الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الأول: الاحتكام إلى الدليل

            لقد أخذ الدليل مركز الثقل في منظومة الشوكاني الفقهية، وكان من مقتضيات هـذا الموقف المنهجي التزام الشوكاني مبدأ الاحتكام إلى الدليل في دراساته الفقهية، حيث أقام مذهبه الفقهي على الأخذ بالكتاب والسنة الثابتة، والاجتهاد بما لا يتنافى والنصوص، وضمن مقاصد الشريعة وروحها، وعليه عد الإمام الشوكاني الدليل الأصل في كل اجتهاد، والفيصل فـي كل خلاف فقهي، فلا يرجح رأيا ولا ينصره إلا إذا دلت عليه الأدلة الناهضة. والدارس لكتابات الشوكاني الفقهية يلاحظ هـذا الموقف بوضوح.

            ففي باب: حكم الأذنين في الوضوء. في كتاب: نيل الأوطار. ذكر الشوكاني ذهاب القاسمية ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل إلى الوجوب، محتجين [ ص: 177 ] ( بحديث ابن عباس الذي مفاده: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهرهما فمسح ظاهرهما وباطنهما. ) [1] ، وأن الأحاديث التي نصت على أن الأذنين من الرأس تفيد أن الأمر بمسح الرأس أمر بمسحهما، فثبت وجوب المسح بالدليل القرآني.

            لكن الشوكاني رد بعدم انتهاض الأحاديث الواردة في ذلك، ورجح استحباب مسح الأذنين على الوجـوب؛ لأنه كما قـال: ( لا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض ، وإلا كان من التقول على الله بما لم يقل) [2] .

            ومن مظاهر احتكام الشوكاني إلى الدليل الاستقلالية في الاجتهاد، والأخذ بظاهر النص، والجمع بين الأدلة ما أمكن.

            أ ـ الاستقلالية في الاجتهاد

            إن الأرضية الأصولية القوية التي ارتكز عليها الشوكاني جعلت آراءه الفقهية تتميز بالاستقلالية، فهو لا يجعل مذهبا من المذاهب، أو قـولا من الأقوال مصدره في فهم النصوص واستنباط الأحكام، بل يبحث المسائل بحثا مستقلا، فإن وافق غيـره في النتيجة فهي موافـقة اجـتهاد لا موافقة تقليد.

            ومن مظاهر استقلاليته: عدم ميله لطرف معين في جميع اجتهاداته، بل غالبا ما يوافق عالما في مسائل، ويخالفه في أخرى، مثال ذلك: ما ذكره في [ ص: 178 ] معرض تفسيره لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) (الأحزاب:56)

            فقد ناقش مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، هـل هـي واجبة أم لا؟ فذكر رأي الجمهور بأنها سنة مؤكدة وليست واجبة، ثم ذكر رأي الشافعي القائل بوجوبها مع الإعادة عند تركها عمدا، لكنه اختار في الأخير القول بوجوبها مع عدم الإعادة على تاركها. فوافق بذلك الشافعي في القول بوجوبها، وخالفه في الإعادة عند تركها عمدا [3] .

            ومن مظاهر استقلاليته أيضا عدم تبنيه لموقف أي طرف من المخالفين جملة وتفصيلا، بل يذكر أدلة كل فريق، ويناقشها، فيثبت صحـة بعضها، ويرد بعضها الآخر، ثم يسعى إلـى التوفيق بينهما، أو الخروج برأي جديد يرفع به الخلاف ويدفع النـزاع،

            يظهر هـذا جليا في مناقشته لمسألة عدة المطلقة فـي تفسيره لقوله تعالى:

            ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) (البقرة: 228) ،

            إذ ذكر اختلاف أهل العلم في تعيين ما هـو المراد بالقروء المذكورة في الآية، فقال فريق: هـي الحيض. وقال آخر: هـي الطهر. حسب المعنيين اللغويين للقرء، ثم عرض أدلة كل فريق، فرد بعضها، وأقر بعضها الآخر، ثم حاول التوفيق بن الرأيين اعتمادا على الأدلة الصحيحة التي استدل بها الطرفان فقال: «ويمكن أن يقـال [ ص: 179 ] إنها تنقضي العدة بثلاثة أطهار، أو بثلاث حيض، ولا مانع من ذلك، فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة، ويرتفع الخلاف ويندفع النـزاع» [4] .

            ومن دلائل استقلاليته أيضا وقوفه من رأي الجمهور موقف الحكم، وعدم اعتباره دليلا في ذاته، بل يزنه بميزان القرآن والسنة، فإن وافقهما أخذ به على سبيل الاستئناس، وإلا طـرحه. ومن الشـواهد على ذلك ما ورد في: باب ما جاء في آنية الذهب والفضة. في: نيل الأوطار، حيث نقل عن النووي انعقاد الإجماع على تحريم الأكل والشـرب وسائر الاستعمالات في إناء الذهب أو الفضـة، إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط، وقول قديم للشافعي والعراقيين، فقال بالكراهة دون التحريم، وقد رجع عنه، وتأوله أيضا صاحب التقريب، ولم يحمله على ظاهره [5] ، فوافق الشوكاني الجمهور في تحريم الأكل والشرب فيهما، وخالفهم في الاستعمال. وعلل ذلك بأن قياس سائر الاستعمالات على الأكل والشرب قياس مع الفارق، وعلق على حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال بأنه غير منعقد؛ لمخالفة داود وآخرين، ولما في حجية الإجماع من النـزاع، وخلص في الأخير إلى جواز اتخاذ آنية [ ص: 180 ] الذهب والفضة لسائر الاستعمالات، فقال: «والحاصل أن الأصل الحـل ، فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصوم، ولا دليل في المقام بهذه الصفة، فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هـو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هـيبة الجمهور» [6] .

            ب ـ الأخذ بظاهر النص والجمع بين الأدلة ما أمكن

            من تداعيات احتكام الشوكاني إلى الدليل أخذه بظاهر النص في الغالب، فهو لا يحمل النص فوق معناه الظاهر بل يحرص على فهم مقصده على عمومه دون تخصيص بغير مخصص، فمنهجه الاستنباطي يدور حول مضمون النص ومعناه، ولا يغـادر ظاهره إلا بمسوغ أصولي معتبـر. ومن القضايا التي يبرز فيها هـذا المسـلك ما جاء في: زكاة الفطر، والقدر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة [7] ، فقد أورد آراء عدة لبعض الفقهاء، غير أنه رجح منها الرأي الذي يذهب إلى أنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يوم وليلة، ويعلل هـذا بأن الزكاة طهرة للصائم، ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك، ولأن النصوص أطلقت، ولم يخص غنيا ولا فقيرا. فقد ( روي عن ابن عباس أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات. ) [8] . [ ص: 181 ]

            أما الجمع بيـن الأدلة ما أمكن، فالإمام الشوكاني لا يلجأ إلى النسخ، أو الترجيح بين النصوص إلا إذا تعذر الجمع، مخالفا بذلك المنهج الذي استقر في عصور التقليد.

            ففي مسألة: الاستعانة بالكفار على الكفار، قال: «وأما الاستعانة بالكفار على الكفار، فقد وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في غير موطن، ووقع منه الرد لمن أراد إعانته من المشركين على قتال المشركين، ( وقال لعمر : إنه لا يستعين بمشرك. ) [9] ، ويمكن الجمع بأن الجواز مع الحاجة ورجاء النفع، والرد مع عدمها، أو لأحدهما، فيكون ذلك مفوضا إلى الإمام» [10] .

            كما اعترض في أثناء تفسيره لقوله تعالى: ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ) (محمد:35) ،

            على من قال من أهل العـلم: إنها ناسخة لقوله تعالـى: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) (الأنفال:61) ،

            فقال: «ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ؛ فإن الله سبحانه نهى المسلمين فـي هـذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتـداء، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص» [11] . [ ص: 182 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية