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم بن بشير ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس .

                                                وأخرجه مسلم: عن يحيى بن يحيى التميمي وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هشيم -واللفظ ليحيى، قال: أنا هشيم ، عن عبد العزيز بن صهيب وحميد ، عن أنس بن مالك: " أن أناسا من عرينة قدموا على رسول الله -عليه السلام- المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود النبي -عليه السلام- فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- [ ص: 254 ] فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا".

                                                السادس: عن فهد بن سليمان ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية ، عن سماك بن حرب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس .

                                                وأخرجه مسلم: عن هارون بن عبد الله ، عن مالك بن إسماعيل ، عن زهير ، عن سماك بن حرب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- نفر من عرينة، وأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الموم وهو البرسام...." الحديث.

                                                وأخرجه الطحاوي مرة في باب الرجل يكون به الداء هل يجتنب أم لا؟ وأخرجه أيضا من طرق أخرى في الباب المذكور: عن يونس ، عن بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أنس .

                                                قوله: "ثمانية رهط من عكل" الرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، قال الله تعالى: وكان في المدينة تسعة رهط

                                                و"عكل": بضم العين المهملة، وسكون الكاف، وفي آخره لام وهي قبيلة، قال ابن الأثير: عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناف بن أد بن طابخة، وحكى ابن الكلبي قال: ولد عوف بن وائل: الحارث وحسما وسعدا وعديا وقيسا، وأمهم ابنة ذي اللحية من حمير، وحضنتهم عكل أمة لهم فغلبت عليهم، قال ابن دريد: اشتقاق عكل من قولهم: عكلت الشيء أعكله عكلا: إذا جمعته، قال الشاعر:


                                                وهم على [هدب] الأميل تداركوا نعما تشل إلى الرئيس وتعكل



                                                [ ص: 255 ] أي: يجمع.

                                                وقال أبو جعفر أحمد بن محمد: يكون من عكل يعكل عكلا إذا قال برأيه، مثل حدس، ورجل عكل أي أحمق، منهم خزيمة بن عاصم بن قطن بن عبد الله بن عبادة بن سعد بن عوف، وسعد هو ممن حضنته عكل.

                                                وخزيمة هذا هو الذي أتى النبي -عليه السلام- بإسلام عكل فمسح وجهه وكتب له كتابا يوصي به من ولي الأمر بعد النبي -عليه السلام- وجعله شاعر قومه. ذكر ذلك ابن الكلبي .

                                                قوله: "فاستوخموا المدينة" أي استثقلوها ولم يوافق هواؤها أبدانهم، يقال: بلدة وخيمة إذا لم توافق ساكنها، ومنه استوخمت الطعام.

                                                قوله: "إلى ذود" بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخره دال مهملة، وهي من الإبل ما بين الثلاث إلى العشرة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير أذواد.

                                                وقال أبو عبيد: الذود من الإناث دون الذكور، وقيل: الذود ما بين الثنتين إلى التسع.

                                                قوله: "وقتلوا راعي الإبل" الراعي هذا اسمه يسار وهو مولى رسول الله -عليه السلام- وقيل: كان رسول الله -عليه السلام- أصابه في غزوة محارب وبني ثعلبة، فجعله رسول الله -عليه السلام- في لقاح له يرعى ناحية الحمى.

                                                قوله: "سمل أعينهم" أي فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: هو نقرها بالشوك، وهو بمعنى السمر الذي جاء في رواية أخرى: "فسمر أعينهم" أي أحمى لهم مسامير الحديد، ثم كحلهم بها.

                                                قوله: "فوقع الموم" بميمين أولاهما مضمومة بينهما واو ساكنة، وقد فسره في الحديث بالبرسام، وهي علة معروفة.

                                                [ ص: 256 ] قوله: "وبعث معهم قائفا" وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، من قاف يقوف قيافة.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: أن قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية، نزلت في هؤلاء الذين ساقوا ذود النبي -عليه السلام- وقتلوا راعيه، على ما نص عليه أنس بن مالك - رضي الله عنه - في روايته، وذكر بعضهم عن أنس أنه قال: "إن خبر العرنيين كان سبب نزول الآية".

                                                وروى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس: "أنها نزلت في أصحاب أبي بردة الأسلمي، وكان موادعا للنبي -عليه السلام- فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام، فنزل ذلك فيهم".

                                                وروى عكرمة عن ابن عباس: "أنها نزلت في المشركين" فلم يذكر مثل قصة العرنيين.

                                                وروي عن ابن عمر: "أنها نزلت في العرنيين" ولم يذكر ردة.

                                                وقال الحسن البصري: "نزلت في الكفار دون المسلمين; وذلك أن المسلم لا يحارب الله ورسوله".

                                                قال الخطابي: وقال أكثر العلماء: إنها نزلت في أهل الإسلام، والدليل على ذلك إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم والإسلام عن الكفر يحقن الدم قبل القدرة وبعدها، فعلم أن المراد بها المسلمون.

                                                فأما قوله سبحانه وتعالى: يحاربون الله ورسوله فمعناه: يحاربون المسلمين الذين هم حزب الله وحزب رسوله، وأضيف ذلك إلى الله وإلى رسوله كما في قوله -عليه السلام-: "من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".

                                                [ ص: 257 ] وقال ابن العربي في "الأحكام": في سبب نزولها خمسة أقوال:

                                                الأول: أنها نزلت في أهل الكتاب; نقضوا العهد، وأخافوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه -عليه السلام- فيهم.

                                                الثاني: أنها نزلت في المشركين. قاله الحسن.

                                                الثالث: نزلت في عكل وعرينة.

                                                الرابع: أن هذه الآية نزلت معاتبة للنبي -عليه السلام- في العرنيين. قاله الليث.

                                                الخامس: قال الليث: هي ناسخة لما فعل بالعرنيين.

                                                واختار الطبري أنها نزلت في يهود، ودخل تحتها كل ذمي وملي وهذا ما لم يصح، وأنه لم يبلغنا أن أحدا من اليهود حارب ولا أنه جوزي بهذا الجزاء.

                                                ومن قال: "إنها نزلت في المشركين" أقرب إلى الصواب; لأن عكلا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد; لأن الكفار لا يختلف حكمهم ولا يلزم صلبهم، ولا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبلها، وقد قيل في الكفار: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال في المحاربين: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وكذلك المرتد يقتل بالردة والمحاربة، وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل.

                                                فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون.

                                                وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام": لا يخلو نزول الآية من أن تكون في العرنيين أو الموادعين، فإن كان في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم; لأنهم لا حكم للسبب عندنا، وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ إلا أن يقوم الدليل على الاقتصار على السبب; ولأن الآية عامة [ ص: 258 ] في سائر من يتناوله الاسم، غير مقصورة الحكم على المرتدين، وقد روى همام ، عن قتادة ، عن ابن سيرين قال: "كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود" فأخبر أنه كان قبل نزول الآية.

                                                ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب، وليس فيها ذكر سمل الأعين، ولا يجوز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم، ولا أن يكونوا مرادين بها; لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي -عليه السلام- حكمها عليهم، فلما لم يصلبهم النبي -عليه السلام- وسملهم; دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتا حينئذ، فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين، وأنه عام في سائر المحاربين.

                                                وقال أيضا: لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مقصور على أهل الردة، وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة.

                                                وحكى عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين، وهو قول ساقط مرذول مخالف للآية وإجماع الخلف والسلف.

                                                ويدل على أن المراد به قطاع الطريق من أهل الملة قوله: إلا الذين تابوا الآية.

                                                الثاني: فيه حكم المحاربين، فإذا حارب الرجل الرجل فقتل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف، وقتل وصلب، فإن قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي.

                                                وروي عن أبي حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم "في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل: فإن الإمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف، وقتله وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله، وإن شاء قتله ولم يقطع يده ولا رجله ولم يصلبه. وإن أخذ مالا ولم يقتل عزر ونفي من الأرض".

                                                [ ص: 259 ] وفي رواية أخرى: "أوجع عقوبة، وحبس حتى يحدث خيرا".

                                                وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني، فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب.

                                                وقال آخرون: الإمام مخير فيهم إذا خرجوا -يجري عليهم أي هذه الأحكام إن شاء- ولم يأخذوا مالا.

                                                وممن قال بذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح .

                                                وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر -رحمهم الله-: إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا.

                                                وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك.

                                                وإن قتلوا وأخذوا المال، فإن أبا حنيفة قال: للإمام أربع خيارات: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وإن شاء صلبهم، وإن شاء قتلهم وترك القطع.

                                                وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون.

                                                وقال الشافعي: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا لم يقتلوا وأخذوا المال قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل نفوا، وإذا هربوا طلبوا حتى يوجدوا فتقام عليهم الحدود، ومن تاب من قبل أن يقدروا عليه سقط عنه الحد، ولا تسقط حقوق الآدميين، ويحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، ويقطع من سرق ربع دينار فصاعدا.

                                                وقال مالك: إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام يخير في إقامة الحدود التي أمر الله بها قتل المحارب أو لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذ، الإمام يخير في [ ص: 260 ] ذلك، إن شاء قتل، وإن شاء قطعه خلافا، وإن شاء نفاه، ونفيه حبسه حتى تظهر توبته، فإن لم يقدر على المحارب حتى أتاه تائبا وضع عنه المحاربة القتل والقطع والنفي، وأخذ بحقوق الناس.

                                                وقال الليث بن سعد: الذي يقتل ويأخذ المال، يصلب ويطعن بالحربة حتى يموت، والذي يقتل، فإنه يقتل بالسيف.

                                                وقال أبو الزناد: المحاربون ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب، من قطع أو قتل أو صلب أو نفي.

                                                واختلفوا في الموضع الذي يكون به محاربا.

                                                فقال أبو حنيفة: من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا، أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا; لا يكون قاطعا للطريق، ولا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحاري.

                                                وحكى أصحاب الإمام عن أبي يوسف أن الأمصار وغيرها سواء، وهم محاربون، يقام حدهم.

                                                وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين (يكبسون) الناس ليلا في دورهم في المصر: أنهم بمنزلة قطع الطريق، تجري عليهم أحكامهم.

                                                وحكي عن مالك أنه قال: لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية. وذكر عنه أيضا قال: المحاربة أن يقاتل على طلب المال من غير ثائرة. ولم يفرق هاهنا بين المصر وغيره.

                                                وقال الشافعي: قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال، والصحاري والمصر واحد.

                                                وقال الثوري: لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها.

                                                [ ص: 261 ] الثالث: أن إبل الصدقة يجوز لأبناء السبيل شرب لبنها; وذلك أن هذه اللقاح كانت من إبل الصدقة روي ذلك في حديث حماد ، عن حميد وقتادة وثابت ، عن أنس، فذكر القصة قال: "فبعثهم رسول الله -عليه السلام- في إبل الصدقة".

                                                قوله: "فلما حل له" أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من سفك دمائهم، أي دماء العرنيين.

                                                حاصله أنه -عليه السلام- لما أبيح له سفك دماء هؤلاء; مجازاة لما فعلوا، أبيح له أن يقتلهم كيف أحب، وإن كانت فيه مثلة; لأن المثلة حينئذ ما كانت حراما، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها -عليه السلام- فلم يجز بعد ذلك فعلها.

                                                ثم إن فعله -عليه السلام- باليهودي المذكور في حديث أنس يحتمل أن يكون من هذا القبيل، ثم نسخ بنسخ المثلة، وذكر فيه أربع احتمالات:

                                                الأول: هذا.

                                                والثاني: يحتمل أن يكون ما وجب على اليهودي حقا لأولياء الجارية التي قتلها اليهودي، فقتله لأجلهم لا لله تعالى حقا له.

                                                والثالث: يحتمل أن يكون فعل به ما فعل؛ لكونه هو الواجب عليه.

                                                والرابع: يحتمل أن يكون الواجب عليه سفك دمه بأي شيء اختاره الولي، فلما اختار أولياؤه الرضخ أمر بأن يرضخ به.

                                                فإذا كان الحديث المذكور محتملا هذه الاحتمالات، ولم يقم دليل قاطع أن النبي -عليه السلام- أراد بعضها دون بعض، لم يقم به الاستدلال في تعيين وجه من الوجوه. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية