الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الثاني: الفقه الاقتصادي

            أما في الفقه الاقتصادي فقد عالج الشوكاني السياسة المالية التي قام عليها اقتصاد اليمن، لا سيما في فترة الأزمات الاقتصادية التي حدثت بسبب فساد الإدارة والفتن الداخلية والحروب مع الدول المجاورة؛ وهي فرض ضرائب كثيرة ومختلفة، بمباركة وفتوى شرعية من بعض العلماء، بحجـة أن « الدولة لا تقـوم إلا بذلك، ولا تتم إلا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها» [1] ، الأمر الذي أثر سلبا على مستوى الشعب المعيشي.

            وقد رفض الشوكاني هـذه الضرائب، والجبايـات -غير الزكاة وما أوجبه الشرع الحنيف- وما فتئ باعتباره كاتب الخليفة وقاضي القضاة، ينصح الإمام منصور علي بن العباس الذي تبنى سياسة التعسف في الضرائب بأن العدل في الرعية يقتضي عـدم مطالبتهم إلا بما أوجبه الله تعالى، وقد كان أن قبل المنصور نصيحة الشوكاني، وكلفه بكتابة مرسوم إلى جميع الرعايا يتضمن إصلاحات اقتصادية [2] ، فكتب الإمام [ ص: 212 ] الشوكاني مرسوما [3] نص فيه على «أن جميع رعاياه (رعايا الخليفة) في جميع الأقطار، وكل ما شملته دولته المباركة في الأنجاد والأغوار ليس عليهم من المطلب إلا ما أثبته الشرع الشريف في جميع ما يملكونه، كائنا ما كان، مما فيه حـق لله عز وجل، لا يخاطبون بغير ذلك» [4] .

            ولم يقف الشوكاني عند حد ضمان الملكية الخاصة، بل أثبت حق الدفاع عنها فقال: «فمن طلب نقيرا أو قطميرا زائدا على ما أوجبه الله تعالى فلا طاعة له، وعلى المسلمين أن يأخذوا على يده، وينعوا أمره إلى القاضي في الجهة، وعلى القاضي أن ينهي ذلك إلى الحضرة الإمامية حتى يناله من العقوبة ما يزجر به من رام أن يفعل كفعله» [5] .

            وأكثر من ذلك فقد هـدد القضاة بالعزل إذا تهاونوا في تطبيق هـذا المرسوم، فقال: «وإذا داهن القاضي ظالما أو حابى رجلا رام غير ما فرضه الله فقد استحق أن يعزل عن هـذه الوظيفة الدينية، فليس بمستحق لها ولا مأمون عليها» [6] . كما أمر بتعميم هـذا المنشور ونشره في سائر البلاد، فقال: «وعلى كل حاكم أن يقرأ هـذا على رعية القطر الذي هـو [ ص: 213 ] فيه ويجمعهم، وينقل لأهل كل قرية صورة بخطه وعلامته ليبقى بأيديهم مستمرا يدفعون به ظلم كل ظالم، وجور كل جائر» [7] .

            وإدراكا منه للعلاقة الجدلية بين تفشي الجهل ومزاولة الظلم على الرعية أمر الشوكانـي حكام الجهات بتعيين معلمين يعلمون الناس معالم دينهم [8] .

            والجدير بالذكر في هـذا المقام أن موقف الشوكاني الذي تضمنه هـذا المرسوم لم يكن علاجا جزئيا لظاهرة التعسف في الضرائب، بل كان اجتهادا فقهيا أصيلا، هـدفه تصويب السياسية الاقتصادية الجائرة، وما تخلفه من ظلم اجتماعي؛ لقيامها على نهب واستنـزاف المواطنين، بحجة مصلحة الوطن والجهاد في سبيل الله، وهو ما جعله يؤلف في هـذا الموضوع رسالة: تنبيه الأمثال على عدم وجوب الاستعانة من خالص المال. كما ناقش الإشكالية ذاتها في كتابه: السيل الجرار، حيث وافق صاحب الأزهار على جواز الاستعانة بأموال المواطنين بشرط خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين.

            لكنه اشترط شرطا آخر وهو أن تكون الاستعانة على جهة الاقتراض، واحتج لذلك بقوله: «لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم، وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس، [ ص: 214 ] لأن أموالهم خاصة بهم، وبيت المال مشترك بينهم، فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل، فقد حق الوجوب على المسلمين» [9] .

            وقد جعل من شرط خشية استئصال قطر من أقطار المسلمين ضابطا للتفريق بين ما يباح من الاستعانة بخالص الأموال، وما لا يباح فقال: «وإذا تقرر لك هـذا، فاعلم أن هـذه الاستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هـي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا؛ زاعمين أن ذلك معونة لجهاد مؤلف، قد منعوه ما هـو مؤلف به من بيت مال المسلمين، أو جهاد من أبـى من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع، أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة، فاعرف هـذا، فإن هـذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك، وأعطاهم نصيبهم من الحطام» [10] .

            كما سعى الشوكاني في بعض رسائله إلى ترشيد السياسة الاقتصادية لبلاده من خلال تناوله لبعض القضايا المهمة؛ كدور الدولة في علاج مشكلة البطالة [11] ، ومدى تدخل الدولة في توزيع الدخل، إذ بين في [ ص: 215 ] رسالته: بلوغ السائل أمانيه بالتكلم في المصارف الثمانية، أن للدولة صلاحية واسعة في صرف أموال الزكاة بحسب الأولويات التي تقتضيها مصلحة الإسلام وأهله [12] .

            وفي موضوع توزيع الزكاة أعطى لمصرف: في سبيل الله، تفسيرا واسعا لأوجه التوزيع عليه؛ إذ جعله يشمل كل طريق يوصل إلى الله تعالى، ويحقق مصلحة الإسـلام والمسـلمين وليس فقط الجهاد، فقال: «أقول: سبيل الله، طريق الله المراد هـنا الطريق إلى الله عز وجل، لكن لا دليل على اختصاص هـذا السهم به (أي المجاهد) ، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، وهذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل عنها شرعا» [13] .

            ومن الفئات التي أدرجها في هـذا المصرف العلماء، فقال: «ومن جملة: سبيل الله، الصرف على العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيبا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، بل الصرف في هـذه الجهة من هـذه الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين، وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام» [14] . [ ص: 216 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية