الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المقدمة الثانية: مدى إمكانية تجدد الفقه الإسلامي

            لا شك أن التجديد عموما مطلب ترتضيه الفطر السليمة؛ لأنه سنة الحياة وفلسفة الإنسان والتاريخ؛ غير أنه إذا أضيف إلى الدين أو علومه أثار إشكاليات كثيرة أهمها: معنى التجديد وإمكانيته.

            وقد انبثقت هـاتان الإشكاليتان في موضوع البحث -تجديد المنهج الفقهي- من سؤال مركزي هـو: هـل يتجدد الفقه الإسلامي؟ والإجابة عن هـذا التساؤل اتسعت لآراء متنوعة تتقارب وتتباعد فيما بينها بقدر اشتراكها أو اختلافها في مسألتين اثنتين:

            الأولى: المقدمات النظرية التي ينطلق منها في بحث الموضوع.

            الثانية: دلالة المصطلحات المركزية في الموضوع. [ ص: 46 ]

            المقدمة النظرية الأولى: علاقة الفقه بالشريعة إن الدارس لفرضية إمكانية تجدد الفقه الإسلامي، وفرضية عدم إمكانية تجدده يلحظ أن كلتا الفرضيتين قائمتان على أساس طبيعة العلاقة المتصورة بين الفقه والشريعة، فالافتراض النافي لإمكانية التجديد الفقهي منطلقه أن الفقه مأخوذ ومستنبط من الشريعة، وهي واجبة الاتباع، فهو واجب الاتباع أيضا، ولا فرق بين اتباع نص قرآني أو حديثي، وبين اتباع اجتهاد أو استنباط منهما [1] .

            أما الافتراض المثبت لإمكانية التجديد الفقهي فمنطلقه عدم صحة الافتراض الأول؛ لأنه بني على خلل منهجي وهو اعتبار الفقه والشريعة أمرا واحدا، في حين أن الشريعة هـي مجموع أحكام الله تعالى الثابتة في القرآن والسنة النبوية التي تنظم أفعال الناس، أما الفقه فهو الفهم للشريعة ولما تريده الشريعة، وبناء الأحكام في ضوئها وعلى نهجها [2] .

            والحقيقة أن إثبات صحة التداخل بين مصطلح الفقه ومصطلح الشريعة أو عدمه، يقتضي الرجوع إلى أصل الكلمتين، وطبيعة كل منهما، والنتائج المترتبة على التفريق بينهما أو عدمه. [ ص: 47 ]

            - أصل كلمتي الفقه والشريعة

            الشريعة لغة: المواضع التي ينحدر إلى الماء منها [3] .

            أما اصطلاحا: فقد عرفها التهانوي بأنها: «ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم؛ سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى: فرعية عملية، ودون لها الفقه، أو بكيفية الاعتقاد، وتسمى: أصلية واعتقادية، ودون لها علم الكلام.» [4] .

            والفقه لغة: العلم بالشيء، والفهم له [5] .

            أما اصطلاحا: فقد عرفه الجرجاني بأنه: «العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.» [6] . وعرفه الآمدي بأنه: «العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.» [7] .

            - طبيعة الفقه والشريعة

            تنكشف طبيعة الفقه والشريعة من خلال معناهما اللغوي والاصطلاحي؛ فالشريعة باعتبارها ما شرعه الله للناس من دين، فهي الكتاب والسنة؛ أي: المصادر الثابتة التي لا تتغير بمرور الزمان ولا باجتهاد العلماء. أما الفقه فهو [ ص: 48 ] ما يفهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ولقد تضمن التعريف الاصطلاحي هـذا المعنى في استعماله للفظة: علم؛ العلم بالأحكام الشرعية، فالفقه إذن هـو علم يستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج إلى نظر واستدلال؛ أي هـو عمل الفقهاء في الشريعة؛ تفسيرا لها، واستخلاصا للأحكام منها، وقياسا عليها فيما لم يرد فيه نص، وطلبا للمصلحة فيما يعرض من أمور.

            - نتيجة التفريق بين الفقه والشريعة وعدمه

            إن النتيجة المترتبة عن عدم التفريق بين الفقه والشريعة هـي تبني ثبات كليهما، وعدم تغيرهما بتغير الزمان والمكان. أما النتيجة المترتبة عن التفريق بينهما فهي التأكيد أن الثابت الذي لا يتغير هـو الشريعة ، أما الفقه فقابل للتغير بحسب ظروف الزمان والمكان.

            مما تقدم يتضح أن اختلاف أصل الكلمتين وطبيعتهما وعدم معقولية وشرعية النتائج المترتبة على الدمج بينهما يفرض التفريق بينهما لتتجلى العلاقة بينهما. وقد أوضح الدكتور عبد الكريم زيدان أن الفرق بينهما يتجلى في أمرين أساسين هـما:

            1 - أن الشريعة أعم من الفقه؛ لأنها تشمل الأحكام الاعتقادية والعملية، بينما يقتصر الفقه على الأحكام العملية فقط.

            2 - أن الشريعة الإسلامية تعني الأحكام المنزلة من عند الله في كتابه الكريم، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم لا يجوز مخالفتها.

            أما الأحكام الفقهية فنوعان:

            أ - ما ينعدم أو يضعف فيه الجانب الاجتهادي، وذلك مثل الأحكام [ ص: 49 ] المعلومة من الدين بالضرورة، أو التي تستفاد من النص الشرعي بلا بحث.

            ب - ما يغلب عليه الجانب الاجتهادي، وهذا النوع من الأحكام لا يعتبر جزءا من الشريعة الإسلامية بمعناها الاصطلاحي؛ أي لا يعتبر من قبيل التشريع الإلهي الذي لا تجوز مخالفته، بل تسوغ هـذه المخالفة ما دامت مستندة إلى دليل أقوى من دليل الرأي الفقهي المتروك [8] .

            والنتيجة المستوحاة من هـذه المقدمة الأولى هـي: أنه لو جاز أن تكون الشريعة هـي الفقه -مع ما نرى من اختلاف الفقهاء، وتفنيد بعضهم آراء بعض، وإبطالها أحيانا- لصدقت فينا كلمة الله تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) (الأنعام:159) .

            المقدمة النظرية الثانية

            تجديد الفقه الإسلامي مبني على مسلمة سابقة في التصور والحكم:

            هـي أن الفقه الإسلامي قد يتقادم ويجمد. وهو خلاف لما يعتقده كثير من الفقهاء من أنه فقه حي يحوي ثروة ضخمة في شتى مجالات الحياة [9] . والحقيقة أنه إذا ما انطلقنا من النتيجة التي توصلنا إليها في تحديد [ ص: 50 ] العلاقة بين الفقه والشريعة؛ وهي أن الفقه هـو فهم الفقهاء لنصوص الشريعة، فإننا نستطيع تأكيد صحة المسلمة التي بنيت عليها إشكالية تجديد الفقه الإسلامي للاعتبارات الآتية:

            1 - أن بصيرة الفقيه مهما امتدت في المستقبل فإنها محكومة بقدرات الإنسان المحدودة في رؤية البعد الزمني.

            2 - أن الفقه الإسلامي مطالب بقضايا زمانه، ومن المعلوم أن لكل زمان قضاياه ومشكلاته، والمطلوب من الفقيه المجتهد أن ينجح في التعامل مع قضايا عصره، لكن نجاحه في ذلك لا يعني نجاحه في التعامل مع قضايا العصور اللاحقة.

            3 - أن استعراض تاريخ التشريع الإسلامي يدل على مرور الفقه الإسلامي بمراحل استرخاء وجمود، ضعف فيها الاجتهاد، وضمر في حياة المسلمين.

            بعد توضيح المقدمات النظرية لإشكالية التجديد الفقهي ننتقل إلى المسألة الثانية التي تسببت في اختلاف الرؤى حول الإشكالية ذاتها ألا وهي:

            - دلالة المصطلحات المركزية في الموضوع

            لقد تقدم ضبط مصطلح الفقه والشريعة، لهذا سيقتصر الكلام في هـذا الموضوع على مصطلح: التجديد؛ باعتباره أحد المصطلحات المركزية في البحث، ذلك أن تحديد مفهوم التجديد الفقهي مرتبط أساسا بدلالة مصطلح: التجديد. [ ص: 51 ]

            التجديد لغة: تجدد الشيء يعني: صار جديدا، وجدده أي: صيره جديدا. والجديد نقيض البالي. فيقال: بلي بيت فلان، ثم أجد بيتا من شعر؛ أي أعاد بناءه. ويقال: جدد الوضوء؛ أي: أعاده، وجدد العهد؛ أي: كرره وأكده [10] .

            ولقد استعمل مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي أخذا من الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود في سننه ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. ) [11] .والمراد بتجديد الدين: إحياء معالمه العلمية والعملية التي أبانتها نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف [12] .

            ومما سبق يتبين أن التجديد في أصل معناه اللغوي وفي استعماله النبوي يدل على الإحياء والبعث والإعادة، وأن هـذا المعنى يكون في الذهن، كما بين بسطامي محمد سعيد تصورا تجتمع فيه معان ثلاثة، يستلزم كل واحد منها الآخر:

            الأول: أن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجودا وقائما، للناس به عهد. [ ص: 52 ]

            الثاني: أن هـذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديما.

            الثالث: أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى [13] .

            وعلى هـذا التحديد اللغوي بنى بعض الباحثين تعريفهم لمفهوم التجديد. يقول الدكتور يوسف القرضاوي : إن التجديد لشيء ما: هـو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد. وذلك بتقوية ما وهى منه، وترميم ما بلي، ورتق ما انفتق؛ حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى [14] . ويقول جمال سلطان : «إن التجديد في مجال الفكر، أو مجال الأشياء على السواء: هـو أن تعيد الفكرة أو الشيء الذي بلي أو قدم إلى حاله الأولى.» [15] .

            لكن الجدير بالملاحظة أن مصطلح التجديد في الساحة الفكرية الإسلامية قد شابه بعض الغموض، وعدم الضبط؛ لاكتسابه من خلال التداول العام معنى الإلغاء والتجاوز. وإذا بحثنا عن الأسباب التي حملت مصطلح: التجديد، هـذا المعنى، بل وجعلته المعنى المتبادر إلى الذهن عند إطلاقه عند بعض الباحثين، نجدها تنحصر في عنصرين: [ ص: 53 ]

            1 - عدم اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي.

            2 - بروز مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي الحديث في مرحلة بدأت تتسرب فيها المنهجية العلمانية إلى حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية، فشاع استعماله الحديث عند بعض مفكري الإسلام الذين يقتربون في نسقهم الفكري من القيم والمناهج الغربية [16] فأصبح بعضهم يتوجس من هـذا المصطلح خيفة؛ لأن التيار العلماني استطاع تأميمه وتعبئته بمضامين جعلته رمزا لتجاوز الشريعة.

            هذان السببان جعلا عبارة: تجديد الفكر الإسلامي -عامة والجانب التشريعي منه على وجه الخصوص- محل تحفظ وحذر.

            والحقيقة أن عدم اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي، وشيوعه في مرحلة تنامي الظاهرة العلمانية ثقافيا، وتعبئته بمضامين منحرفة ليست أسبابا منطقية لرفض مصطلح التجديد لجملة اعتبارات منها:

            1 - أن المصطلح له أصل في اللغة العربية وفي الشرع (الحديث النبوي) .

            2 - أن توظيف التيار العلماني للمصطلح ضمن مفاهيم لا تتفق ودلالته اللغوية والشرعية ليس مبررا لإقصائه من المنظومة الفكرية الإسلامية، بل [ ص: 54 ] المطلوب ضبط معناه في إطار التصور الإسلامي من خلال قواعد اللغة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصول التشريع الإسلامي.

            فهذا العمل يمثل خطوة منهجية ضرورية لاستكمال المقدمات النظرية الضرورية لبحث موضوع التجديد عامة، وتجديد الفقه الإسلامي خاصة.

            ومما تقدم يظهر أن التحليل العلمي للمقدمات النظرية التي ينطلق منها في بحث موضوع تجديد الفقه الإسلامي، والضبط الدقيق لدلالة المصطلحات المركزية فيه؛ كمصطلح: الفقه والشريعة والتجديد، يفضيان إلى إمكانية تجديد الفقه الإسلامي؛ لأنه يمثل في معظمه -عدا الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أو الثابتة بنص واضح الدلالة على المطلوب- فهم الفقهاء لأحكام الشريعة، هـذا الفهم الذي يتكيف مع الظروف والحاجات التي يفرزها واقع الناس، ويتفاعل مع المعارف والتجارب والوسائل التي تتيحها طبيعة الحياة في كل زمان ومكان.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية