الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            معالم تجديد المنهج الفقهي (أنموذج الشوكاني)

            حليمة بوكروشة

            المبحث الرابع: تقويم عام لنظرية التجديد الفقهي عند الشوكاني

            لقد أدرك الإمام الشوكاني الأزمة الحضارية التي كانت تعانيها الأمة الإسلامية في عصره، كما أدرك أن مكمن الداء هـو غلق باب الاجتهاد، والحكم بوجوب تقليد المذاهب المستقرة في الأمة الإسلامية، فأصبح بذلك الاجتهاد أمرا منكرا، والتقليد أمرا واجبا. إن التزام السواد الأعظم للأمة بهذا الحكم الفقهي -وجوب التقليد- واقتناعه بدعوى استحالة الاجتهاد، جعل مبدأ التقليد هـو الأصل في المنظومة المعرفية الإسلامية، وقد أثرت هـذه القناعة على البنية النفسية والعقلية والاجتماعية للأمة الإسلامية، وغابت بسبب ذلك القيم العلمية التي بنيت عليها العلوم في القرون الثلاثة الأولى؛ كالاستقلال الفكري، وحرية الرأي، وتسرب الجمود والركود في جوانب الحياة كلها.

            ففي الجانب التشريعي: انحصر نشاط الفقهاء في خدمة المذهب الفقهي؛ عن طريق تعليل الأحكام التي قررها الأئمة المجتهدون، وتطبيقها على الحوادث المستجدة، فأصبحت نصوص إمام المذهب المصدر الأول والأساس في استنباط الأحكام، وأقيم بذلك سد بين الأمة وبين نصوص الكتاب والسنة.

            وفي الجانب العقدي: أصبح الخروج عن المذهب أمرا يخدش في الانتماء العقدي، ويعد نوعا من أنواع الردة ، لا سيما في اليمن، حيث يسيطر المذهب الهادوي . [ ص: 239 ]

            وفي الجانب الاجتماعي: أثر التقليد في تماسك المجتمع الإسلامي ووحدته؛ بسبب اتباع كل طائفة لمذهب معين، واعتقاد الصواب فيه وحده دون غيره.

            أما في الجانب السياسي: فإن سيطرة نزعة التقليد لموروث المتقدمين حصرت العقل الفقهي في دائرة فقه الكتب الموروثة، وصرفته عن معالجة المشاكل الواقعية، الأمر الذي جعل الفقيه يعيش في عزلة عن قضايا الحياة العامة. ثم إن طول مدة هـذه العزلة، وعدم التحرك الجاد للخروج عنها جعلا الدعوة إلى الاجتهاد -التي رفع شعارها بعض العلماء المجتهدين- ونقد ومراجعة آراء المتقدميـن تعد دعوة إلى هـدم نظام الحكم، لا سيما إذا كان هـذا الأخير متبنيا لمذهب معين، وفارضا له على الحيز الجغرافي الذي تحت سلطته.

            وأمام هـذه الأزمة الحضارية التي خلفها مبدأ التقليد رأى الإمام الشوكاني أن البعث الحضاري يحتاج إلى إعادة صياغة بنية العقل المسلم، وذلك بإقامته على مبدأ الاجتهاد الذي يقتضي الرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلـى مصادر الشريعة الإسلامية، والاحتكام إلـى الدليل فـي تقويم التراث الفقهي، وعدم إضفاء صفة القداسة والعصمة على اجتهادات المتقدمين. [ ص: 240 ] إن القراءة السطحية لنظرية الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشوكاني توحي بوجود تناقض داخل بنية هـذه النظرية؛ ذلك لأن رفض التقليد حتى للإنسان الفاقد لآليات الاجـتهاد، ومطالبته بالسؤال عن الدليل لا عن آراء العلماء، والدعـوة إلى الاجتهاد المستقل والمطلق في الفروع والأصول، وترك التمذهب بالمذاهب الفقهية الموجودة يفضي من الناحية الاجتماعية -على الأقل- إلى ما أفضى إليه التقليد من فرقة، وتمزق اجتماعي وفكري.

            لكن المحلل لأجزاء نظرية الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشوكاني وفكره الأصولي، ومنهجه في الدراسات الفقهية والتربوية يدرك أن تحريم الشوكاني للتقليد ودعوته إلى الاجتهاد هـو الطريق السليم في نظره إلى تحقيق الوحدة الفقهية بين المسلمين. ومفهوم الوحدة الفقهية -من خلال استقراء معالم تجديد المنهج الفقهي عنده- هـي اشتراك المسلمين في الأسس المنهجية الكبرى للتفكير الفقهي.

            فقد عد الإمام الشوكاني مبدأ الاجتهاد هـو العامل المؤسس لهذه الوحدة؛ لأنه يزود الفقهاء بمبادئ منهجية مشتركة تفرض تجانسا منطقيا بين الفقهاء في منهجية التعامل مع النص الشرعي والتراث الفقهي، والواقع المعيش، ولا ضير بعد ذلك أن تختلف الطرائق الإجرائية في فروع الاجتهاد الفقهي. وتتمثل هـذه المبادئ في: الموضوعية، والانفتاح على التراث الفقهي، والروح النقدية. [ ص: 241 ] أما الموضوعية: فلأن التقليد يفرض على العقل الفقهي وصاية خارجية تمنعه من التعامل المباشر والمستقل مع معطيات الموضوع المدروس، في حين أن مبدأ الموضوعية يضمن للعقل الفقهي صلة مباشرة بمادة البحث، فيدرس الموضوع بحسب معطياته. ومن شأن هـذا المبدأ أن يؤسس قاعدة مشتركة بين الفقهاء في معالجة تطبيقات القضية المدروسة، ويكون اختلافهم بعدها فرعيا جزئيا سببه تفاوت المعطيات، وليس العوامل الذاتية؛ كالتعصب للرأي، وتقديس آراء الآخرين.

            أما الانفتاح على التراث الفقهي كله: فلأنه يمكن الفقيه من استيعاب الرصيد الفقهي لمختلف المذاهب، الأمر الذي يوسع الأفق المعرفي لديه، ويجعله يسلك في بحثه مسلك المقارنة بين الآراء المختلفة، ومن ثم يهتدي إلى مكامن الضعف والقوة فيها، كما يحرره من التعصب المذهبي الذي يعد أهم عامل من عوامل الفرقة.

            أما الروح النقدية: فإن الانفتاح الواسع على مجمل التراث الفقهي يجبر العقل الفقهي أن يسلك في حركته المعرفية مسلك النقد والتمحيص، وهذا عامل مهم في عملية الترشيد الفقهي.

            وهذا طبعا لا ينفي وجود ثغرات في تنظير الشوكاني لهذه الدعوة، فإن عمله هـذا وإن رام منه الدقة فقد لابسته بعض الثغرات، من هـنا [ ص: 242 ] وجب تقييم نموذج الشوكاني التجديدي من خلال الإطار التاريخي الذي وجد فيه، وهذا يساعد على فهم وتفسير بعض المواقف التي تعتبر متشددة إذا ما قيست بمقاييس العصر الراهن؛ كاشتراطه الاجتهاد على المفتي، ورفضه لمبدأ تجزؤ الاجتهاد.

            فقد اتسع النشاط القضائي في الحياة المعاصرة؛ إذ تناول كل قضايا مؤسسات المجتمع وعلاقات الأفراد، وأنشطتهم المختلفة، من هـنا احتاج القاضي في الدرجة الأولى إلى تكوين تخصصي في إطار نوعية المجال القضائي الذي يمارس مهنته فيه: المعاملات، الجنايات ... إلخ.

            أما مبدأ تجزؤ الاجتهاد : فإن اتساع وتشعب فروع العلوم والمعرفة، وتنوع التخصصات العامة والدقيقة، يجعل من المستحيل أن تجتمع كل هـذه المعارف في شخص واحد، من هـنا لا يمكن رفض اجتهاد أفراد أكفاء في إطار تخصصاتهم، لا سيما تلك المتعلقة بالمجال الطبي، ومجال الحياة العامة؛ كالإدارة والاقتصاد والسياسة، بل هـذا النوع من الاجتهاد هـو عصب الاجتهاد الجماعي الذي يقوم على تكاتف جهود العلماء من تخصصات مختلفة.

            وإضافة إلى ما سبق فإن أبرز ثغرة لابست جهد الشوكاني التجديدي الإفراط في التمسك الظاهري بالنص، والمطالبة بالدليل، على حساب مقاصد الشريعة الإسلامية. [ ص: 243 ] إن حرص الإمام الشوكاني على استرجاع مكانة الدليل (النص الشرعي) في المنظومة الفقهية، وعده مبدأ الاحتكام إلى الدليل أساس المنهج الفقهي والأصولي جعله يغفل في بعض الأحيان عن مراعاة مقاصد الشريعة وروحها، رغم تأكيده أهمية اعتبارها في فهم وتنـزيل النصوص.

            ولعل السبب في ذلك -كما أعتقد- هـو اعتماد سياسـة رد الفعل لما كانت تعاني منه الحياة الفقهية في عصره من اشتغال بغير علم الكتاب والسنة، وتبني آراء العلماء دون النظر فيها.

            ولعل أبرز مثال على إغفال الإمام الشوكاني لمقاصد الشريعة موضوع زكاة التجارة، فإنه رأى عدم وجوب الزكاة في أموال التجارة؛ لعدم قيام الدليل على ذلك، ولأن التجارة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قائمة في أنواع ما يتجر به، ولم ينقل عنه ما يوجب الزكاة فيها، ولما ثبت في الصحيح من ( حديث أبي هـريرة رضي الله عنه : «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه. ) [1] فظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في العبد والفرس في جميع الأحوال؛ أي سواء أكانت للتجارة أم لغيرها [2] .

            والحقيقة أن الله تعالى فرض الزكاة في أموال الأغنياء لمقاصد شرعية أهمها: تطهير أنفسهم، ومواساة الفقراء، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة [ ص: 244 ] المصالح العامة، وسد ذريعة الفساد بسبب تضخم الأموال، وانحصارها في أناس معدودين. فلا يعقل أن يخرج من هـذه المقاصد الشرعية كلها التجار، الذين ربما يمتلكون معظم ثروة الأمة.

            وفي إطار الحديث عن المقاصد تجدر الإشارة إلى ملاحظة هـامة؛ وهي عدم وجود كتاب الموافقات: لأبي إسحاق الشاطبي مصدرا ضمن مؤلفات الشوكاني الفقهية والأصولية، رغم أن الفاصل الزمني بين الرجلين يقرب من خمسة قرون، ورغم اطلاع الشوكاني الواسع على مصادر البحث فـي التراث الفقهي والأصولي. فهل السبب -كما قرر المرحوم عبد الله دراز - يعود إلى كتاب الموافقات نفسه؛ أي أن طريقـة تأليفه، والمباحث المبتكرة التي اشـتمل عليها هـي التي تسببت في عدم تداوله [3] ، أم أن الأمر يعود إلى الشوكاني نفسه؛ إذ أن القضية الجوهرية التي شغلت فكره الإصلاحي التجديدي هـي الرجوع إلى التعامل المباشر مع النص الشرعي، وبيان أدوات فهمه؟

            ذلك لأنه في عصر التقليد انقطعت الصلة المباشرة بالنص الشرعي، وقل الاشتغال بأدوات فهمه، وتحول الهدف إلى مجرد فهم قول إمام المذهب والتخريج عليه، الأمر الذي جعل الإمام الشوكاني يركز في إعادة [ ص: 245 ] بناء المنظومة الفقهية والأصولية على فقه النص أكثر من تركيزه على فقه التنـزيل، وإن شهد منهجه الفقهي مراعاة واضحة لفقه التنـزيل، لا سيما اجتهاداته المتصلة بقضايا المجتمع، لكنها لم ترق إلى درجة التقنين والتقعيد.

            ومع هـذه الثغرات فإن المبدأ الرئيس الذي يستفاد ويتمسك به من فكر الإمام الشوكاني التجديدي هـو الاجتهاد، وعدم تعطيل العقول بالركون إلى التقليد. وأما شروط هـذا الاجتهاد وآلياته وتطبيقاته، فتخضع لا محالة لظروف وحاجات ونوعية المعارف والعلوم في كل عصر، وهذا ما التزمه الإمام الشوكاني في ذكره لشروط الاجتهاد لا سيما تلك المتعقلة بالطبقة الأولى، فقد راعى فيها متطلبات الحياة العلمية في عصره.

            ومع أن الإمام الشوكاني لم يحدث الانقلاب الفكري والاجتماعي اللازم لتصويب الحياة الإسلامية في مجتمعه، إلا أن أثره استمر في التاريخ الإسلامي؛ حيث استلهمت أفكاره حركات الإصلاح التي شهدها العالم الإسلامي في العصر الحديث، في المشرق والمغرب.

            فقد وضع صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا الإمام الشوكاني على رأس العلماء المجددين المصلحيـن، الذين تعـد كتبهم أعظم مادة للحركات الإصلاحية فـي العصر الحـديث. ففي مقال له عن الموضوع ذكر أنه: [ ص: 246 ] «لم يجئ بعد الإمام ابن حزم من يساميه أو يساويه في علمه وقوة حجته إلا شيخ الإسلام محمد تقي الدين بن تيمية ، وكذا أبو عبد الله محمد بن القيم وارث عـلم أستاذه ابن تيمية وموضحه، وأن أنفـع ما كتب بعدهم كتاب: فتح الباري شـرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر العسقلاني ، ومن أنفعها في كتب فقه الحديث كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، ومن كتب أصول الفقه كتاب: إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول، كلاهما للإمام الجليل المجـدد مجتهد اليمن في القرن الثاني عشر محمد بن علي الشوكاني ... فهؤلاء أشهر أعلام المصلحين في الإسلام؛ من علماء الحديث والفقه الذين تعد كتبهم أعظم مادة للإصلاح فيما نحن بصدده» [4] .

            وقال عنه العلامة الفاضل بن عاشور رحمه الله : «ولم يخل القرنان: الثاني عشر والثالث عشر، بالمشرق والمغرب من رجال يتطلعون في تحاريرهم الفقهية وفتاويهم إلى السمو عن منـزلة التحرير والتخريج إلى حد محدود مثل: البسولي والرهوني في المغرب، وبيرم الثاني وإسماعيل التميمي بتونس، وابن عابدين بالشام، ولكن اثنين ارتفعا ارتفاعا فائقا إلى مقام الاجتهاد، أولهما من الهند وهو ولي الله [ ص: 247 ] الدهلوي (ت1176هـ) ، وثانيهما الإمام الشوكانـي (ت1255هـ) ، فهذان هـما اللذان استقلا بالنظر في المسائل استقلالا تاما شاملا، وجددا معاني الأصول ومعاني الأحكام، لا سيما ثانيهما الذي توفي في أوائل [5] القرن الماضي، فلقد ترك من بين كتبه المهمة شاهدين زكيين في كتاب: نيل الأوطار، و: إرشاد الفحول، على أنه قد ارتقى إلى مقام النظر في الأدلة، والاستنباط منها، وأنه لم يقل في مسألة من الفقه إلا بما أداه إليه الدليل، وأن له في الأدلة ومناهجها أنظارا تساوي الأنظار الاجتهادية الأصيلة التي بنيت عليها كتب أصول الفقه» [6] .

            ولهذه المكانة العلمية التي تبوأها الإمام الشوكاني عده جل من كتب عنه مجدد القرن الثالث عشر الهجري ورائدا من رواد النهضة الفكرية في العالم الإسلامي في العصر الحديث. [ ص: 248 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية