الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المحدد الرابع: الموضوع الفقهي

            من الملاحظات التي أثارها الباحثون المعاصرون في التراث الفقهي الإسلامي تطور البحث الفقهي في الموضوعات المتعلقة بفقه الأفراد: العبادات والمعاملات، أكثر من تطوره في الموضوعات المتعلقة بفقه الدولة والمجتمع: الاقتصاد، السياسة، الإدارة، العلاقات...إلخ.

            هذه الدعوى وإن بالغ فيها بعضهم كالشيخ علي عبد الرازق في كتابه: «الإسلام وأصول الحكم» [1] ، فإن القراءة المتأنية للتراث الفقهي تؤكد وجود فارق كمي ونوعي بين الفقهين -فقه الفرد وفقه الدولة- وقد يكون لهذا الفارق ما يبرره آنذاك مما ينقله من النقيصة إلى الواقعية ومراعاة متطلبات الظرف، لكن ليس له ما يبرره اليوم؛ لأن الواقع والظروف يتطلبان غير ذلك.

            من هـنا كان من أولويات تجديد الفقه الإسلامي تنمية البحث فـي الموضوعات المتصلة بالمجتمع والدولة. وتطوير البحث في هـذا الجانب من الفقه الإسـلامي يجب أن لا يكون تلقائيا عفـويا، وإنما يتطلب تتبع خطـوات منهجية دقيقة تضمن صحـة المقدمات وسـلامة النتائج. ومن ذلك: [ ص: 281 ]

            أولا: تبين الخلفية التاريخية لهذا النوع من الفقه؛ لتحديد الثغرات المراد سدها والآثار المترتبة عليها.

            ثانيا: تحديد مواضع ومنهجية الاجتهاد فيه.

            ولتوضيح ماهية وأهمية هـذه الخطوات لا بأس من التمثيل بأحد موضوعات فقه الدولة ألا وهو الفقه السياسي [2] .

            فعلى الرغم من أن التجربة السياسية الإسلامية في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت وستظل أغنى تجربة في متانة أطرها النظرية، وطهارة وسائلها بالمقارنة مع أي تجربة بشرية أخرى، إلا أن الصراع العقدي والسياسي الذي ظهر مبكرا في المجتمع الإسلامي حدد بنسبة معينة وجهة الفكر السياسي الإسلامي.

            فموضوع الإمامة مثلا -وهو من المباحث الأساسية في الفقه السياسي الإسلامي- لما كان موضع خلاف ونقاش كبيرين بين الفرق الإسلامية أدرج ضمن مباحث علم الكلام بوصفه موضوعا من موضوعات العقيدة، الأمر الذي جعل كتب الفقه تنصرف عن دراسته دراسة موسعة ومعمقة، باعتباره جزءا من فقه الفروع. [ ص: 282 ] كما أن تغير نظام الحكم بعد الخلافة الراشدة من حكم شوري إلى حكم ملكي، وما ترتب عليه من امتداد سلطة الدولة إلى جل ميادين التنظيم الاجتماعي، جعل الفكر السياسي الإسلامي لا يواصل تنمية البحث في موضوعات أساسية. فمثلا حين نراجع بواكير التراث السياسي نجد بداية حركة التصنيف فيه تتمحور حول مسألة الإمامة والخراج ، أي ما يتعلق بتدبير شئون الملك والسياسة، وتنظيم المنابع المالية للدولة، لكن هـذين المحورين لم يشهدا تطورا ينقل البحث فيهما من التأليف الفروعي إلى التنظير الشمولي. وإن كان الدكتور عبد الرزاق السنهوري قد استثنى من هـذا التعميم الإمام الماوردي فـي كتابه: الأحـكام السلطانية؛ إذ عالج مسائل الخلافة -كما قال- بشيء من التوسع، فإنه سرعان ما استدرك، مبينا أنه -أي: الماوردي- اهتم بالناحية الإدارية في أحكام الخلافة أكثر من ناحيتها الدستورية [3] .

            وللأسباب السياسية ذاتها لم يطرق الفكر السياسي الإسلامي بجدية أبواب عدة موضوعات، كتلك المتعلقة بشئون المواطنة، وحقوق الرعية، والأمن السياسي والاجتماعي، وأحكام المعارضة السياسية [4] . فمثل هـذه القضايا لا يعثر عليها إلا في مساحات محدودة ضمن تراثنا السياسي. [ ص: 283 ] ولعل السبب في هـذا المنحى الذي نحاه الفقه السياسي الإسلامي هـو عزوف الفقهاء عن الخوض بتوسع وعمق في أحكام الخلافة؛ خشية الاصطدام بنظم الحكم غير الشورية، أو خشية التسبب في فتنة تكسر شوكة الدولة الإسلامية أمام أعدائها.

            ولقد كان لهذا الاختيار في الواقع مبررات موضوعية، جعلته يعكس مراعاة الفقهاء لفقه الأولويات والموازنات، ذلك أن أنظمة الحكم بعد الخلافة الراشدة لم تنكر أن الإسلام يوجب قيام نظام الحكم على البيعة، إلا أن أكثرها لم يحترم مبدأ حرية البيعة الذي توجبه الشورى، وأمام هـذا الوضع اعتبر الفقهاء أن وحدة الأمة الإسلامية مرتبطة ارتباطا وثيقا بوحدة الدولة. وما كان لهم في الحقيقة أن يفرقوا بين الوحدتين؛ لأن الواقع أكد صحة هـذا المبدأ، فتغير طبيعة نظام الحكم من شورى إلى ملكي لم يوقف الفتوحات الإسلامية التي تولت مهمة نشر الإسلام ومد دعوته إلى أقصى بلاد العالم.

            إن بيان الخلفية التاريخية لواقع الفقه السياسي الإسلامي ليس دعوة لتجاوز هـذا التراث، أو التشكيك في قيمته العلمية، لكن لتأكيد أن تراثنا السياسي بحاجة إلى قراءة جادة تكشف الأبعاد الغائبة فيه لبعثها من جديد.

            وإن مما يساعد على تحديد هـذه الأبعـاد الغائبة فـي تراثنا الفقهي السياسي تجنب نوعين من القراءة: [ ص: 284 ]

            الأولى: قراءته من منظور الفكر السياسي الغربي، بإسقاط المفاهيم السياسية الغربية عليه أثناء التحليل والتفسير.

            الثانية: قراءته قراءة مثالية تنـزيهية تعمد إلى تجاهل مشكلاته التاريخية، وما نجم عنها من مفاهيم وتصورات.

            ولا شك أن هـذه القراءة الموضوعية ستكتشف -بعد تحديدها للأبعاد الغائبة في الفقه السياسي الإسلامي- أن الدراسات المعاصرة في الفقه السياسي ما زالت تركز على كليات النظام السياسي الإسلامي وكيفية بنائه، ولم تخط خطوات هـامة نحو تقديم صيغ تنظيمية للقيم السياسية الإسلامية. ولعل السبب في ذلك أن الفقه السياسي المعاصر قد اكتفى بما تم إنجازه في فقه الأحكام السلطانية من جهة، ومن جهة أخرى فإن التجربة السياسية الإسلامية المعاصرة لم تنضج بعد، وما زال خطابها يركز على المبادئ، ولم تنتقل بعد إلى صياغة البرامج.

            إلا أن قيام الدولة الحديثة على غرار النموذج الغربي فرض على التجربة السياسية الإسلامية المعاصرة الأخذ بآليات العمل السياسي في المشاركة السياسية، والاهتمام بموضوع الحريات العامة، وتدعيم وجود المجتمع المدني، إلى غيرها من المواقف، الأمر الذي يوجب على الفكر السياسي الإسلامي المعاصر تطوير البحث النظري في مثل هـذه الموضوعات، وتقديم صيغ تنظيمية للقيم السياسية الإسلامية. [ ص: 285 ] لكن ما يجب تأكيده هـو أن تقديم صيغ تنظيمية هـي مرحلة متأخرة في التنظير السياسي، يسبقها التحديد الدقيق لمواضع ومنهجية الاجتهاد في الفقه السياسي. وفي هـذا الإطار يركز البحث على إشكاليات كثيرة أهمها: إشكالية المنهج والمفاهيم:

            أما المنهج: فإن صياغة النظرية السياسية الإسلامية تقتضي بناء منهج لفقه التنظير السياسي، منهج ينطلق أساسا من الأصول الشرعية: الكتاب، والسنة. ويستوعب التجربة السياسية الإسلامية، منهج يجمع بين الشق التنظيري القيمي والشق التغييري الواقعي.

            كما تقتضي الدراسة على مستوى المنهج تحديد منهجية التعامل مع الأدوات المنهجية المتبعة في الدراسات السياسية الغربية، وكذا تأسيس مناهج للبحث في موضوعات الفكر السياسي والنظم السياسية وفروع العلوم السياسية من منظور إسلامي.

            أما المفاهيم: فإن من مقتضيات التنظير السياسي الإسلامي ضبط وتأصيل المفاهيم الشرعية الإسلامية، وتحديد الموقف العلمي من المفاهيم والمصطلحات العلمانية الغربية. [ ص: 286 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية