الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5043 ص: وحجة أخرى: أن هذا الحديث إنما روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم أنه روي عن غيره من طريق صحيح، فهو كان أعلم بتأويله، وتأويله هو فيه -إذ كان محتملا عندكم هذين المعنيين اللذين ذكرنا- دليل على أن معناه في الحقيقة هو ما تأوله علي .

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بقوله: "حجة أخرى": جوابا آخر، وهو أن هذا الحديث الذي رواه قيس بن عباد إنما رواه عن علي بن أبي طالب ، عن النبي -عليه السلام- وكان علي - رضي الله عنه - أعلم بتأويله، وتأويل علي - رضي الله عنه - فيه هو الذي يدل على أن معناه في الحقيقة هو الذي ما تأوله عليه من أن المراد بالكافر: هو الكافر الحربي على ما يجيء بيانه عن قريب.

                                                [ ص: 347 ] قوله: "ولا نعلم أنه روي عن غيره" أي ولا نعلم أن هذا الحديث روي عن غير علي من طريق صحيح. وأشار بذلك إلى أن طريق هذا الحديث التي رويت عن غير علي غير صحيحة، فالطريق الصحيح هو الذي روي عن علي - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري ومسلم وبقية الجماعة فاقتصر عليه؛ فلذلك قلنا: إنه كان أعلم بتأويله; لانفراده به وبمعناه.

                                                فإن قلت: عمن روي عن غير علي - رضي الله عنه -؟

                                                قلت: روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمران بن حصين ، ومعقل بن يسار، وعائشة الصديقة، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن مرسلا.

                                                أما ما روي عن عبد الله بن عمرو، فأخرجه أبو داود: نا عبيد الله بن عمر، قال: ثنا هشيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.... فذكر نحو حديث علي - رضي الله عنه - زاد فيه: "ويجير عليهم أقصاهم ويرد مشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم".

                                                وأخرجه ابن ماجه أيضا، وهذا الإسناد لا يلحق إسناد حديث علي - رضي الله عنه - لأن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده مختلف في الاحتجاج به.

                                                قوله: "ويجير عليهم أقصاهم" أي: إن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا [عقد] عقدا لكافر لم يكن لأحد أن ينقضه.

                                                قوله: "ويرد مشدهم" المشد: الذي له دواب شديدة قوية، والمضعف الذي دوابه ضعيفة، يريد أن القوي من الغزاة يساهم الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة.

                                                قوله: "ومتسريهم" المتسري: الذي يخرج في السرية التي يبعثها الإمام من الجيش، فإذا غنموا شيئا كان بينهم وبين الجيش عامة; لأنهم ردء لهم، وأما إذا بعثهم من البلد فإنهم لا يردون على المقيمين شيئا.

                                                [ ص: 348 ] وأما السرية: فقال ابن السكيت: هي ما بين [خمسة] إلى ثلاثمائة. وقال الخليل: هي نحو أربعمائة، وهو الأظهر، وقد جاء في الخبر "خير السرايا أربعمائة" .

                                                وأما حديث ما روي عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - فأخرجه البيهقي في "سننه" وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن عياض ، عن عبد الملك بن عبيد ، عن خرينق بنت الحصين، عن أخيها عمران بن الحصين قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: ألم تر إلى ما صنع صاحبكم هلال بن أمية؟! لو قتلت مؤمنا بكافر لقتلته فدوه، فوديناه وبنو مدلج معنا، فجاءوا بغنم غفر لم أر أحسن منها ألوانا، وكانت بنو مدلج حلفاء بني كعب في الجاهلية".

                                                قلت: يزيد بن عياض متروك، قاله الذهبي .

                                                وأما ما روي عن معقل بن يسار فأخرجه أبو أحمد بن عدي الحافظ، نا عمر بن سنان، نا إبراهيم بن سعيد، نا أنس بن عياض ، عن عبد السلام بن أبي الجنوب ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، والمسلمون يد على من سواهم، تتكافأ دماؤهم".

                                                وأخرجه البيهقي من طريقه.

                                                [ ص: 349 ] قلت: عبد السلام متروك. قاله الذهبي .

                                                وأما ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه البيهقي في "سننه" وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو سعيد الصيرفي، نا أبو العباس، نا محمد بن سنان، نا عبيد الله بن عبد المجيد، نا ابن موهب -يعني- عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب قال: سمعت مالكا ، عن ابن أبي الرجال ، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "وجد في قائم سيف رسول الله -عليه السلام- كتابان، فذكر أحدهما، قال: وفي الآخر: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا تسافر المرأة ثلاث ليال إلا مع ذي رحم محرم".

                                                قلت: محمد بن سنان بن يزيد بن الذيال أبو الحسن القزاز البصري، قال عبد الرحمن بن خراش: هو كذاب. وكان أبو داود يطلق عليه الكذاب.

                                                ثم العجب من البيهقي يذكر مثل هذا الحديث في "سننه" وفي كتابه "الخلافيات" وغيرهما في معرض الاستدلال لإمامه، ثم يسكت عن بيان علته، وأعجب منه أنه استدل ببعض هذا الحديث وترك بعضه، فإنه عجيب عجيب.

                                                وأما ما روي عن مجاهد ومن معه فأخرجه الشافعي في "مسنده": أنا مسلم بن خالد ، عن ابن أبي حسين ، عن عطاء وطاوس -أحسبه قال: ومجاهد والحسن- أن رسول الله -عليه السلام- قال يوم الفتح: "لا يقتل مؤمن بكافر".

                                                قلت: مسلم بن خالد شيخ الشافعي، قال ابن المديني: ليس بشيء. وقال الرازي: لا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث.

                                                [ ص: 350 ] ولئن سلمنا صحة إسناد هذا، فالشافعي لا يقبل مرسل عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وغيرهم، سوى مراسيل سعيد بن المسيب -رحمه الله-.




                                                الخدمات العلمية