الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            معالم تجديد المنهج الفقهي (أنموذج الشوكاني)

            حليمة بوكروشة

            المحدد الثاني: ضبط إشكالية تعليل الأحكام

            إن المتدبر في الإنتاج العلمي للنهضة الفقهية المعاصرة يلحظ أن مبدأ تعليل الأحكام قد مثل المقدمة المنهجية لجل الاجتهادات المعاصرة، لا سيما تلك التي اتخذت من مبدأ اعتبار المصلحة والمقاصد الشرعية منهجا فـي استنباط الأحـكام التي تستجيب لحاجات العصر ومتغيراته.

            لكن الملفت لانتباه أي باحث في تلك الاجتهادات، هـو الاختلاف في منهجية التعامل مع هـذا المبدأ -أي مبدأ تعليل الأحكام- الأمر الذي أفرز اختلافا كبيرا، وصل أحيانا إلى حد التناقض في تطبيقات هـذا المبدأ على الوقائع الجزئية، ومن ثم في طبيعة المنهجية الاجتهادية الكفيلة بتجـديد الفقه الإسلامي.

            وقد مثلت إشكالية «الاختلاف في منهجية التعامل مع مبدأ تعليل الأحكام» اتجاهات عديدة، بعضها تمسك بالإطار المنهجي الذي استقر في علم أصول الفقه تجاه هـذه القضية، وبعضها انطلق من الإطار نفسه، لكنه اجتهد فيه وحوره، وبعض آخر تجاوز هـذا الإطار إلى إطار جديد.

            وفي ما يلي عرض موجز للأطر المنهجية لهذه الاتجاهات:

            الاتجاه الأول: مثلت لديه المبادئ المستقرة في علم أصول الفقه حول أقسام النص الشرعي؛ من حيث الظن والقطع، ومعنى قاعدة: «لا اجتهاد [ ص: 264 ] مع النص» ، وقاعدة «الحكم يدور مع علته وجودا وعدما» ، ومجال تطبيقهما، الإطار المنهجي الذي حكم تصوراته لمبدأ تعليل الأحكام.

            فالنصوص الشرعية تنقسم -وفق التقسيم العقلي والواقعي- إلى أربعة أقسام: نصوص ظنية الثبوت والدلالة معا، نصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة، نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، نصوص قطعية الثبوت والدلالة معا.

            وقاعدة «لا اجتهاد مع النص» إنما وضعت لضبط طبيعة الاجتهاد ومجالاته في القسم الأخير من النصوص، ومعناها أنه: لا اجتهاد مع النص القطعي الثبوت والدلالة، وأن هـذا النوع من النصوص يكون الاجتهاد فيه؛ أي: في فهمه والاستنباط منه، ولا يكون الاجتهاد معه؛ أي: في مقابلته ومعارضته.

            وهذا المعنى محل إجماع الفكر الأصولي بجميع مذاهبه؛ لاعتبارات أهمها: أن معنى قطعـية الدلالة في النص أنه لا يحتمل التأويل ولا النسخ، بل له معنى واحد لا يتسع لغيره، وأن الأحكام القطعية هـي التي تمثل الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، وهي التي تمثل الوحدة الفكرية والشعورية والعملية للأمة الإسلامية. وأمر آخر، أن القطعيات اليقينية في الثبوت والدلالة هـي التي يحتكم إليها عند النـزاع، [ ص: 265 ] ويرجع إليها عند الاختلاف فـي تعييـن إحدى دلالات النص الظـني أو ترجيحها، فإذا كانت هـي موضع خلاف لم يبق ما يحتكم إليه.

            وقد ترتب على هـذا الضبط الاصطلاحي لمدلول قاعدة «لا اجتهاد مع النص» تحديد المجال التطبيقي لقاعدة: «الحكم يدور مع علته وجودا وعدما» ؛ إذ اختص تطبيقها بالنصوص الظنية الدلالة فقط [1] .

            الاتجاه الثاني: انطلق في تطبيقه لمبدأ: تعليل الأحكام على القضايا الاجتهادية من الإطار المنهجي الذي استقر في علم أصول الفقه، لكنه اجتهد فيه وحوره [2] .

            الاتجاه الثالث: لم ينطلق هـذا الطرف في اجتهاداته المبنية على مبدأ تعليل الأحكام من الإطار المنهجي الذي استقر عليه علم أصول الفقه؛ وهو: تقسيم النصوص الشرعية إلى: نصوص ظنية الثبوت والدلالة، ونصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، ونصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة، ونصوص قطعية الثبوت والدلالة معا، واعتبار القسم الأخير من [ ص: 266 ] الثوابت التي لا يلحقها تغيير أو تبديل، بل استبدل هـذا الإطار بإطار منهجي آخر يقوم أساسا على مبدأ اعتبار أبعاد الزمان والمكان في النصوص التشريعية [3] .

            والدراسة التحليلية النقدية لأطروحة هـذا الاتجاه في التعامل مع مبدأ تعليل الأحكام تكشف عن نوع من الثورة على المنهجية الأصولية، ودعوة تطبيقية لبناء منهجية اجتهادية جديدة، من أهم مبادئها: بيان وظيفة النص التشريعي، إعطاء مفهوم جديد لوظيفة السنة النبوية، إعطاء مفهوم جديد لمصطلح الثوابت.

            ومما يؤخذ على هـذا الاتجاه أنه لم ينطلق في بناء منهجه البديل من نقد الأسس المنهجية التي يقوم عليها الفكر الأصولي في قضية تعليل الأحكام، بل انطلق في التنظير من أمثلة جزئية ملحة احتاجت إلى حل، والموقف المتخذ منها عممه على الجزئيات الأخرى؛ ليستخرج منها نظرية جامعة. [ ص: 267 ] والحقيقة أن من طبيعة الجزئيات أنها لا تتشابه، ولا تنضبط بضابط واحد. ومن ثم كان الأصل في التنظير المنهجي الانطلاق من القضايا المجردة، ثم تطبيقها على الجزئيات، فيتحصل على قواعد عامة واستثناءات لهذه القواعد.

            إن مبدأ: مراعاة علل النصوص وظروفها، لبنة هـامة في بناء منهج أصيل في تجديد الفقه الإسلامي. والعرض السابق للاتجاهات المعاصرة الرئيسة في التعامل مع مبدأ تعليل الأحكام يبين أنه قد استقرت حول هـذا المبدأ نظريات في الفكر الأصولي، هـي بحاجة إلى تحقيق وتنضيج، كما ظهرت أطروحات جديدة هـي بحاجة إلى تمحيص وتقييم.

            من هـنا اقتضى البحث في إشكالية تجديد الفقه الإسلامي تعميق البحث في موضوع تعليل الأحكام، وتجاوز مجرد الترجيح بين آراء المذاهب الفقهية والتقييم العام للأطروحات المعاصرة إلى صياغة نظرية في التعليل، تستوعب نظرية المتقدمين وأطروحات المعاصرين، وتأتي بما يفيد المنهجية الإسلامية.

            ولعل مما يساعد على بناء نظرية في التعليل الاهتمام بالقضايا الآتية:

            - ضبط منهج في استخراج العلل: إن مبدأ: تعليل الأحكام ، قائم في الأصل على استنباط العلل ومراعاتها في فهم الأحكام وتنـزيلها، والملاحظ في الاجتهادات المعاصرة المبنية على هـذا المبدأ اختلافها في تحديد علل النصوص والأحكام. ففي موضوع التصوير -مثلا- نجد أن بعضهم قد أباح بعض أنواع التصوير، كالفوتوغرافي والسينمائي [ ص: 268 ] والتلفزيوني، وحرم المجسم منه، أي: التماثيل؛ لأن العلة في تحريم التصوير هـي مضاهاة خلق الله [4] ، في حين أباح آخرون كل أنواع التصوير حتى المجسم منه؛ لأن علة تحريم التصوير في نظرهم هـي مشابهة الوثنية، فالتصوير حرم لقرب العهد بالوثنية، وما كان فيها من صور تعبد من دون الله تعالى [5] .

            كما يلاحظ على بعض الاجتهادات أيضا ترسيم فرضيات تحتاج إلى إثبات، واعتبارها عللا، وبناء الحكم عليها؛

            مثل موضوع تنصيف شهادة المرأة الوارد في قوله تعالى: ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) (البقرة:282) .

            فقد اعتبر بعض الباحثين أن علة تنصيف شهادة المرأة مرجعه أن المرأة لم تكن وقت نزول الآية الكريمة ذات مشاركة فعالة في الحياة العامة، لا سيما ما يتعلق بالقضايا المالية والتجارية، مما جعلها تجهل هـذا الميدان، فإذا أدركت المرأة قضايا التجارة أصبح الحكم الأصلي المساواة بينها وبين الرجل في الشهادة [6] . [ ص: 269 ] إن الجزم بعدم دراية المرأة بقضايا المعاملات المالية والتجارية في الجاهلية وبداية الإسلام افتراض يحتاج إثباته إلى دراسة تاريخية استقصائية، لا سيما وقد سجل التاريخ وجود نماذج لنساء تاجرات قبل البعثة كخديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، وبعد البعثة لا سيما في سوق المدينة المنورة. ثم إن الآية الكريمة نزلت فـي المداينة، والشـهادة إنما هـي على دين مكتوب، وهذا لا يتطلب خبرة في المعاملات التجارية، بل كل ما يتطلبه معرفة القراءة والكتابة.

            وعلى فرض أن الأمر يتطلب دراية تخصصية بشئون التجارة فهل كل امرأة مثقفة في العصر الحاضر على دراية كافية بالمعامـلات الاقتصادية، التي أصـبحت أكثر تعقـيدا مما كانت عليه أيام نزول آية المداينة؟

            ومن دوافع ضبط منهج في استخراج العلل ابتناء بعض الاجتهادات على علل قاصرة؛ كتعليل تحريم الربا باستغلال حاجة الفقير، وتعليل تحريم الزنا بمنع اختلاط الأنساب.

            - ضبط مدلول مصطلح الثوابت والمتغيرات في تعليل الأحكام:

            إن اختلاف الدراسات المعاصرة في تحديد دلالة الثوابت والمتغيرات، ومنهج التعامل معهما يقتضي بحثا منهجيا، يحدد ضوابط التفريق بين الثابت والمتغير، ويضبط علاقتهما بالأحكام العقدية والتعبدية والتشريعية. [ ص: 270 ]

            - تطبيقات مبدأ تعليل الأحكام على السنة النبوية: ركز جل العلماء المعاصرين -المنطلقين من الإطار المنهجي الأصولي- في بحث تطبيقات مبدأ تعليل الأحكام على السنة النبوية؛ لأنها تمثل الجانب التطبيقي والعملي للقرآن الكريـم. فأقـروا ابتداء تقسيم الإمام القرافي لتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى: ما صدر عنه بوصف الإمامة، وما صدر عنه بوصف التبليغ والفتوى. وبناء على ذلك قسموا السنة النبوية إلى: تشريعية، وغير تشريعية. وسعوا من هـذا المنطلق إلى التنظير لتطبيقات مبدأ: تعليل الأحكام على السنة.

            لكن الملاحظ في الجهود المبذولة في هـذا المضمار اختلافها في طبيعة الموضوعات التي تندرج تحت كل قسم، وذلك بسبب اختلاف المنهجية المتبعة في تصنيف تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم ضمن ما هـو تشريعي وما ليس بتشريعي [7] .

            وتؤكد الرؤى المتقاربة أحيانا والمتباعدة أحيانا أخرى في تطبيق مبدأ: تعليل الأحكام على السنة النبوية، أن هـذا الجزء من النظرية ما زال بحاجة إلى بحث وتحقيق، تضبط من خلالهما منهجية تصنيف تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وضوابط التفريق بين القسم التشريعي وغير التشريعي من تصرفاته. [ ص: 271 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية