الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الخامس: الاستدلال بالمعقول

            إن تمسك الإمام الشوكاني بالنص لم يمنعه من الاستدلال بالمعقول في الفهم والاستدلال ومناقشة المخالف، إذ نجده يعمل عقله إلى أبعد الحدود في استثمار معاني النص، وتقوية استدلالاته، ومناقشة استدلالات المخالف. ولقد ساعده علمه الواسع وتأمله العميق في الأدلة الشرعية على كشف الكثير من المعاني المعقولة التي لا يملك العقل السليم رفضها.

            ففي مسألة: استقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما عند قضاء الحاجة، بين أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها ثابت عن جماعة من الصحابة؛ رووا النهي عن استقبالها واستدبارها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعض هـذه الأحاديث فـي الصحيحيـن وبعضها فـي غيرهما. وأما البيت المقدس [ ص: 188 ] فلم يرد فيه إلا حديث معقل بن أبي معقل ، أخرجه أبو داود ، وفـي إسناده أبو زيد الراوي له عن معقل ، وهو مجهول، فلا تقوم به الحجـة. وأما ما قيل من أن بيت المقدس يكـون له حكم الكعبة بالقياس، فهذا القياس فـي نظر الشوكاني باطل، لأنه كما قال: «إن كان الجامع الشرف لزم ذلك في كل محل شريف، وإن تفاوت الشرف، ويدخل في ذلك دخولا أوليا مسجده صلى الله عليه وسلم ، ومسجد قباء، ونحوهما. وإن كان بجامع أن بيت المقدس قد كان قبلة قبل استقبال الكعبة، فقد نسخ ذلك، وإن كان ذلك لكونه تستقبله اليهود فقد تقرر في الشريعة الأمر بمخالفتهم» [1] .

            وأما النهي عن استقبال القمرين واستدبارهما عند قضاء الحاجة فقال عنه:

            «فهذا من غرائب أهل الفـروع، فإنه لـم يدل علـى ذلك دليل؛ لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، وإن كان ذلك بالقياس على القبلة، فقد اتسع الخرق على الراقع. وأعجب من هـذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين، فإن الأصل باطل، فكيف بالفرع؟ وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء، فإن لها شرفا عظيما؛ لكونها مستقر الملائكة، ثم [ ص: 189 ] يلحق الأرض؛ لأنها مكان العبادات والطاعات، ومستقر عباد الله الصالحين، فحيـنئذ يضيـق على قاضي الحاجـة الأرض بما رحبت، ويحتاج أن يخرج عن هـذا العالم عند قضاء الحاجة» [2] .

            ومما انتقده الشوكاني -استنادا إلى المعقول- ترخيص صاحب الأزهار للرجال لبس الحلي بقصد إرهاب العدو، فقال: «الإرهاب للعدو إنما يكون بالعدد والمدد والعدة والشدة والسلاح المعد للكفاح؛

            ولهذا يقول الله عز وجل: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (الأنفال:60) ،

            وأي إرهاب يحصل في صدر العـدو لمن تظاهر له فـي الحلي والحـلل؟ فإن هـذا اللابس إنما تشـبه بربات الحجال، +وخرج من عديد الرجال، وهل يقول عاقل: إن مـلابس النساء تثير شيئا من المهابة في صدر أحد من بني آدم؟»

            وختم انتقاده بقوله: « والحاصل أن الترهيب على العدو هـو مقصد من مقاصد الشرع، ولكنه لا يكون إلا بما عرفناك، لا بما أراده المصنف، فإن هـذا لا يجري على شرع ولا عـرف، ولا روايـة، ولا درايـة، وإنما هـو صنيع النساء، ومن يشابههن من المترفين» [3] . [ ص: 190 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية