الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب السادس: ربط الحكم الفقهي بالبعد الاجتماعي:

            لقد كان الواقع الاجتماعي معطى أساسيا بالنسبة للإمام الشوكاني في تحليل النصوص الشرعية، واستنباط الأحكام منها، إذ قدر في اجتهاداته الفقهية الخاصة بقضايا المجتمع ما ينبغي أن يكون انطلاقا مما هـو كائن في حياة الناس من أوضاع وأعراف وعادات، يظهر ذلك جليا في إبطاله لبعض التصرفات المالية الجائزة أصلا؛ كالهبة والنذر والوقف والوصية التي اتخذها سكان بعض المناطق اليمنية وسيلة لحرمة البنات من الميراث.

            فقد وصف الشوكاني هـذه الظاهرة الاجتماعية قائلا: «ما وقع من بعض من نزعه عرق إلى ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث الإناث، فإنهم يخرجون أموالهم أو أكثرها أو أحسنها إلى الذكور من أولادهم بصورة الهبة والنذر والوصية أو الوقف» [1] . بل حملهم التحايل على ميراث المرأة إخراج أموالهم وفق الصور السابقة إلى أولاد أولادهم، وهذا ما أوضحه الشوكاني في قوله: «ومن جـملة ما تلطف به من له أولاد؛ ذكور وإناث، أن يعمدوا إلى أولاد أولادهم الذكور، فينذرون [عليهم]، ويوصون لهم، ويقولون أنهم فعلوا ذلك لغير وارث، ولـم يفعـلوا ذلك إلا لقصد تقليل نصيب بناتهم، وتوفير نصيب الذكور» [2] . [ ص: 191 ] وقد لاحظ الشوكاني من خلال ممارسته لوظيفة القضاء والإفتاء أن هـذا التصرف المتناقض مع أحكام الشريعة صار سلوكا اجتماعيا عاما، فقال: «وهذه الذريعة الشيطانية قد عمت و طمت، خصوصا أهل البادية» [3] .

            مبينا أن الذي ساعد على انتشارها هـو إنفاذ طائفة من العلماء لمثل تلك التصرفات والحكم بصحتها، بحجة أن الشارع سوغ للناس الهبة والنذر والوصية ، مغترين في ذلك بمجرد الاسم، دون النظر في معاني المسميات وحقائقها، غير متعقلين للفرق بين هـذه التصرفات الباطلة، وبين التصرفات المالية الشرعية، ولا فاهمين للمغايرة الكلية بينهما، ولا متأملين للأسباب التي تصدر عنها تلك الأمور، ولا مدركين أن العبرة بالمسميات لا بالأسـماء، وأن مجرد الاسـم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال، وأنه لو كان الحكم يدور على التسمية، لكان الخمر المسمى ماء حلالا، وكان الماء المسمى خمرا حراما.

            وإدراكا منه لمآلات هـذا السلوك وخلفيته أقر الشوكاني أنه من خصص بعض ورثته بهبة أو نذر أو وصيـة؛ بقصد المفاضلة بين الورثة بطلت هـذه التصرفات، ولم تكن شرعية؛ لأنها مشتملة على ضرار، ولأنها حيل، القصد منها قطع ميراث وارث، وهذا من أعظم الحيف والإثم [4] . [ ص: 192 ] ولتأكيد صدق هـذه العلل التي بنى عليها الحكم، قام الشوكاني بمسح اجتماعي، تبين من خلاله عدم شرعية مآلات تلك التصرفات المالية حيث قال: «وقد تتبعت هـذا فما وجـدت أحدا يوصي لأولاد أولاده، أو ينذر عليهم، إلا ومعه بنات، أو لـه ميل إلـى بعض الأولاد دون بعـض، ولا يفعلون ذلك لمقصد صالح إلا في أندر الحالات وأقلها» [5] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية