الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2308 ص: فإن قال قائل: فهل تجدون عن النبي - عليه السلام - في هذا شيئا يدل على ما قلتم؟ قيل له: نعم.

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا حماد بن سلمة، أن زيادا الأعلم أخبرهم، عن الحسن ، عن أبي بكرة قال: "جئت ورسول الله - عليه السلام - راكع وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف، ثم مشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - الصلاة قال: أيكم الذي ركع دون الصف؟ قال أبو بكرة: أنا. قال: زادك الله حرصا ولا تعد".

                                                حدثنا الحسين بن الحكم الحبري، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن زياد الأعلم، قال: ثنا الحسن: "أن أبا بكرة ركع دون الصف فقال له النبي - عليه السلام - زادك الله حرصا ولا تعد".

                                                ففي هذا الحديث أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله - عليه السلام - بإعادة الصلاة، فلو كان من صلى خلف الصف لا تجزئه صلاته لكان من دخل في الصلاة خلف الصف لا يكون داخلا فيها، ألا ترى أن من صلى على مكان قذر أن صلاته فاسدة، ومن افتتح الصلاة على مكان قذر ثم صار إلى مكان نظيف أن صلاته فاسدة، فكان كل من افتتح الصلاة في موطن لا يجوز له فيه أن يأتي الصلاة فيه بكمالها لم يكن داخلا في الصلاة، فلما كان دخول أبي بكرة في الصلاة دون الصف دخولا صحيحا كانت صلاة المصلي كلها دون الصف صلاة صحيحة.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: هل ورد شيء في الحديث يدل على ما قلتم من التأويل المذكور في الحديث المذكور لتصح صلاة المنفرد خلف الصف؟ فأجاب [ ص: 197 ] بقوله: نعم، ورد حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه -، فإنه ركع دون الصف فلم يأمره - عليه السلام - بإعادة الصلاة.

                                                ثم بين ذلك مشروحا بقوله: "فلو كان من صلى. . . " إلى آخره، وهو ظاهر.

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي بكرة من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن زياد بن حسان بن قرة الباهلي البصري وهو زياد الأعلم نسيب عبد الله بن عون، قال أحمد: ثقة ثقة. روى له البخاري وأبو داود والنسائي .

                                                عن الحسن البصري ، عن أبي بكرة نفيع ... إلى آخره.

                                                وأخرجه البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا همام ، عن الأعلم -وهو زياد- عن الحسن ، عن أبي بكرة: "أنه انتهى إلى النبي - عليه السلام - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - عليه السلام - فقال: زادك الله حرصا ولا تعد".

                                                الثاني: عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحبري بكسر الحاء وفتح الباء الموحدة بعدها راء مهملة نسبة إلى بيع الحبر جمع حبرة، والحبرة مثل العنبة: برد يماني، وهو من أهل الكوفة يروي عن عفان بن مسلم الصفار ، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا زياد الأعلم ، عن الحسن: "أن أبا بكرة جاء ورسول الله - عليه السلام - راكع، فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فلما قضى النبي - عليه السلام - صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبو بكرة: أنا، فقال النبي - عليه السلام -: زادك الله حرصا ولا تعد".

                                                [ ص: 198 ] الثالث: عن فهد بن سليمان ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي: أنا حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد ، عن زياد الأعلم، قال: ثنا الحسن، أن أبا بكرة حدثه: "أنه دخل المسجد والنبي - عليه السلام - راكع فركع دون الصف، فقال النبي - عليه السلام -: زادك الله حرصا ولا تعد".

                                                قوله: "ورسول الله - عليه السلام - راكع" جملة اسمية وقعت حالا، وكذلك قوله: "وقد حفزني النفس" جملة حالية، وحفزني من الحفز وهو الحث والإعجال.

                                                وقال الجوهري: حفزه أي: دفعه من خلفه يحفزه حفزا، والمعنى ها هنا النفس الشديد المتنابع الذي كأنه يحفز أي: يدفع من سياق والليل يحفز النهار أي يسوقه، وحفزته بالرمح أي طعنته، ومادته: "حاء مهملة، وفاء، وزاي معجمة".

                                                قوله: "دون الصف" أي وراءه.

                                                قوله: "زادك الله حرصا" أي في الخير والمبادرة إليه ; لأنه استعجل في الركوع قبل أن يتساوى مع من في الصف.

                                                قوله: "ولا تعد" إرشاد له في المستقبل إلى ما هو الأفضل.

                                                ويستفاد منه أحكام وهي:

                                                أن المشي إلى الصف بعد الشروع في الصلاة غير مفسد ولكنه مقدر، فقدره بعض أصحابنا بخطوة حتى لو مشى خطوتين أو أكثر فسدت صلاته، وقدره بعضهم بموضع سجوده، كذا في "المحيط".

                                                وأن الصلاة خلف الصف وحده تكره وإن كانت جائزة، وعن أبي حنيفة: إذا لم يجد فرجة في الصف ينتظر حتى يجيء آخر فيقوم معه، فإن لم يجد أحدا حتى [ ص: 199 ] أراد الإمام الركوع يجذب واحدا من الصف فيقوم معه لئلا يصير مرتكبا للمنهي عنه، وإن كان في الصحراء، قيل: يكبر أولا ثم يجذب أحدا من الصف حتى تأخذ تلك البقعة حرمة الصلاة فلا تفسد صلاة المجذوب.

                                                وقيل: وإن لم يكبر لا تفسد صلاته لأنه متى أراد الصلاة فقد أخذت تلك البقعة حرمة الصلاة فلا تفسد صلاة المجذوب، وقيل: وإن لم يكبر لا تفسد صلاته ; لأنه متى أراد الصلاة فقد أخذت تلك البقعة حرمة الصلاة.

                                                وأن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة ; لأن جزءا من الصلاة إذا جاز في حال الانفراد جاز سائر أجزائها، ولو لم تكن جائزة لأمره - عليه السلام - بالإعادة، فعلم أن الأمر بالإعادة في حديث وابصة على الاستحباب دون الوجوب، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية