الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الثالث: خلفية وتداعيات القول بسد باب الاجتهاد

            كان من نتائج شيوع التقليد كمبدأ في المنظومة الفقهية دعوى سد باب الاجتهاد، وقد كان من مقتضى تحريم الشوكاني للتقليد ودعوته للاجتهاد دراسة وتحليل جذور وتداعيات هـذه الدعوى.

            أما الجذور: فقد أرجع الشوكاني القول بسد باب الاجتهاد إلى أسباب ذاتية في علماء التقليد، فقال: «وإذا أمعنت النظر وجدت هـؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة» [1] . [ ص: 128 ]

            وفصل كلامه هـذا في موضع آخر بين فيه أن مصدر هـذه الدعوى قصور علمي عند المقلدين المشتغلين بطلب علم التقليد؛ لأن انكبابهم على حفظه وفهمه، وعدم الالتفات إلى غيره أورثهم فـتورا أو جمودا فكريا، اتخذ صورا وأشكالا كثيرة أهمها: انبهارهم بعظيم قدر إمامهم، وامتلاء قلوبـهم هـيبة ممن تقرر عندهم أنه فـي درجة لم يبلغها أحد. وكذا عدهم أي مجتهد مخالف لإمامهم في مسألة مخالف لشيء قطعي، وإن استدل على رأيه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة، ولا يزالون منتقصين له بـهذه المخالـفة انتقاصا شـديدا، على وجه لا يستحلونه من الفسقة، ولا من أهل البدع المشهورة [2] .

            والملاحظ أن الشوكانـي لـم يحاول إيجاد مبـررات شرعـية ولا علمية ولا اجتماعية لدعوى سد باب الاجتهاد كما فعل غيره عندما برر هـذه الدعوى بعبث عديـمي الأهلية في أحكام الشريعة باسم الاجتهاد، وأن الجوانب النظرية في الإسلام قد توسعت حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعا [3] .

            ولعل السبب في إصراره واقتصاره على السبب الذاتي أن المبررات المقدمة لغلق باب الاجتهاد كانت في نظره غير منطقية ومتناقضة؛ ذلك [ ص: 129 ] أن سد باب الاجتهاد إذا كان سببه قطع طريق العبث بالشريعة الإسلامية على فاقدي أهلية الاجتهاد، فلماذا تشن حرب على من هـو أهل للاجتهاد إذا اجتهد؟ وهو ما عبر عنه الشوكاني بقولـه: «وإن أنكروا القول بذلك (أي بسد باب الاجتهاد) ، وقالوا: باب الاجتهاد مفتوح، والتمسك بالتقليد غير حتمي لهم، فما بالكم ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة وأخذ دينه منهما بكل حجر ومدر» [4] .

            ومعنى هـذا الكلام عند الشوكاني أنه: إذا كان الدافع لسد باب الاجتهاد هـو ممارسة عديمي الأهلية للاجتهاد، أفلا يمكن ضبط هـذه المسألة بتحديد علمي لشروط المجتهد دون اللجوء إلـى السـد المطلق أمام القادر والعاجز؟

            وبما أن المقلدة صرحوا بأن استحالة الاجتهاد سببه استحالة تحقيق شروطه، وهو ما حكاه الشوكاني على لسانهم حيث قال: «إن العلم كان ميسرا لمن كان قبلهم، ولكنه الآن أصبح تحصيله صعبا عليهم، وعلى أهل عصورهم المتأخرة» [5] . فهذا معـناه أن باب الاجتهاد سـواء فتح أو سد فقد عدم داخلوه.

            إن محاولة تقييم هـذا الرأي (ذاتية دعوى سد باب الاجتهاد) تبين أن الإمام الشوكاني كان متوافقا ونظرته العامة لقضية التقليد والاجتهاد؛ [ ص: 130 ] ذلك لأنه أكد عند تحديده للآراء المستقرة في مسألة التقليد أن كبار العلماء وجمهورهم يقولون بعدم جواز التقليد، فلم يضع احتمال صدور دعوى سد باب الاجتهاد منهم؛ لأن مثل هـذا الاحتمال يستحيل عقلا وشرعا، فلم يبق إلا أن أنصار التقليد أصدروا هـذه الدعوى لسبب خاص بهم؛ وهو عجزهم عن استيفاء شروط الاجتهاد.

            أما تداعيات سد باب الاجتهاد فقد أكد الشوكاني أن هـذه المقالة تستلزم أربع نتائج خطيرة لا يتقبلها العقل الإسلامي؛ وهي:

            أولا: هـذه المقالة -سد باب الاجتهاد- تسلتزم سد باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء العارفيـن بهما لم يبق لهم سبيل على البيان الذي أمرهم الله به:

            ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) (آل عمران:187)

            وإذا لم يبق من أهل الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة لم يبق سبيل إليهما، وإذا انقطع السبيل إليهما، فكم حكم منهما لا عمل عليه، ولا التفات إليه؛ سواء وافق المذهب أو خالفه؛ لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر [6] .

            ثانيا: تستلزم نسخ الشريعة وذهاب رسمها، وبقاء مجرد اسمها. وقد علل الشوكاني هـذا المضمون بقوله: «فقد انقطعت أحكام الكتاب والسنة؛ [ ص: 131 ] لأنه لم يبق من يفهمهما، وارتفعت من بين العباد، ولم يبق إلا مجرد تلاوة القرآن ودرس كتب السنة، ولا سبيل إلى التعبد بشيء منها» [7] .

            والناسخ لها في نظر الشوكاني هـو كما قال: «ما ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شـريعة إلا ما قد تقرر في المذاهب... والعمل على المذاهب لا على ما وافقها منهما -الكتاب والسنة- وإن يخالفها أحـدهما أو كلاهما فلا عمل عليه ولا يحل التمسك به، هـذا حاصل قولهم ومفاده.» [8] .

            ثالثا: تستلزم دعوى غلق باب الاجتهاد أن شريعة الله مقيدة بزمن محدود وليست مطلقة، وهذه نتيجة حتمية لقولهم: لم يبق في أهل الإسلام من يفهم الكتاب والسنة. وعبر الشوكاني عن هـذا بقوله: «فكذبوا على الله، وادعوا عليه سبحانه أنه لا يتمكن من أن يخلق خلقا يفهمون ما شرعه لهم وتعبدهم به، حتى كان ما شرعه لهم من كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بشرع مطلق، بل شرع مقيد مؤقت إلى غاية، هـي قيام هـذه المذاهب، وبعد ظهورها لا كتاب ولا سنة، وهذا وإن أنكروه بألسـنتهم فهو لازم لهم لا محيص لهم عنه، ولا مهرب، وإلا فأي معنى لقولهم: قد انسد باب الاجتهاد ولم يبق إلا مخرج التقليد» [9] . [ ص: 132 ]

            وهذا يستلزم رد ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: ( لا تزال طائفة من هـذه الأمة على الحق ظاهرة. ) [10] وقوله: ( يبعث الله لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. ) [11] .

            فهذه المسائل الأربع يستلزمها في نظر الشوكاني القول بسد باب الاجتهاد ضرورة، فإذا ما أصر المقـلدة على هـذه الدعوى لزمهم الإقرار بهذه المسائل.

            وبناء على هـذه التداعيات التي اقتضاها القول بسد باب الاجتهاد، اعتبر الشوكاني هـذه المقالة من أسوأ مفاسد التقليد ونتائجه حيث قال: «إن هـذه المقالة بخصوصها؛ أعني: انسداد باب الاجتهاد، لو لم يحدث من مفاسد التقليد إلا هـي، لكان فيها كفاية ونهاية، فإنـها حادثة رفعت الشريعة بأسرها، واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله، وتقديم غيرهما، واستبدال غيرهما بهما» [12] . [ ص: 133 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية