الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            معالم تجديد المنهج الفقهي (أنموذج الشوكاني)

            حليمة بوكروشة

            المطلب الثالث: ممارسته العمل السياسي

            اشتغل الإمام الشوكاني إضافة إلى الإفتاء والقضاء بالسياسة، وكانت ممارسته للعمل السياسي صادرة عن دافعين أساسيين: الأول: واجبه الوظيفي، والثاني: قناعته الفكرية.

            أما واجبه الوظيفي: فمن خلال عمله قاضيا ومفتيا للديار اليمنية كان يأخذ البيعة لأئمة عصره عند توليهم الحكم من إخوانهم وأعمامهم وسائر آل قاسم وجميع الأعيان [1] . وهذه المهمة أكسبته نفوذا سياسيا، ذلك أن من هـذه البيعة تكون قـوة الإمام (أي الخليفة) الحقيقية [2] .

            ولقد وظف الشوكاني هـذا الحق السياسي الذي ضمنته له وظيفته [ ص: 100 ] الدينية -قاضي القضاة- في محاولة إصلاح الواقع السياسي، وذلك بمساندة المتوكل أحمد في إحداث الانقلاب الأبيض على أبيه الإمام المنصور علي ، الذي أوكل شئون إدارة الدولة إلى وزرائه، فاضطربت أمور الحكم، وخرجت بعض القبائل عليه، فكثر النهب والقتل، وحوصرت صنعاء فثار ابنه المتوكل أحمد على هـذه الأوضاع، وساءت علاقته بأبيه، فتدخل الشوكاني للمصالحة بينهما بصفته قاضي القضاة. وكانت نتيجة هـذه المساعي أن سلمت السلطة إلى الابن -المتوكل أحمد- على أن يحكم باسم أبيه [3] .

            أما قناعته الفكرية فتمثلت في رفضه مبدأ اعتزال العلماء الوظائف العامة في أجهزة الحكم والدولة، معتقدا أن زهد أهل العلم في شغل مراكز التغيير والإصلاح في المجتمع يفضي إلى ابتعاد المجتمع والدولة عن شريعة الإسلام، وإلى انتشار الظلم، ومن ثم التدهور العام للمجتمع الإسلامي [4] .

            وهذا الموقف الفكري جعله يقبل منصب (كاتب الحاكم) المكلف بتحرير مراسلات الخليفة. فلقد تولـى المراسـلات الخارجية التي جرت بين صاحب نجـد عبد العزيز بن سعود ، وبين الإمام منصور عـلي [5] . [ ص: 101 ]

            كما تولى الرد على رسـالة أمير مـكة للإمام المنصور حول الحملة الفرنسية على مصر [6] .

            كما أهله هـذا المنصب لقيادة المفاوضات التي جرت بين المتوكل أحمد وابـنه المهدي عبد الله من بعـده وبين آل سعود، وكذلك المفاوضات التي جرت بين المتوكل أحمد ومحمد علي باشا حاكم مصر [7] . كما كان المفاوض الرئيسي بيـن النظام اليمني الحـاكم وزعماء القبائـل المتمردة على سلطته [8] .

            ومن خلال عمله كاتبا للحكام مارس الشوكاني مهنة المستشار السياسي للنظام الحاكم، فكان يرافق أئمة زمانه في زياراتهم الميدانية التفقدية لمناطق اليمن، فينصح لهم، وينتقد قراراتهم التي ليس لها أي مسـوغ شرعي يبررها [9] .

            كما كان يصطحبهم في رحلاتهم العسكرية الهادفة إلى إخماد الفتن الداخلـية، فيشيـر عليهم في تخطيطهم العسكري، كما ينتقد ما يصدر عن جنودهم من تجاوزات شرعية [10] . [ ص: 102 ]

            ولما كانت السياسة الاقتصادية العادلة في نظره أحد عوامل استقرار الدولة [11] ، فقد جعل من اهتماماته السياسية نقد وتصويب السياسية الاقتصادية والمالية للدولة. إذ انتقد في قصيدة له لجوء المنصور علي إلى التغيير المستمر للعملة والزيادة في الضرائب، وإحداث ضرائب جديدة لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي عرفها المجتمع اليمني في عهده [12] .

            ونجح في إقناع المنصور علي بإصدار مرسوم حرره الشوكاني بيده يقضي برفع المظالم عن الرعية، والاقتصار في المأخوذ منهم على ما ورد به الشرع [13] .

            وبصفته رئيس القضاء أمر حكام الأقاليم بتنفيذ المرسوم وبتكليف رجال أمناء يعلمون الناس معالم دينهم [14] .

            لكن العهد لم يطل بتطبيق هـذا المرسوم تحت ضغط المقلدة وبطانة السوء [15] ومع ذلك لم ييأس الشوكاني من الإصلاح، فألف بعد ذلك مباشرة رسالته: الدواء العاجل في دفع العدو الصائل، حاول فيها أن يشخص أدواء المجتمع اليمني التي تمثلت له في الجهل العام بالشريعة [ ص: 103 ] وأحكامها، وفساد الإدارة مع ضعف مركزية الدولة وسلطانها، فكان لذلك أسوأ الأثر في معيشة الناس واقتصاد البلاد [16] .

            والملاحظ في نشاطه السياسي أنه عد الشعر بمثابة المنشورات السياسية؛ إذ اتخذه وسيلة لذيوع آرائه ومواقفه الانتقادية لسياسات الدولة تارة، ولبعض رجالاتها تارة أخرى. فحول الشعر بذلك من ترف ذهني وتلاعب بديعي إلى نفير للإصلاح ومنبر للتوجيه.

            وخلاصة هـذا الفصل: إن شخصية الشوكاني التجديدية كانت نتيجة حياة علمية مغايرة للأنماط الفكرية السائدة في عصره، المتسمة بتمزق المعرفة، وعزلة العلماء عن الحياة والواقع.

            فالرجل كان صاحب معرفة موسوعية، وممارسة حياتية وسياسية واسعة كونت لديه معرفة متكاملة جعلت علمه يتفاعل مع عمله، فيثمر تعاملا أصيلا مع واقع الحياة وتطوراته. [ ص: 104 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية