الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المطلب الثاني: الإطار العام لعصر الشوكاني

            عاش الشوكاني في الفترة الممتدة ما بين 1173 - 1250هـ، وقد امتاز عصره بخصائص وأحداث بارزة تفاعل معها الشوكاني، فأثر فيها وتأثر بها، وعملت على تكوين شخصيته العلمية التي استطاعت أن تفيد، بل وتتجاوز بروحها التجديدية كثيرا من جوانب المنظومة المعرفية والفقهية لزمانه، وقد تكونت هـذه الشخصية من خلال تفاعلها مع الجوانب الآتية:

            - الحياة السياسية:

            اتسمت الحياة السياسية في عصر الإمام الشوكاني بعدم الاستقرار، وكثرة الصراعات وذلك على المستويين: المحلي (اليمن) والعالمي.

            ففي اليمن آل الحكم بعد الانسحاب العثماني (1045هـ) للأئمة الزيديين الممثليـن في أسـرة آل القاسم بن محمد [1] (ت1029هـ- 1620م) [2] . وقد عاصر الشوكاني أربعة من الأئمة وهم: المهدي عباس ، حكم من (1161هـ/1748م) إلـى (1189هـ/1775م) ، وابنه [ ص: 58 ] المنصور علي ، حكم مـن (1189هـ/1775م) إلى (1223هـ/1809م) ، وابنه المتوكل أحمد ، حـكم مـن (1224هـ/1809م) إلى (1231هـ/1816م) ، وابنه المهدي عبد الله الذي حكم من (1231هـ/ 1816م) إلى (1251هـ/1835م) [3] .

            وقد شهدت الحياة السياسية في حكم هـؤلاء الأربعة صراعات حادة على المستويين: الداخلي والخارجي.

            فعلى المستوى الداخلي: ظهر صراع أسري على الإمامة جعل الأئمة يشتغلون بتدعيم سلطانهم لمقاومة الطامعين في الإمامة من أقاربـهم [4] . كما خلد بعضهم؛ مثل منصور علي، إلى الدعة، وإيكال أمـور الدولة إلى الوزراء [5] . واشتغل بعضهم الآخر؛ مثل المهدي عبد الله، بتولية الوزراء ثم عزلهم ومصادرة أموالهم، فاختلت أمور الدولة والحكم؛ إذ أصبح هـم الوزراء الأول تحقيق مصلحتهم الشخصية، وعزل من دونهم من العمال، وتدرجت الطريقة حتى وصل السلب والنهب إلى القاعدة الشعبية بطرق رسمية متعارفة [6] . [ ص: 59 ]

            ومما ميز الحياة السياسية في اليمن أيضا صراع النظام الإمامي مع الحركات الإنفصالية، يقول حسين العمري : «كانت مشكلة القبائل اليمنية إحدى أعوص وأقدم المشاكل التي كانت تواجهها أية حكومة مركزية في صنعاء ، وذلك بما تثيره من عصيان ضـدها، أو الهجوم على بعـض المـدن، أو المناطق القريبة أو البعيدة عن العاصـمة التي لم تسلم هـي نفسها من الحصار أو النهب أو القتل.» [7] .

            هذا إضافة إلى فساد مؤسسة القضاء لا سيما خارج العاصمة صنعاء بسبب تولي عديمي الكفاءة العلمية لمنصب القضاء، فانتشرت الرشوة، وتعرض المنصب للبيع والشـراء، وأصبح أداة من أدوات تنفيذ المظالم والعون عليها [8] .

            أما على المستوى الخارجي: فقد كانت سيادة اليمن غير كاملة على أجزائها، إذ استولى الإنجليز في عهد المنصور على جزيرة: ميون ، و: بريم ، على مضيق باب المندب إثر احتلال نابليون بونابرت لمصر [9] .

            والجدير بالملاحظة أن الأحوال السياسية في بلاد اليمن لم تكن بمعزل عما يجري حولها في الأقطار الإسلامية والعالمية. فالدولة العثمانية كانت تمر بأيامها الأخيرة؛ بسبب وجود دول إسلامية مستقلة عنها، [ ص: 60 ] واستفحال الصراعات المذهبية، وتدخل الدول الأوربية؛ مثل هـولندا وفرنسا وبريطانيا، في منطقة الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط؛ بهدف نهب خيرات البلاد الإسلامية، والسيطرة على الطريق التجاري المؤدي إلى الهند عبر المياه العربية.

            والخلاصة أن العالم الإسلامي في هـذا العصر شهد صراعات مختلفة؛ داخلية: كالصراع العثماني الصفوي، والصراع العثماني مع اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، والصراع العثماني المصري. وخارجية: كالصراع الإنجليزي المصري، والصراع العثماني الفرنسي. وجميع هـذه الصراعات مهدت للغزو الصليبـي العسكري والاقتصادي الذي استهدف اقتسام البلاد الإسلامية [10] .

            والجدير بالذكر بعد هـذا التلخيص المركز للحياة السياسية في عصر الإمام الشوكاني أن الإمام لم يكن بعيدا عن تلك الأحداث، لا سيما المحلية منها؛ فقد تولى في عهد الإمام منصور علي سنة 1209هـ منصب القضاء الأكبر، واستمر فيه بقية حكم المنصور، ومن بعده ابنه المتوكل أحمد ، وحفيده المهدي عبد الله ، حتى توفي عام 1250هـ/1834م قبل وفاة المهدي بنحو عام [11] . كما تولى في ذات الوقت منصب: كاتب الإمام، الذي يتولى كل المراسلات الداخلية والخارجية باسم الإمام [12] . [ ص: 61 ]

            ولطول فترة تولي الإمام الشوكاني لهذين المنصبين فقد كان له دور علمي وسياسي ذو أثر واضح في مجريات الأحداث المعاصرة له.

            - الحياة الفكرية

            لقد واكب الجمود الفكري والعلمي الاضطراب السياسي في جميع أنحاء البلاد العربية والإسلامية، لكن الدراسة التاريخية للمذهب الزيدي تؤكد تميز اليمن عن سائر البلاد بحركة فكرية وفقهية.

            فعلى الرغم من الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحروب الناشئة عن الصراعات السياسية والقبلية في اليمن، وعلى الرغم من طغيان عنصري التعصب والتقليد على البيئة العلمية اليمنية فإن حركة التأليف والإنتاج الفكري كانت مزدهرة في هـذا العصر [13] .

            والباحث عن الأسباب الموضوعية لهذه الحركة العلمية يجد أن عاملي: التعصب المذهبي، وتواطؤ بعض الفقهاء مع العامة لتحقيق بعض المصالح، عملا على تحريك الحياة الفكرية والثقافية في اليمن؛ إذ ظهر علماء أجلاء تصدوا لتيار الفساد والبدع، فساهمت الخصومة التي كانت بين المتعصبين وهؤلاء العلماء المجتهدين في إثراء الإنتاج العلمي [14] . [ ص: 62 ]

            وعامل آخر ساهم في إنعاش الحياة الفكرية في اليمن هـو استمرار «نشاط المسجد -بصفته المدرسة الأولى للقضاء والعلماء والأدباء- مجالا حيويا ومؤثرا في المناظرات الفقهية والاجتهادية، بل الأدبية واللغوية، وسائر شعب المعارف الإنسانية، ومن ثم فقد نبغ علماء وأدباء كبار في اليمن في حقبة تدنى فيها الفكر العربي الإسلامي»



            [15] .

            لكن الملاحظ في هـذا المقام أن اليمن وإن تميز عن سائر البلاد الإسلامية بحركة فكرية فقهية، إلا أنه شاركها في توقف العلوم العقلية والرياضية والطبيعية، التي كانت تدرس في جامعات بغداد وقرطبة في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، إذ اعتزل العالم الإسلامي النهضة الأوروبية الحديثة، فبعدت الشقة بينه وبين التقدم العلمي الحديث. [16] .

            - الحياة الدينية

            لقد استقر في اليمن المذهب الزيدي والشافعي

            [17] ، ولكن المذهب الذي ساد في عصر الشوكاني هـو المذهب الزيدي الذي عرف بتفتحه في العقائد على مذهب المعتزلة ، وفي الفروع على مذاهب أهل السنة

            [18] . وتميز المذهب الزيدي عن باقي المذاهب بخاصية جوهرية وهي فتح باب [ ص: 63 ] الاجتهاد، وعدم المناداة بغلقه، بل جعل الاجتهاد شرطا لمن يؤهل نفسه لمنصب الإمامة الزيدية [19] .

            ولكن على الرغم من كون التعصب والتزمت -كما أكد حسين العمري - «أمرين بعيدين عن جوهر الفكر الزيدي وقواعده العقلية التي انفتحت على الفكر الاعتزالي من ناحية، وعلى مدرسة أهل السنة من ناحية أخرى في مختلف مراحل تطور الفكر اليمني» [20] ، فقد شاع في عصر الإمام الشوكاني التقليد لأئمة المذهب، والتعصب لآرائهم، والتزام التخريج على أقوالهم. وقد ساعد هـذا الجو على نمو طبقة طفيلية من المتفقهيـن تجاري العامة في معتقداتهم كسبا لودهم، أو تملقا لصاحب سلطان [21] .

            ولقد كان لهذا التغير الجذري الذي مس منهج التفكير الفقهي في المذهب الزيدي أثر بالغ على واقع الحياة الدينية في اليمن، إذ أصبح المذهب الزيدي ، كما قال الدكتور قاسم غالب : «يفرض على الطلبة رغبة ورهبة، ويفرض كحكم، فلم يستطع أي قاض أن يحكم بغيره، وكان كل طالب... يقرأ المذهب الزيـدي، يشجع بالمال صغيرا، [ ص: 64 ] وبالحكم كبيرا، وكل طالب لا يدرسه يحارب في رزقه وأهله، ويطرد من الدراسة» [22] .

            ومن هـنا يتبين أن البيئة الدينية التي عاش فيها الشوكاني كانت بيئة المتناقضات: أصول تبيح الاجتهاد وتقره، وواقع يفرض التقليد والتعصب المذهبي. أصول تقوم على العلم، وواقع يبنى على الأهواء، إذ كثيرا ما انساق العوام لتحريض بعض العلماء من خصوم أهل الاجتهاد، فيقومون بثورات جماعية ضدهم، مثلما حدث مع محمد بن إسماعيل الصنعاني [23] والشوكاني [24] .

            ولعل أهم أسباب سيطرة التعصب المذهبي على المنطق الفكري والديني اليمني في هـذا العصر هـو ظهور فرق وطوائف دينية مختلفة ومتصارعة منها: المعتزلة، والإسماعيلية، والصوفية، وغيرها. ولقد سجل الإمام الشوكاني مواقفه الواضحة من كل فرقة في كتب ورسائل علمية أبرز فيها جوانب الصواب والخطأ في فكرها ومعتقداتها [25] .

            - الحياة الاجتماعية والاقتصادية

            شهدت اليمن في هـذا العصر تدهورا رهيبا للحياة الاجتماعية، فقد كان للثورات الداخلية القبلية -كما بين الإمام الشوكاني- دور كبير في [ ص: 65 ] «نشر الخوف والرعب في أوساط المجتمع اليمني عن طريق الغزوات المتلاحقة، التي كانت تهدف إلى الحصول على المقررات المالية ونهب المواطنين» [26] . كما عرف المجتمع اليمني في هـذا العصر ظلما اجتماعيا سببه تعفن الجهاز الإداري، وإسناد منصب القضاء لغير أهله [27] .

            أما الحياة الاقتصادية: فلقد كان لتدهور الأحوال السياسية بشكل عام أثره البالغ على الوضع الاقتصادي للدولة، التي اقتصرت إيراداتها على الضرائب، إلـى جانب الزراعة التي يـقوم بها أفراد الشعب، والتجارة [28] . كما أدت الفتن التي نزلت بالبلاد إلى ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب الرزق وعسر المكاسب حتى ضعفت تجارة الناس ومكاسبهم، وأفضى ذلك إلى ذهاب كثير من الأملاك

            [29] . كما خنقت منافذ التجارة اليمنية الخارجية بسبب سعي الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، إلى السيطرة على كل موانئ البحر الأحمر في اليمن، وفقد بذلك اليمن مصدر دخل هـام؛ إذ سيطر الأمريكان والأوربيون منذ القرن التاسع عشر الميلادي -الثاني عشر الهجري- على تجارة البن اليمني العالمي [30] . [ ص: 66 ]

            ومما زاد الوضع الاقتصادي تأزما لجوء بعض الأئمة لمواجهة الأزمات الاقتصادية التي تفاقمت بسبب فساد الإدارة، وضغط الاضطرابات الداخلية والأحداث الخارجية إلى زيادة الضرائب، وإحداث ضرائب جديدة، والتغيير المستمر للعملة، والتلاعب بقيمتها.

            وبمثل هـذا الإجراء ترتفع الأسعار، وتضعف قيمة العملة الشرائية، ويخسر الناس الكثير من الأموال النقدية التي كانت في أيديهم [31] . وكثيـرا ما يخرج تحت هـذا الضغط الاقتصادي الجنود الذين لم يتسلموا مرتباتهم خارج العاصمة صنعاء لقطع الطرق، وسلب المسافرين، ونهبهم [32] .

            ولقد انتقد الشوكاني هـذه السياسة الاقتصادية في بعض قصائده الشعرية [33] ، وفي كتابه: الدواء العاجل في دفع العدو الصائل، الذي درس فيه أسباب تدهور الحياة الاقتصادية والاجتـماعية في اليمن ، كما حاول رسم سياسة اقتصادية محكمة يتحقق بها العدل الاجتماعي. [ ص: 67 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية