الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الثالث: الفقه الإداري والاجتماعي

            أما في المجال الإداري والاجتماعي فقد ألف الشوكاني رسالة: الدواء العاجل في دفع العدو الصائل. شخص من خلالها أدواء المجتمع اليمني التي تمثلت في استفحال الأمية الدينية في المجتمع، وفساد الأجهزة الإدارية لمؤسسات الدولة وهياكلها، وما انجر عنه من تدهور اجتماعي. وقد قسم المجتمع اليمني في دراسته هـذه إلى ثلاثة أقسام:

            - رعايا يأتمرون بأمر الدولة.

            - ورعايا خارجون عن سلطان الدولة.

            - وسكان المدن.

            وتشترك هـذه الفئات الثلاث في الجهل العام بالشريعة الإسلامية على تفاوت بينها، الأمر الذي أدى إلى ضعف الالتزام الديني، واستفحال الآفات الاجتماعية في أوساط المجتمع اليمني [1] .

            كما ناقش في هـذه الرسالة نفسها سبب الفساد الإداري ومظاهره، فأكد أن مصدر الخلل هـو عدول أولي الأمر عن القيام بوظائفهم الأساسية من حفظ شرع الله، وإقامته بين الناس، واستغلال مناصبهم الإدارية في خدمة أغراضهم الشخصية، وتحسين وضعيتهم المالية حيث قال: «فإن الأمور الشرعية والفرائض الدينية هـي التي شرع الله نصب الأئمـة والسلاطين والقضاة لإقامـتها، ولم يشرع نصب هـؤلاء لجمع المال من [ ص: 217 ] غير وجهه، ومصادرة الرعايا في أموالهم بإضفاء ما أوجبه الله عليهم» [2] . وبين أن مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ولاية قد انحصرت في ثلاثة أشخاص: عامل، وكاتب، وقاض.

            أما العامل: فلا عمل له إلا استخراج الأموال من أيدي الرعايا بالحق والباطل، عازف عن واجبه الوظيفي في إقامة الواجبات الدينية، والنهي عن المنكرات الشرعية، بل إن وقوع الرعايا في هـذه المعاصي أحب الأشياء إلى العامل؛ لأنه يفتح له ذلك باب أخـذ الأمـوال.

            أما الكاتب: فهو شريك العامل؛ إذ ليس له من أمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا.

            أما القاضي: فهو جاهل بالشرع، وبأحكام القضاء، تارك لمستلزمات وظيفته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم عن الرعية، والأخذ على يد الظالم، هـمه جمع الأموال من الخصوم والدفاع عن منصبه ببعضها [3] .

            ولقد أدى انتشار الأمية الدينية واستفحال الفساد الإداري في مؤسسات الدولة وأجهزتها -كما أكد الشوكاني- إلى صراعات داخلية أدت إلى إزهاق النفوس، وهتك المحارم، وإطاحة المدن، كما تسببت في أزمات اقتصادية حادة أدت إلى ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب [ ص: 218 ] الرزق، وعقر المكاسب حتى ضعفت أموال الناس، وتجاراتهم، ومكاسبهم، وأفضى إلى ذهاب كثير من الأملاك [4] .

            وما يميز دراسة الإمام الشوكاني للوضع الإداري، وما ترتب عليه من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية هـو ربط كل ذلك بسنن الله الاجتماعية في إنزال العقوبات العامة على الأفراد والمجتمعات من جراء شيوع المعاصي والمخالفات، وتضييع أولي الأمر لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال: «فإنها قد دلت الأدلة القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية أن العقوبة العامة لا تكون إلا بأسباب، أعظمها التهاون بالواجبات وعدم اجتناب المقبحات، فإن انضم إلى ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكلفين به، لا سيما أهل العلم والأمر القادرين على إنفاذ الحق، ودفع الباطل كانت العقوبة قريبة الحدوث... والحاصل أنه لا فرق بين من فعل المعصية، وبين من رضي بها ولم يفعلها، وبين من لم يرض بها، لكن ترك النهي عنها مع عدم المسقط لذلك عنهم، ومن كان أقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذنبه أشد، وعقوبته أعظم، ومعصيته أفظع» [5] . [ ص: 219 ] ومما حاولـه الإمام الشوكاني بعد هـذا هـو إعطاء تصور لعـلاج هـذه الأمراض التي أصابت أنظمة الدولة والمجتمع، وقد أقام تصوره هـذا على مبدأين:

            المبدأ الأول: إلزامية التعليم: حيث نادى بضرورة « بذل المال في إصلاح الرعايا، وتعليمهم فرائض الإسلام، وإلزامهم بها، والأخذ على الولاة في الأقطار أن يكون معظم سعيهم وغاية هـمهم هـو دعاء من يتولون عليه من الرعايا إلى ما أوجبه الله عليهم، ونهيهم عما نهاهم عنه» [6] ، كما اعتبر من مهمة القضاة تعيين معلم في كل قرية يعلم أهلها فرائض الإسلام، والعلوم على الوجه الشرعي [7] .

            المبدأ الثاني: ضبط شروط تولي المناصب العامة لا سيما منصب القضاء فقال: «وانتخاب القضاة في كل قطر أولا ممن جمع الله لهم بين العلم والعمل، والزهد والورع، ويكونون ثانيا من الباذلين نفوسهم لإصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الله، ودفع المظالم الواردة عليهم، ويقبضون ما أوجب الله عليهم، فإن في ذلك ما هـو أنفع من الأشياء التي تؤخذ على وجه الظلم» [8] . [ ص: 220 ] إن الدارس لرسالة: الدواء العاجل في دفع العدو الصائل، يكتشف أن الإمام الشوكاني عالج من خلالها إشكالية متقدمة على زمانه؛ وهي إشكالية أسس التقدم وأسباب التخلف، إذ عد مبدأ الالتزام الديني، والعدالة، وعدم الاستبداد شرط في بناء أنظمة الدولة المختلفة؛ (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والإدارية) . وهذه المبادئ ذاتها هـي التي تبلورت فيما بعد عند رجالات الإصلاح: الأفغاني ، محمد عبده ، الكواكبي وغيرهم؛ لتكون أسس النهضة الإسلامية الحديثة.

            إن تبني الإمام الشوكاني لمبدأ الاجتهاد، وممارسته للوظائف العامة جعلته يحرص على معالجة مشاكل واقعه الاجتماعي؛ كالظلم الإداري الناتج عن عبث رجال الجهاز الحاكم، والظلم المالي المتمثل في التعسف في الضرائب، والظلم الاجتماعي كالتحايل على ميراث المرأة باسم الوصايا والنذور وغيرها، كل هـذه القضايا جعلت من عنصر الواقع معطى أساسيا في صياغته للأحكام. [ ص: 221 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية