الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الأول: العوامل الموضوعية

            أولا: العامل الأسري نشأ الإمام الشوكاني في كنف أسرة عريقة في النسب والمكانة الاجتماعية والعلم والقضاء. فهي تعد من بين الأسر اليمنية العريقة التي تصل جذورها إلى جد القبائل اليمنية القحطانية هـمدان بن مالك ابن زيد [1] . ولقد حظيت هـذه الأسرة بمكانة سياسية مرموقة في عهد الأئمة الزيديين لمناصرتها لهم في حروبهم ضد الأتراك [2] ، كما انتظمت فروعها في سلك القضاء، وبرز منها علماء كانوا مفخرة لهجرة شوكان [3] مسقط رأس الإمام الشوكاني الذي وصفها بأنها: معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الأزمان، لا يخلو وجود عالم منهم في كل زمان. [4] . [ ص: 68 ]

            وعلى رأس علماء هـذه الأسرة الكريمة والده العلامة علي بن محمد الشوكاني (1130هـ / 1211م) ، الذي نشأ بهجرة شوكان ثم ارتحل إلى صنعاء ، وتتلمذ على كبار علمائها، فبرع في العلوم النقلية والعقلية، وبلغ مكانة علمية مرموقة مكنته من التدريس في مساجد صنعاء المشهورة، كما تصدر للإفتاء، وتولى القضاء بخولان ثم بصنعاء مدة أربعين سنة [5] .

            لقد كان انتساب الشوكاني لهجرة شوكان عاملا مهما في بناء ميوله العلمية وتنميتها، كما كانت شخصية والده بأبعادها المختلفة -العاطفية، والروحية، والعلمية- مصدر الاستقرار النفسي والتوافق العائلي والتطلع العلمي عنده، حيث قال في وصف هـذا الجو الأسري المتجانس: «إنه تربى في حجر أبيه الذي رعاه وأعطاه كل العناية، فكان أبا بارا رحيما حنونا عطوفا، وبلغ مع ولده إلى حد البر والشفقة والإعانة على طلب العلم والقيام بما يحتاج إليه مبلغا عظيما حيث لم يكن لولده شغلة بغير طلب العلم» [6] . كما كانت شخصية والده الاجتماعية عاملا أساسيا في تنشئته وتطبيعه الاجتماعي؛ إذ أن اشتغال والده بالتدريس والإفتاء والقضاء نمى فيه مهارات هـذه المهن التي مارسها جميعا في مجتمعه بعد انتهاء مرحلة الطلب. [ ص: 69 ]

            وإذا تبنينا ما أقره علم النفس التربوي الحديث من أن الفرد يتأثر إلى حد كبير بالبيئة التي يشب فيها، ومن ثم يجب تفسير خبراته منذ ميلاده حتى شيخوخته بناء عليها

            [7] ، نستطيع القول: إن الإمام الشوكاني قد حظي ببيئة أسرية صحية وفرت له الاستقرار النفسي والتوافق العائلي والجو العلمي، فشاركت بذلك في صياغة شخصيته العلمية التجديدية.

            ثانيا: طبيعة المذهب الزيدي

            لقد قام منهج التفكير الفقهي الاجتهادي في المذهب الزيدي على أساسين مهمين، كانا من العوامل المهمة في تكوين العقلية الاستقلالية والحـس الإبداعي التجديدي لدى الإمام الشوكانـي؛ ألا وهما: الاجتهاد الفقهي، والانفتاح على الرصيد المعرفي للمدارس الإسلامية الأخرى.

            فمما ميز المذهب الزيدي عن بقية المذاهب الإسلامية الأخرى حض العلماء على الاجتهاد فيما يجد لهم من مشكلات شرعية واجتماعية، ورفض تبني دعوى غلق باب الاجتهاد [8] . ومما أكسب مبدأ الاجتهاد صفة المحورية في المنظومة الفكرية والفقهية الزيدية عده شرطا من شروط الإمامة في المذهب الزيدي [9] . [ ص: 70 ]

            كما ساهم في دفع عجلة الاجتهاد الفقهي واستظهار الرصيد المعرفي الإسلامي في شتى فروع المعارف الإسلامية انفتاح المذهب الزيدي على المذاهب الأخرى، وبخاصة المذهب الشافعي والحنفي، والحرية فـي الأخـذ أو الاتفاق مع أيهما، الأمر الذي جعل علماءه أكثر تحررا واستفادة، ومن ثم أكثر إنتاجا وأعمق نظرا [10] .

            وفي ظل هـذه القناعات الفكرية المعرفية تكونت عقلية الإمام الشوكاني التجديدية -فترة تتلمذه على المذهب الزيدي- فاعتبر الاجتهاد فريضة شرعية وضرورة حياتية وسنة كونية، بناء على أن المعارف تزداد وتتطور [11] ، وعد التقليد -وهو العمل بقول «الغيـر» من غيـر حجة- [12] إبطالا لمنفعة العـقل، ونسخا للشريعة الإسـلامية؛ لانـقطاع السـبيل إلى معرفة الكتاب والسنة [13] .

            من هـنا كان تشبعه بالنهج الاجتهادي للمذهب الزيدي سببا في بلوغه درجة الاجتهاد المطلق، فلم يقيد نفسه بأي مذهب حتى المذهب الزيـدي، ولقد وصـف الدكتور الصعيدي اسـتقلاليته قائلا: «زيف ما لم يقم عليه دليل فثار عليه أهل مذهبه من الزيدية... ورد عليهم بأنه [ ص: 71 ] يقف موقفا واحدا من جميع المذاهب، ولا يخص مذهب الزيدية بتحريم التقلـيد فيه» [14] .

            ثالثا: بيئة صنعاء العلمية

            رغم طغيان التقليد والتعصب المذهبي على البيئة العلمية اليمنية فقد زخرت مدينة صنعاء في عصر الإمام الشوكاني بجماعة من العلماء شذوا عن النسق الفكري السائد [15] ، وميزهم الشوكاني بأنهم: «يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية... ولا يرفعون إلى التقليد رأسا...» [16] . ولقد حرص الإمام على التتلمذ والتلقي عن هـذا النمط من العلماء أمثال الشيخ علي عرهب (1164هـ / 1236هـ) [17] . والشيخ عبد القادر بن أحمد (1135هـ / 1207هـ)

            [18] ، اللذين نميا فيه النـزعة الاجتهادية بتفتيق طاقاته الفكرية والعلمية الضرورية للتفكير الاجتهادي؛ كالفهم، وسرعة الإدراك، والقدرة على تحقيق المباحث الدقيقة، وعدم التقليد، والإحاطة بعلوم الاجتهاد. [ ص: 72 ]

            رابعا: مجددو اليمن الأربعة

            إن الدراسة المزاوجة بين تاريخ اليمن الحديث وحياة الإمام الشوكاني تكشف أن جهده التجديدي لم يكن طفرة لا جذور لها، بل كان حلقة من حلقات التجديد في إطار حركة الإصلاح والتجديد التي شهدها اليمن في العصر الحديث [19] ، التي كان منطلقها الأساس دحض دعوى غلق باب الاجتهاد؛ التي كانت نذير شؤم ليس على الفقه وعلوم الشريعة فحسب بل على مختلف أوجه النشاط والحياة الفكرية والعلمية والأدبية والسياسية الإسلامية. ولقد مثل هـذه الحركة التجديدية شخصيات أربع عملاقة كان لها أكبر الأثر في تشكيل الأفق المعرفي، وبلورة معالم التجديد الفكري عامة والفقهي خاصة لدى الإمام الشوكاني.

            أولها: المجتهد المطلق محمد بن إبراهيم الوزير (ت 840هـ) الذي زاحم -حسب رأي الشوكاني- أئمة المذاهب الأربعة [20] . تلاه في القرن الحادي عشر الهجري المجـتهد الحسن بن أحـمد الجـلال (1014هـ / 1084هـ) [21] ، وصلاح بن مهدي المقبلي (1040هـ / 1108هـ) [22] . ثم تسلم مشعل هـذه الحركة في القرن الثاني عشر الهجري محمد بن إسماعيل [ ص: 73 ] الأمير الذي وصفه الشوكاني بأنه: من الأئمة المجددين لمعالم الدين [23] .

            ولقد جمعت هـذه الشخصيات الأربع قواسم مشتركة تمثلت بشكل أساس في الدعوة إلى الاجتهاد وبلوغ أرقى درجاته، والنفور من التقليد والتعصب المذهبي [24] . يظهر ذلك في مؤلفاتهم التي كانت بمثابة ثورة علمية على التقليد، الذي أصبح قاعدة أصولية تحكم كل إنتاج فقهي. إذ ألف الوزير كتابه: إيثار الحق على الخـلق، و: العواصـم والقواصـم في الذب عن سنن أبي القاسم، وألف المقبلي : العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ.

            كما اشتركت هـذه الشخصيات الأربع في دراسة التراث الفقهي عموما، والهادوي الزيدي على وجه الخصوص، دراسة نقد وتمحيص، قوامها الاحتكام إلى الدليل، والانتصار للحق، يظهر ذلك في مؤلفاتهم الفقهية والأصولية التي لم تكن مجرد حواش أو شروح على الشروح في المذهب، كما هـو حال معاصريهم في اليمن وخارجه، بل كانت مؤلفاتهم في هـذا المجال اجتهادات انتقادية لا تخضع لأي قوالب مذهبية

            [25] .

            وأبرز مثال على ذلك سلسلة الدراسات النقدية التي أنجزها الجلال والمقبلي والأمير لكتاب: الأزهار، لمؤلفه العلامـة أحـمد بن يحيى [ ص: 74 ] المرتضى (775هـ/840هـ) الملقب بالمهدي، الذي صار عمدة الهادوية في عباداتهم ومعاملاتهم [26] . وهي على التوالي: ضوء النهار، والمنار، ومنحة الغفار على ضوء النهار.

            ومن القضايا الجوهرية التي احتلت الصدارة في المشروع الإصلاحي للمجددين الأربعة نصرة السنة النبوية. وأشهر من مثل هـذه النصرة كتاب الوزير: العواصم والقواصم في الذب عن سـنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . ومرجع هـذا التحرك الدفاعي عن السنة النبوية إنكار الهادوية الزيدية في اليمن للسنة الواردة في الصحيحين والسنن الأربع، وما يلحق بـها من المجـاميع؛ لأن رواتـها لم يكونوا من آل البيت [27] .

            لكن إحاطة هـذا التيار التجديدي بالجغرافية السياسية للدولة اليمنية، ومعرفته لأجنحة الصراع في المجتمع اليمني جعـله يدرك أن إنكار السـنة لـم يكن صادرا عن قناعة علمـية، أو حتى مذهبـية؛ بدليل أن الزيدية في الأصـل: يصححون ما يصـح من كتب السـنة، ويحتجـون بما فيها [28] . بل إن دوافع انغلاق الهادوية على السنة هـي دوافع سياسية ومصلحية محضة؛ فقد كانت دعوى نصرة مذهب آل البيت حجة تستتر بها الزعامة السياسية والعلمية والقبلية للحفـاظ على مشـروعيتها، واستمرار [ ص: 75 ] بقـائها. إذ كانت الزعامة السياسية ترضى وتتغاضى عن استمرار الدهماء في دائرة المذهبية الضيقة لتمكين نفوذها، واستمرار انحصار الإمامة في نطاق العائلة خشية حكم أهل السنة، وقولهم بجوازها في غيرهم.

            كما لـم تجـد الزعامة العلمية ذات البضاعة المزجاة فـي علم السـنة ما تستر به قصورها العلمي في مواجهة علماء السـنة وأنصـارها إلا بتأجيج نار المذهبية فـي نفوس العوام. كما استعملت الزعـامة القبلية دعـوى نصرة مذهب آل البيت بطاقـة ضغط علـى السلطة الحاكمة لتحقيق مصالحها المادية [29] .

            إن نبذ هـذا التيار التجديدي للتقليد ونصرته للسنة فرض على رواده الاصطدام بأهل عصرهم؛ حكاما، وعلماء، وعامة.

            فقد عاصروا الدولة القاسمية التي كان من السهل على بعض رجالها قتل أو سجن أي داعية للإصلاح [30] بحجة كراهية أهل البيت أو مخالفة مذهبهم [31] . فاستغل علماء التقليد ومن اتبعهم من العامة هـذا الموقف السياسي في الثورة على الرواد الأربعة، واتهامهم بمحاولة هـدم مذهب آل البيت لاشتغالهم بالأمهات الحـديثية، والتزامهم بما فيها من أحكام، [ ص: 76 ] وانتقادهم المذهب الهادوي مذهب الدولة [32] . كما خرج بعض زعماء القبائل على بعض الأئمة في جيوش عظيمة بدعـوى أن هـؤلاء العلماء كادوا أن يهدموا مذهب آل البيت، ولا يرجعون في الغالب إلى ديارهم حتى يجعل لهم الإمام زيادة في مقرراتهم المالية [33] .

            ورغم هـذا الحصار السياسي والعلمي فقد اشتهر المجددون الأربعة بمقارعتهم لأئمة عصرهم بنقد وتصويب سياساتهم المالية والعسكرية. فقد بعث الجلال رسالة إلى المتوكل عنوانها: براءة الذمة في نصيحة الأئمة. عندما بلغه أن قوات جيشه عاثت فسادا عند دخولها في بعض المناطق الجـنوبية [34] . كما أرسـل الأمير رسالة إلى المنصور الحسين بن القاسم انتقد فيها السياسة المالية والقضائية للدولة [35] .

            إلا أن شدة المحن والخطوب اضطرت الثلاثة الأوائل إلى المنفى الاختياري، فالوزير انقطع إلى ربه في القفار، والجلال رضي بالمقام منعزلا بهجرته بالجراف، والمقـبلي نزح إلى الحرمين واستقر بها [36] .

            أما الأمير الصنعاني فإن نفسيته وتفاصيل أوضاعه، ومكانته العلمية جعلته يستمر في المقام بصنعاء، ومكنته من فتح آفاق جديدة لحركة التجديد والإصلاح؛ إذ أنه لم يحصر نشاطه التجديدي في المناقشات [ ص: 77 ] النظرية للخلافات الفقهية، كما لم يقصر نشاطه الإصلاحي على محاربة الممارسـات الابتداعية للعـوام، والسياسات غير الشرعية للحكام، بل إن الرجل اقتحم ميدان الوظائف العامة، فتولى الأوقاف، وساهم في إخماد الفتن الداخلية الصادرة عن الصراع الأسري حول الإمامة [37] .

            كما صاغ بعقليته الفقهية برنامجا لإصلاح الأوضاع المالية والاجتماعية في الرسالة التي بعثها إلى المنصور ، والتي كانت أهم محاورها: الزكاة، كيفية أخذها وصرفها بطريقة شرعية، تنظيم العملة وصونها من العبث والتبديل، إلغاء الضرائب، إصلاح جهاز القضاء، نشر التعليم الديني على نفقة الدولة، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة المباشرة بحياة الناس

            [38] .

            أما الإمام الشوكاني فقد ورث مدرسة الأمير، وكان آخر السلسلة الذهبية لأولئك المجددين، تبنى الدعوة إلى الاجتهاد، فكانت القضية المحورية في فكره وفقهه، كما واصل الدفاع عن السنة وخدمة علومها، حتى لقب بإمام أهل السنة في عصره [39] .

            لكن رغم تأثره بهؤلاء الرواد فقد تميز عنهم بعطائه العلمي، وأساليبه الإصلاحية؛ إذ مكنه النفوذ السياسي الذي حظي به من أن يوسع ويعمق [ ص: 78 ] الآفاق التي فتحها الأمير ، حيث جعل برامج الإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أحد الموضوعات الفقهية والإصلاحية الهامة التي عالجها وأشرف على تطبيقها، وبهذا استطاع الإمام الشوكاني أن يخرج الفقه الإسلامي من دائرة المدارسة النظرية إلى حيز البرامج الميدانية التي تسوس الحياة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية