الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            معالم تجديد المنهج الفقهي (أنموذج الشوكاني)

            حليمة بوكروشة

            المطلب الثاني: مجالات تجديد علم الأصول عند الشوكاني

            لقد أفصح الإمام الشوكاني في مقدمة كتابه: إرشاد الفحول، عن المقصد الذي توخاه من تحقيق علم أصول الفقه، وعن مجالات هـذا التحقيق فقال: «حملني ذلك بعد سؤال جماعة لي من أهل العلم على هـذا التصنيف في هـذا العلم الشريف؛ قاصدا به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحا لما يصلح منه للرد إليه وما لا يصلح للتعويل عليه؛ ليكون [ ص: 141 ] العالم على بصيرة في علمه، يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيق بالقبول حجاب» [1] .

            وهذه المقالة تبين أن تجديد علم أصول الفقه عنده هـو تحقيقه وتمحيصه، وأنه يكون من خلال مجالين اثنين:

            المجال الأول: بيان الراجح من المرجوح والسقيم من الصحيح.

            والمجال الثاني: بيان ما يصلح للرد إلى علم أصول الفقه وما لا يصلح.

            وفي الآتي تفصيل المجالين:

            المجال الأول: بيان الراجح من المرجوح والسقيم من الصحيح

            وأهم ما قام به الشوكاني في هـذا المجال تحقيق بعض المفردات الأصولية نظرا لأهميتها، ويمكن الاكتفاء في هـذا المقام بالتمثيل لأهم المفردات التي تساعد على تصور فكره الأصولي.

            المفردة الأولى: نظرية الاجتهاد :

            وتناولها من زوايا متعددة أهمها:

            أولا: ضبط مفهوم الاجتهاد والمجتهد :

            لقد أورد الشوكاني في تحديده لمفهوم الاجتهاد تعريفات عديدة، منها تعريف ابن الحاجب : «استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي» [2] ، [ ص: 142 ] وتعريف الآمدي : «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه» [3] ، وغيرها من التعريفات التي اشتملت على قيود مانعة من دخول أفراد غير المعرف فيها.

            لكن التعريف الذي ارتضاه الإمام الشوكاني وتولى شرح قيوده قيدا قيدا هـو: «بذل الوسع في سبيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط» [4] .

            والفارق بين التعريفات التي ساقها وبين هـذا التعريف الذي تبناه أن الأولى ليست شاملة لجميع أفراد المعرف؛ إذ أنها ركزت على عنصرين: المستثمر للحكم؛ أي المجتهد، وثمرة الاجتهاد. ولم تتضمن طرق استثمار الأحكام؛ أي الاستنباط. وهو ما اشتمل عليه التعريف الذي تبناه. وقد استثمر الشوكاني هـذا القيد في ضبط مفهوم المجـتهد حيث قال: «ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظـاهرا، أو حفظ المسـائل، أو استعلامها من المفتي، أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي، فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي» [5] .

            وفحوى كلامه هـذا أن المجتهد هـو الذي يستطيع نيل الحكم الشرعي بطريق الاستنباط من الكتاب والسنة، وأن مجرد حفظ فروع الفقه [ ص: 143 ] ومسائله في مذهب ما لا يجعل من صاحبه مجتهدا. من هـذا المنطلق لم يعد الشوكاني ما اصطلح على تسميته -بعد استقرار المذاهب وشيوع التقليد- بمجتهدي المذهب (وهم نوعان: مجتهدو التخريج، ومجتهدو الفتيا) من أهل الاجتهاد.

            والسبب في ذلك أن النوع الأول يقتصر عمله على تطبيق العلل الفقهية التي استخرجها إمامه فيما لم يعرض له من مسائل، وليس له أن يجتهد في مسائل قد نص عليها في المذهب إلا في دائرة معينة، وهي أن يكون استنباط الإمام فيها مبنيا على اعتبارات لا وجود لها في عرف المتأخرين [6] . فالاستنباط عند هـذا النوع من العلماء لا يكون من الكتاب والسنة، بل من أقوال الإمام المتبع.

            أما النوع الثاني -أي: مجتهدو الفتيا- فعملهم يقتصر على ترجيح بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو بغيره مما لا يعد استنباطا أصلا [7] .

            ثانيا: ضبط شروط الاجتهاد

            تعرض الإمام الشافعي في كتابه: الرسالة، إلى شروط الاجتهاد بشكل إجمالي [8] ، ثم توسع الأصوليون بعده في تفصيل هـذه الشروط. ويعد عمل [ ص: 144 ] الإمام الغزالي خلاصة ما انتهى إليه العلماء السابقون في ضبط شروط الاجتهاد، كما أصبح قدوة لمن بعده في اعتماد منهج التخفيف في الشروط الأساسية. وبعد استقرار المذاهب وشيوع التقليد توسعت كتب المتأخرين في الحديث عن شروط الاجتهاد؛ وسبب ذلك أن العلماء قسموا الاجتهاد بالنسبة إلى المجتهد إلى: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيد. وقسموا هـذا الأخير إلى مراتب، الأمر الذي اقتضى منهم بيان شروط كل مرتبة.

            أما الشوكاني فقد اعتمد منهجا خاصا في بيان شروط الاجتهاد يتوافق ونظريته العامة في التقليد والاجتهاد، ويخدم دعوته التجديدية للفقه وأصوله. ويمكن تحديد معالم هـذه المنهجية في النقاط الآتية:

            - حصر حديثه فـي شـروط الاجـتهاد على المجتهد المطلق ؛ لأنه لا يدرج باقي الأقسام والمراتب ضمن دائرة الاجتهاد.

            - تأكيده الشروط التأهيلية الأساسية التي يجب تحققها في المجتهد، بحيث إذا تخلف أحدها لم يكن أهلا لهذا المنصب؛ وهي: العلم بنصوص الكتاب والسنة، معرفة مسائل الإجماع لمن يقول بحجيته، العلم باللغة العربية، العلم بأصول الفقه، العلم بالناسخ والمنسوخ. وأعرض عن الشروط التي لا يتوقف عليها وجود ملكة الاجتهاد، وبلوغ درجة المجتهد، وإنما تسمو بصاحبها إلـى درجة الكمال، وهي شروط أدى التمسك بها عند المتأخرين إلى الحكم باستحالة تحقيق جميعها في عالم واحد، ومن ثم الإعلان عن شغور منصب الاجتهاد: [ ص: 145 ] - عدم الإطناب في شرح الشروط غير المكتسبة؛ كالبلوغ والعقل، والاكتفاء بذكرها فقط؛ لأنها شروط التكليف، فهي بدهية.

            - النظر الاجتهادي في مناقشة الشروط الأساسية، وتحـقيق ما يراه الحق بعد مناقشة آراء العلماء في تفاصيل هـذه الشروط.

            ففي الشرط الأول؛ وهو العلـم بنصوص الكتاب والسنة، وافـق ما استقر عليه العلماء من تخفيف فقال: «ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام» [9] ، ولكن كانت له بعض الاعتراضات في التفاصيل: ففي العلم بالكتاب، اعترض على الغزالي وابن العربي تقديرهما آيات الأحكام بخمسمائة آية فقال: «ودعوى الانحصار في هـذا المقدار إنما هـي باعتبار الظاهر؛ للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال» [10] .

            وفي العلم بالسنة، علق على اختلاف العلماء في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة، إذ قيل: خمسمائة. وقيل: ألف ومائتين. وقيل غير ذلك، [ ص: 146 ] فقال: «ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هـذا الباب من قبيل الإفراط، وبعضه من قبيل التفريط. والحق الذي لا شـك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن؛ كالأمهات الست وما يلحق بها، مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد، والمستخرجات، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولا يشترط في هـذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه، بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك» [11] .

            وقد رد الشوكاني بكلامه هـذا على ما ذهب إليه الغزالي وجماعة من الأصوليين، من أن المجتهد يكفيه أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث الأحكام؛ كسنن أبي داود

            [12] . كما عد الشوكاني من مستلزمات العلم بالسنة، العلم بمصطلح الحديث، فقال: «وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة» ، وذكر تخفيفا في هـذا الشرط فقال: «وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجـرح وما لا يوجبه [ ص: 147 ] من الأسباب، وما هـو مقبول منها، وما هـو مردود، وما هـو قادح من العلل، وما هـو غير قادح»

            [13] .

            وفي الشرط الثالث؛ وهو العلم باللغة العربية، أكد أنه على المجتهد «أن يكون عالما بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه» [14] ، ولا يشترط في نظره «أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك» [15] ، ولكنه رفض التخفيف الذي هـو محل اتفاق جميع الأصوليين؛ وهو أنه يكفي المجتهد أن يعلم من اللغة والنحو القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال، ولا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد [16] .

            وإنما اشترط على المجتهد في الأحكام أن يبلغ درجة الاجتهاد في العربية وعلومها، إذ قال: «وإنما يتمكن من معرفة معانيها، وخواص تراكيبها، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان؛ حـتى يثبت له في كل فن من هـذه ملكة يسـتحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا» [17] . [ ص: 148 ]

            ومما تجدر الإشارة إليه أن هـذا الرأي لم يذهب إليه من الأصوليين غير الإمام الشوكاني والإمام الشاطبي [18] . وإذا حاولنا فهم خلفية هـذا الموقف من خلال كلامه السابق يتبين أن الشوكاني اشترط الاجتهاد في علم اللغة للمجتهد؛ لأن ذلك يمكنه من النظر المستقل في الأدلة، ويعصمه من التقليد. ذلك لأنه إذا وقع نزاع، أو خلاف في معنى، أو حكم توقف عليه فهم نص شرعي، تعين عليه بذل الوسع في معرفة الحق بين المختلفين، ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية، أو البيانية في تقرير حكم إلا أن يستبين له رجحانه بدليل، وإلا كان مقلدا. فالتقليد في اللغة في نظر الشوكاني يخل بحقيقة الاجتهاد.

            ومما ترتب على موقفه هـذا، رفض ما ذهب إليه بعض الأصوليين؛ كابن عرفة وابن الوزير [19] من جواز اكتفاء المجتهد بقراءة مختصر في اللغة العربية، فقال: «ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هـذه الفنون -النحو والصرف والبيان- هـو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الإطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث، وبصرا في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه. والحاصل أنه لا بد أن تثبت له [ ص: 149 ] الملكة القوية فـي هـذه العلوم، وإنما تثبت هـذه الملكة بطول الممارسة، وكثرة الملازمة لشيوخ هـذا الفن».

            واستثنى الشوكاني من علوم اللغة علم البلاغة، فلم ير ضرورة الإحاطة به لفهم كتاب الله تعالى؛ لأنها ليست لازمة لاستخراج الأحكام، وإنما هـي لمعرفة بلاغة القرآن الكريم وما عليه من إعجاز [20] .

            أما في الشرط الرابع وهو العلم بأصول الفقه، فقد أكد الشوكاني أنه على المجتهد «أن يكون عالما بعلم أصول الفقه؛ لأنه عماد الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه» [21] . ومقصوده بالعلم هـنا هـو النظر المستقل وعدم التقليد، وهو ما جعله يقول: «وعليه أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصل إلـى ما هـو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمـكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل، وإذا قصر فـي هـذا الفن صعب عليه الرد وخـبط فيه وخلط»

            [22] .

            وفحوى كلام الشوكاني أنه من كان مقلدا في القضايا الأصولية لن يكون مستقلا في استنباطه للفروع الفقهية؛ ذلك لأن النتائج تتبع المقدمات، فمن لم يكن مجتهدا في إحدى مقدمات الاجتهاد، فليس بمجتهد. [ ص: 150 ]

            إن الدراسة التحليلية لشروط الاجتهاد عند الشوكاني تبين أن العلوم التي ضمنها تلك الشروط هـي المطلوبة لبلوغ رتبة الاجتهاد، وأن التبحر في غيرها ليس مرادا للقدرة على الاجتهاد، ولا مانع منه عند الإمكان، فإن به فقط يظهر التفاوت بين المجتهدين، وهذا يؤكد قناعة أساسية في فكر الشوكاني التجديدي، وهي أن الاجتهاد يسره الله تعالى لعباده وشروطه مقتدر على تحصيلها، فلا رخصة في التزام التقليد، ولا مبرر للحكم بغلق باب الاجتهاد بدعوى عدم وجود من هـو أهل لممارسته، وهو ما لخصه بقوله: «والذي أدين الله به أنه: لا رخصة لمن علم لغة العرب ما يفهم به كتاب الله، بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيـز، أو السنة المطهرة، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي؛ سواء كان قائله واحدا أو جماعة أو الجمهور» [23] .

            ثالثا: مراتب الاجتهاد

            فرق الشوكاني في حديثه عن شروط الاجتهاد بين نوعين من العلوم: علوم مطلوبة لبلوغ رتبة الاجتهاد، وهي التي ضمها شروط الاجتهاد الخمسة. وعـلوم ليست شـرطا لبلوغ رتبة الاجـتهاد، ولكن يظـهر بها التفاوت بين المجتهدين. من هـذا المنطلق جعل مراتب الاجتهاد مرتبتين: [ ص: 151 ]

            المرتبة الأولى: هـو المجتهد الذي كملت له جميع أنواع علوم الدين، وصار قادرا على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء، وكيف شاء، فيصير ببلوغه هـذه المرتبة من العلم إماما مرجوعا إليه، مستفادا منه، مأخوذا بقوله، مدرسا ومفتيا ومصنفا، وهذه الطبقة العالية من طبقات المجتهدين [24] .

            وعلو هـذه المرتبة تقتضي في نظر الشوكاني الإحاطة بعلوم أخرى غير تلك التي حوتها شروط الاجتهاد، منها علم المنطق الذي يمكن المجتهد من إدراك الحجج العقلية واستيعاب المباحث المنطقية التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد [25] .

            ومنها علم الكلام لمعرفة حقيقة الاعتقادات، وإنصاف كل فرقة بالترجيح أو التجريح على بصيرة [26] ، كما يفيد في حسن فهم علوم أخرى؛ كعلم التفسير وعلم تفسير الحديث.

            ومنها علم التاريخ، عده من العلوم المطلوبة لهذه الطبقة من المجتهدين [27] .

            وكثيرا ما يوظف الشوكاني هـذا العلم في تحقيق بعض المسائل الفقهية أو الأصولية، كما فعل فـي مسألة: خلو العصر عن المجتهد؛ إذ أثبت بالدليل التاريخي عدم وقوع الخلو، كما سيأتي بيانه [28] .

            ومنها العلوم الفلسفية؛ كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب. [ ص: 152 ]

            هذا، وقد حذر المجتهد من أن يثنيه تنفير بعض أهل العلم من هـذه العلوم عن الاشتغال بها قائلا: « ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها كما قدمنا لك من التقليد، وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم، غير محكوم عليك، واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء» [29] .

            كما رفض أن يحصر مجتهد هـذه المرتبة نفسه في دائرة العلوم الشرعية دون التفتح على باقي العلوم، فقال: « ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعا عظيما وفائدة جليلة في دفع المبطلين، والمتعصبين، وأهل الرأي البحت، ومن لا اشتغال له بالدليل». وقرر في الأخير أن «العلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العالية والمنـزلة الرفيعة» [30] .

            المرتبة الثانية: المجتهد الذي بإمكانه معرفة ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، ودون أن تتعدى فوائد معارفه إلى غيره كما هـو الحال عند مجتهد المرتبة الأولى [31] . وشروط هـذا الصنف من المجتهدين هـي شروط الاجتهاد الخمسة التي حددها الشوكاني ، إذ قال: [ ص: 153 ] «فمن علم بهذه العلوم علما متوسطا يوجب ثبوت مطلق الملكة في كل واحد منها صار مجتهدا مستغنيا عن غيره، ممنوعا من العمل بغير دليل، وعليه أن يبحث عند كل حادثة يحتاج إليها في دينه عن أقوال أهل العلم وكيفية اسـتدلالهم في تلك الحادثـة، وما قالوه، وما رد عليهم به، فإنه ينتفع بذلك انتفاعا كاملا، ويضم إلى علمه علوما، وإلى فهمه فهوما، وهو وإن قصر عن أهل الطبقة الأولى فليس بمحتاج فيما يتعلق به من أمر الدين إلى زيادة على هـذا المقدار» [32] .

            رابعا: إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد

            لقد أخذت إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد حيزا كبيرا في نظرية الاجتهاد عند الشوكاني؛ وذلك لاعتبارات ثلاثة:

            الاعتبار الأول: أنها كانت المقدمة النظرية التي أسست عليها دعوى غلق باب الاجتهاد. فقد ادعى من قال بخلو العصر عن المجتهد بجواز ذلك شرعا وعقلا [33] . من هـنا أقام الشوكاني استدلاله ببطلان هـذه الدعوى على عدم جوازها شرعا وعقلا.

            أما الأول: فقد استفاده من الحكم الشرعي للاجتهاد، وهو أنه فرض كفاية إذا لم يوجد من يقوم به أثم الجميع، فهو إذن واجب على الأمة الإسلامية، وقد لخص هـذا في قوله: «لا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد [ ص: 154 ] فرضا يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، ويدل على ذلك ( ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قولـه: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة. )

            وأما عدم الجواز العقلي: فاحتج له بأن من طبيعة العلوم والمعارف أن تزداد وتتطور، فقال معترضا على من ادعوا جواز خلو العصر من مجتهد:

            «إن قالوا ذلك باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضل به على من قبل هـؤلاء من هـذه الأئمة من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هـي جهالة من الجهالات، وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هـؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنة المطهرة قد دونت، وتكلم الأئمة على التفسير والتخريج والتصحيح والترجيح بما هـو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح من قبل هـؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر. فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هـذا من له فهم صحيح وعقل سوي» [34] . [ ص: 155 ]

            الاعتبار الثاني: تغير مضمون الإشكالية من جواز الخلو وعدمه إلى جواز وجود المجتهد وعدمه؛ ذلك لأن الذين قالوا بجواز خلو العصر عن مجتهد لم يكتفوا به، بل تجاوزوا ذلك في الواقع إلى عدم جواز وجود مجتهد في عصرهم وما بعده، فقد نقل الشوكاني عن الرافعي قوله: «الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم»

            [35] ، كما نقل عن القفال والغزالي والرازي أنه قد خلا العصر عن المجتهد [36] .

            والملاحظ هـنا أن الإشكالية قد أخذت بعدا آخر، إضافة إلى الإمكان الشرعي والعقلي، وهو الوقوع التاريخي، وما دام الأمر تعلق بالوقوع الفعلي، لم يجد الشوكاني بدا من الاستناد إلى علم التاريخ لإبطال هـذه الدعوى فقال: «إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرافعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم. ومن كان له إلمام بعلم التاريخ والإطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هـذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتده أهل العلم في الاجتهاد» [37] .

            وزيادة في البيان والتأكيد، لم يقف الشوكاني عند حد استقراء التاريخ الإسلامي عموما، بل انتقل إلى تاريخ المذهب الشافعي ، باعتبار أن العلماء الذين صرحوا بعدم وجود مجتهد شافعية، فقال: [ ص: 156 ] «ولما كان هـؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية فها نحن نصرح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام ، وتلميذه ابن دقيق العيد ، ثم تلميذه ابن سـيد الناس ، ثـم تلميذه زين الدين العراقي ، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني ، ثم تلميذه السيوطي . فهؤلاء ستة أعلام، كل واحد منهم تلميذ من قبله، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها. ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم فضلا عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل» [38] .

            كما حاول الشوكاني أن يفند دعوى عدم وجود مجتهد من داخل المذهب الشافعي ذاته؛ إذ نقل عن الزركشي قوله: «ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد ». ثم علق قائلا: «وهذا الإجماع من هـذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي» [39] . يقصـد قول الرافعي: «الخلق كالمتفقيـن علـى أنه لا مجتهد اليوم». [ ص: 157 ]

            الاعتبار الثالث: إن القول بعدم جواز وجود مجتهد اقتضى القول بوجوب تقليد المذاهب المبتدعة وحصر الحق فيها وحدها، واستقر في العقل الفقهي كما قال الشوكاني : «أنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها»

            [40] . فأصبح التقليد أمرا واجبا، والاجتهاد أمرا منكرا.

            يؤكد هـذا ما نقله الشوكاني على لسان أنصار المذاهب إذ قال: «فقالت طائفة منهم: ليس لأحـد أن يجتهد بعد أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، والهذيل ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وإلى هـذا ذهب غالب المقلدة من الحنفية ، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي : ليس لأحد أن يجتهد بعد المائتين من الهجرة. وقال آخرون: ليس لأحد أن يجتهد بعد الأوزاعي ، وسفيان الثوري ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الله بن المبارك . وقال آخرون: ليس لأحد أن يجتهد بعد الشافعي » [41] .

            والملاحظ في هـذا الاستشهاد أن الشوكاني ركز على مدعي خلو العصر عن المجتهد المطلق المستقل؛ لأنه لا يعتبر غيره من مجتهدي المذاهب من أهل الاجتهاد كما سبق بيانه. ولكن في الحقيقة الأمر تعدى الحكم بانعدام المجتهد المطلق إلى الحكم بانعدام مجتهد المذهب أيضا. قال صاحب: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: «ثم إن من الناس من حكم [ ص: 158 ] بوجوب الخلو من بعد العلامة النسفي ، واختتم الاجـتهاد به، وعنوا: الاجتـهاد فـي المذهب. وأما الاجتهاد المطلق فقالوا: اختتم بالأئمة الأربعة، حتى أوجبوا تقليد واحد من هـؤلاء الأربعة» [42] .

            وقال عالم الأقطار الشامية ابن أبي الدم ، بعد سرده شروط الاجتهاد المطلق: «هذه الشرائط يعز وجودها فـي زماننا فـي شخص من العلماء، بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق... بل ولا مجتهد في مذهب إمام تعتبر أقواله وجوها مخرجة على مذهب إمامه» [43] .

            والحاصل أن الشوكاني بعد دراسته التحليلية لأبعاد ومرتكزات إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد خلص إلى أن وقوع الخلو ممنوع شرعا وعقلا وواقعا، وأنها دعوى باطلة، لا يلزم بها أحد فقال: «وبالجملة فتطويل البحث في مثل هـذا لا يأتي بكثير فائدة، فإن أمره أوضح من كل واضح، وليس ما يقوله من كان من أسراء التقليد بلازم لمن فـتح الله عليه أبواب المعارف، ورزقـه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال. ومن حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هـذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عز وجل، ثم [ ص: 159 ] على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب وبالسنة»

            [44] .

            خامسا: تجزؤ الاجتهاد

            من المسائل التي ميزت نظرية الاجتهاد عند الشوكاني وجعلتها أساس التجديد الفقهي قضية: تجزؤ الاجتهاد. والمقصود بتجزؤ الاجتهاد : أن يجتهد العالم في استنباط بعض الأحكام دون بعض [45] . وأول من أثار هـذه الإشكالية وحكم بجوازها الإمام الغزالي في كتابه: المستصفى [46] . وتبعه في ذلك جمهور الأصوليين؛ كالآمدي ، والقرافي ، وابن القيم ، وابن الهمام ، وابن دقيق العيد ، وابن السبكي ، وابن قدامة ، وغيرهم [47] .

            حجتهم في ذلك أنه قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد [48] .

            أما الإمام الشوكاني فقد ذهب إلى عدم جواز تجزئة الاجتهاد لسببين:

            أولهما: تعلق علوم الاجتهاد بعضها ببعض.

            وثانيهما: أن ثبوت ملكة الاجتهاد تجعل العالم قادرا على الاجتهاد في جميع أبواب ومسائل الفقه.

            وهو ما سطره في قوله: [ ص: 160 ] «إن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحجزة بعض، ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة، فإنها إذا تمت كان مقتدرا على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن احتاج بعضها إلى فريد بحث، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك، ولا يثق من نفسه لتقصيره، ولا يثق به الغير. لذلك فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة، فتلك الدعوى تبين بطلانها بأن يبحث معه من هـو مجتهد اجتهادا مطلقا، فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله» [49] .

            ثم إن شدة تمسك الشوكاني بمنع تجزء الاجتهاد جعلته يرفض التفريق بين معرفة باب من أبـواب الفقه، وبيـن معرفة مسـألة من مسـائله، إذ أجاز بعض العلماء الاجتهاد في الأول ومنعوا من الثاني. وقد سجل هـذا الرفض بقوله: «ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزؤ الاجتهاد ، فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانـع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه فـي باب دون باب، أو فـي مسألة دون مسألة، فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك؛ لأنه لا يزال يجوز الغير ما قد بلغ [ ص: 161 ] إليه علمه، فإن قال: قد غلب ظنه بذلك. فهو مجازف، وتتضح مجازفته بالبحث معه» [50] .

            إن محاولة فهم موقف الشوكاني هـذا فهما يحقق الارتباط العضوي والانسجام الداخلي بين هـذا العنصر والعناصر السابقة في نظرية الاجتهاد، ويؤكد أن رفض الإمام الشوكاني لمبدأ تجزؤ الاجتهاد سببه أمرين:

            أولهما: إزالة فكرة صعوبة الاجتهاد وتعذره، وتأكيد يسر شروطه، وتحصيل ملكته، فإذا ثبتت ملكة الاجتهاد، تمكن العالم من الاجتهاد في كل الأحكام.

            ثانيهما: أن الاجتهاد الجزئي كان هـو المنفذ الذي يتنفس منه العلماء بعد غلق باب الاجتهاد. قال الزحيلي : «...كان -الاجتهاد الجزئي- هـو النافذة التي استطاع بها العلماء تخفيف غلو أو سد باب الاجتهاد، نزولا تحت عامل الضرورة أو الحاجة التي تصادف العلماء في كل زمن للإفتاء في حكم الحوادث المتجددة» [51] .

            وحيث إن الإمام الشوكاني قد أبطل هـذه الدعوى وفند مرتكزها الشرعي؛ وهو جواز خلو العصر عن المجتهد، فما الداعي إلى فتح هـذا المنفذ -القول بتجزؤ الاجتهاد- خاصة وأنـه لا يرى قـيام فرض الاجـتهاد إلا بالمجتهد المطلق، وغيره ليس معدودا من أهل الاجتهاد؟ [ ص: 162 ]

            المفردة الثانية والثالثة: الإجماع والقياس:

            من المفردات الأصولية التي راجعها الشوكاني وحقق مباحثها: الإجماع والقياس.

            أما الإجماع : فلم يعده دليلا شرعيا؛ لعدم ورود دليل على حجيته، حيث قال: «إنه ليس بدليل شرعي على فرض إمكانه؛ لعدم ورود دليل يدل على حجيته»

            [52] . وهذا الموقف جعله يركز في دراسته التحقيقية للإجماع على موضوع الحجية أكثر من تركيزه على إمكانية الإجماع في نفسه، وإمكان العلم به، وإمكان نقله.

            ومرتكزه في نفي حجية الإجماع أنه لم يرد دليل على حجيته، وأن أدلة القائلين بحجيته خارجة عن محل النـزاع، ولا تدل على مطلوب المستدلين بها؛ وهو اعتبار قول المجمعين حجة شرعية تصير دينا ثابتا على كل الأمة إلى يوم القيامة.

            إذ علق على استدلالهم بقوله تعالـى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143)

            بقوله: «ليس في الآية دلالة على محل النـزاع أصلا، فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولا لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تعم بها البلوى، فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره، وغاية ما في الآية أن يكون قولهم مقبولا إذا أخبرونا عن شيء من الأشياء، وأما كون اتفاقهم على أمر ديني يصير دينا ثابتا عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس في [ ص: 163 ] الآية ما يدل عـلى هـذا، ولا هـي مسوقة لهذا المعنى، ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام» [53] .

            كما علق على استدلالهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون. ) بقوله: «إن غاية ما فيه أنه صلى الله عليه وسلم أخبـر عن طائفة من أمته بأنـهم يتمسكون بما هـو الحق، ويظهرون على غيرهم، فأين هـذا من محل النـزاع؟» [54] .

            وقد استند الشوكاني في موقفه الرافض لعد الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي بعدم إمكان وقوعه؛ لعدة موانع أهمها: اتساع البلاد الإسلامية، وكثرة الحاملين للعلم، وتعذر الاسـتقراء التام لما عـند كل واحـد منهم. فإن الأعمار الطويلة -كما قال- لا تتسع لذلك فضلا عن الأعمار القصيرة [55] .

            وأما القياس : فلم يعده الإمام الشوكاني -خلافا لما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين- أصلا من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام التي يرد بها السمع، حيث قال: « فالقياس الذي يذكره أهل الأصول ليس بدليل شرعي تقوم به الحجة على أحد من عباد الله، ولا جاء دليل شـرعي يدل على حجيته، وإن زعـم ذلك من لا خبرة له بالأدلة الشرعية ولا بكيفية الاستدلال بها» [56] . [ ص: 164 ]

            والإمام الشوكاني لم ينف كل ما يسـمى قياسا، بل استثنى ما كان منصوصا على علته، أو مقطوعا فيه بنفي الفارق، أو كان من فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، فقال: «فاعلم أن القياس المأخوذ به هـو ما وقع النص على علته، وما قطع فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، على اصطلاح من يسمى ذلك قياسا، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة» [57] .

            إن الدراسة المستفيضة لنظرية القياس عند الإمام الشوكاني تبين أنه رفض القياس على مستويين:

            أولا: رفضه كدليل شرعي، أي بوصفه مصدرا للأحكام.

            ثانيا: رفضه كمنهج للبحث عن الحكم الشرعي.

            أما رفضه للقياس كدليل شرعي مستقل فيعود إلى سببين:

            السبب الأول: أن المثبتين للقياس قد استدلوا بآيات لا تدل في نظره على حجيته، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام [58] ،

            منها قوله تعالى: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر:2) ،

            وقوله تعالى: ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) (المائدة: 95) ،

            وقوله عز وجل: ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء: 83) ،

            كما استدلوا بأحاديث خارجة عن محل النـزاع؛ مثل: [ ص: 165 ] ( حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن، إذ اعتبروا قوله: «أجتهد رأيي ولا آلوا ) . دليل على حجية القياس ، لكن الشوكاني فسر الاجتهاد بالرأي بأنه: استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية. وعلى التسليم بأنه يدل على القياس فإنه كما قال: «لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة؛ لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل، فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة، وأما بعد أيام النبوة فقد كمل الشرع؛

            لقوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) (المائدة:3) ،

            ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشـرع، إما بالنص عـلى كـل فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة،

            ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (الأنعام:38) » [59] .

            كما رد الإمام الشوكاني استدلالهم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قياسات قائلا: «هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم،

            الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه: ( إن هـو إلا وحي يوحى ) (النجم:4) ،

            ويقول في وجوب اتباعه: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (الحشر:7) ،

            وذلك خارج عن محل النـزاع، فإن القياس الذي كلامنا فيه إنما هـو قياس من لم تثبت له العصمة، ولا وجب اتباعه، ولا كان كلامه [ ص: 166 ] وحيا، بل من جهة نفسه الأمارة وبعقله المغلوب بالخطأ. وقد قدمنا أنه وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه [60] .

            أما استدلالهم بإجماع الصحابة على حجية القياس، فقد نفى الإمام الشوكاني حصوله، وأكد أنه لو حدث «لكان ذلك إنما هـو على القياسات التي وقـع النص على علتها، والتي قطـع فيها بنفي الفارق، فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس الذي اعتبره كثير من الأصولييـن وأثبتوه بمسالك تتغلغل فيها العقول حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر؟» [61] .

            السبب الثاني: أن الأقيسة الثلاثة التي استثناها من النفي العام، وقال بحجيتها مدلول عليها بدليل الأصل، مشمولة به، مندرجة تحته، حيث قال في بيان ذلك: «وأما ما كانت العلة فيه منصوصة، فالدليل هـو ذلك النص على العلـة؛ لأن الشارع كأنه صرح باعتبارها إذا وجدت في شيء من المسائل من غير فرق بين كونه أصلا أو فرعا. وهكذا ما وقع القطع فيه بنفي الفارق، فـإنه بهذا القدر قد صار الأمران اللذان لا فارق بينهما شيئا واحـدا، ما دل على أحدهما دل على الآخر مـن دون تعـدية، [ ص: 167 ] ولا اعتمـاد أصلية ولا فرعية. وأما فحوى الخطاب ولحنه، فهذان راجعان إلى المفهوم والمنطوق، وإن سماهما بعض أهل العلم بـ: قياس الفحوى » [62] .

            من هـنا استنتج الشوكاني أن تسمية هـذا النوع بـ: القياس ، إنما هـو مجرد اصطلاح فقال: «وإن كان -القياس- مع القطع بنفي الفارق، أو كان بثبوت الفرق بفحوى الخطاب أو كانت العلة منصوصة، فهذا وإن أطلق عليه اسم: القياس، فهو داخل دلالة الأصل، مشمول بما دل عليه، مأخوذ منه، وتسميته: قياسا، إنما هـو مجرد اصطلاح» [63] . وبهذا الاعتبار لم يعد الشوكاني القياس دليلا شرعيا مستقلا، بل صرح في موضع آخر بأنه من مفهوم الموافقة [64] .

            أما رفضه للقياس كمنهج للبحث عن الحكم الشرعي، فيرجع كذلك إلى سببين:

            السبب الأول: إن المسـائل الأصولية تستفاد من لغة العرب، أو من دليل شرعي، أو من علم من العـلوم المعتبرة فـي الترجيح، وما لا يرجع من مسائل هـذا الفن إلى هـذه الأصول الثلاثة فهو من علم الرأي المذموم [65] . [ ص: 168 ]

            ومدلول مصطلح: الرأي المذموم ، عند الشوكاني هـو ما «كان في معارضة أدلة الكتاب والسنة، أو كان بالخرص والظن مع التقصير عن معرفة النصوص، أو كان متضـمنا تعطيل أسماء الله تعالـى وصفـاته، أو كان مما أحدثت به البدع وغيـرت به السنن» [66] . وما دام العلم هـو معرفـة الحق بدليله، وكل ما لا يبنى على دليل فهو من علم الرأي المذموم [67] ، فإن مسـالك العـلة الـتي أثبت بـها الأصوليون القـياس -إلا ما كان راجعا منها إلى العلة المنصوصة، والقطع بنفي الفارق، وفحوى الخطاب- فهي في نظر الشوكاني «شعبة من شعب الرأي، ونوع من أنواع الظنون الزائفة، وخصلة من خصال الخيالات المختلفة؛ لأنه لم يدل عليها دليل من الشرع» [68] .

            السبب الثاني: أن القياس قد اتخذ ذريعة عند كثير من أهل الرأي للتلاعب بنصوص الكتاب والسنة، فلم يعد بهذا المنحى الذي اتخذه منهجا سليما في استنباط الأحكام الشرعية. قال الشوكاني : «ولقد تلاعب كثير من أهل الرأي بالكتاب والسـنة تلاعبا لا يخفى إلا على من لا يعرف الإنصاف بهذه الذريعة القياسية، وعولوا على ما هـو منه أوهن من بيت العنكبوت، وقدموه على آيات قرآنية وأحاديث نبوية [ ص: 169 ] ...ومن أنكر هـذا فلينظر المصنفات في الفقه، ويتتبع مسائلها المبنية على مجرد القياس، المبني على غير أساس، مع وجود أدلة نيرة، وبراهين مرضية، ومن هـذا الباب دخل أهل الرأي، وإليه خرجوا من أبواب الأدلة الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله» [69] .

            مما سبق يتبين أن الإمام الشوكاني رفض القياس من منطلقين: منطلق نقلي؛ لأنه لم يثبت دليل شرعي يدل على حجيته. ومنطلق منهجي؛ لأن جل مسالك العلة التي أثبت بها الأصوليون القـياس هـي -في نظر الشوكاني- مجرد خيال ليس على ثبوتها إشارة من علم.

            تعليق:

            إن دراسة الشوكاني الأصولية التحقيقية لمفردة القياس كشفت عن التزامه بثلاثة مبادئ في الاجتهاد الأصولي التجديدي:

            المبدأ الأول: عدم الاعتداد بمجرد الاسم دون النظر في معاني المسميات وحقائقها. فقد نظر الشوكاني فـي معاني مفردة القياس وحققـها، وأثبت ما رآه صوابا منها، وفند ما لم يكن كذلك. وهذا المبدأ يعصم الأصولي المحقق من التسليم المسبق بكل مسائل هـذا الفن، ويساعده على النظر المستقل فيها. [ ص: 170 ]

            المبدأ الثاني: دفع النـزاع بإيجاد مخرج من الخلاف، ومن ثم تصحيح بعض المفاهيم التي أنتجتها حدة الخلاف. فقد حاول الشوكاني تضييق الهوة بين النافين للقياس، والمثبتين له، فقال: «ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا، وإن كان منصوصا على علته، أو مقطوعا فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هـذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل، مشمولا به، مندرجا تحته، وبهذا يهون عليك الخطب، ويصغر عندك ما استعظموه، ويقرب لديك ما بعدوه؛ لأن الخلاف في هـذا النوع الخاص صار لفظيا، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي؛ لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا» [70] .

            وبناء على هـذا الموقف التقريبـي هـون الشوكاني من بعض المواقف الأصولية التي أفرزها الخلاف الحاد بين نفاة القياس ومثبتيه، التي منها عدم الاعتداد بخلاف من أنكر القياس؛ وقد نسب هـذا القول إلى القاضي أبي بكر ، والغزالي ، والأستاذ أبي إسحاق الذي نسبه بدوره إلـى الجمهور. حـجتهم في ذلك أن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هـو متمسك بالظواهر، فهو كالعامي الذي لا معرفة له [71] ، وكذلك قول الجويني : «إن [ ص: 171 ] منكري القياس ليسوا من علماء الأمة ولا من حملة الشريعة؛ لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها» [72] .

            ولقد انتقد الإمام الشوكاني هـذا الرأي وتعليلاته قائلا: «ولا يخفاك أن هـذا التعليل يفيد خروج من أنكر القياس وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة، فإنهم أنكروه عن علم به لا عن جهل له» [73] .

            ثم أكد أن دعوى نصوص الشريعة لا تفي بعشر معشارها لا تصدر إلا عمن لم يعرف نصوص الشريعة حق معرفتها» [74] .

            المبدأ الثالث: إن المعرفة الحقة لمفردات الأصول هـي السبيل السـليم لاتخاذ موقف علمي تجاهها، وأن رفض أي دليل من الأدلة لا يعني بحال من الأحوال الزهد أو التزهيد في العلم به، هـذا ما أكده الشوكاني في قـوله: «وإني وإن حذرته -أي: طالب العلم- عن العمل بهذا القياس، فلا أحـذره عن العلم به، وتطويل الباع في معرفته، والإحاطة بما جاء به المصنفون من أهل الأصول في مباحثه، فإنه لا يعرف صحة ما قلته إلا من عرفه حق معرفته» [75] . [ ص: 172 ]

            المجال الثاني: بيان ما يصلح للرد إلى علم أصول الفقه وما لا يصلح [76] لقد بين الشوكاني أن فرز القضايا الأصولية الأصيلة عن القضايا الدخيلة على هـذا العلم تفيد في معرفة المسائل التي يصلح رد الفروع إليها وتحكيمـها عند تعارض الأدلة، فقال عند حـديثه عن التباس ما هـو من الرأي البحت بشيء من العلوم التي هـي مواد الاجتهاد:

            «وكثيرا ما يقع ذلك في أصول الفقه، فإنه قد اختلط فيها المعروف بالمنكر، والصحيح بالفاسد، والجيد بالردئ، فربما يتكلم أهل هـذا العلم على مسائل من مسائل الرأي ويحررونها ويقررونها وليست منه في شيء، ولا تعلق لها به بوجه، فيأتي الطالب لهذا العلم إلى تلك المسائل فيعتقد أنها منه، فيرد إليها المسائل الفروعية، ويرجع إليها عند تعارض الأدلة، ويعمل بها في كثير من المباحث، زاعما أنها من أصول الفقه ذاهلا عن كونها من علم الرأي» [77] .

            أما الضابط المنهجي الذي تعرف به المسائل التي هـي من علم الأصول، والمسائل التي هـي عارية عليه فيتمثل في رد مسائل هـذا الفن إلى المصادر المستفادة منها، ذلك أن مسائل الأصول تستفاد في نظر الشوكاني [ ص: 173 ] من لغة العرب، أو من دليل شرعي، أو من علم من العلوم التي لها دخل في الترجيح، فيرد المسألة إلى الأصل المستفادة منه، فيتبين هـل هـي من علم أصول الفقه، أم دخيلة عليه؟

            لقد حاول الشوكاني تطبيق هـذا الضابط المنهجي على المباحث الأساسية في علم الأصول، مبتدئا بمبحث: الدلالات، مبينا أن من مسائله ما هـو راجع إلى لغة العرب رجوعا ظاهرا، ومثل لذلك بقوله: « كبناء العام على الخاص، وحمل المطلق على المقيد، ورد المجمل إلى المبين، وما يقتضيه الأمر والنهي، ونحو هـذه الأمور، فالواجب على المجتهد أن يبحث عن مواقع الألفاظ العربية، وموارد كلام أهلها، وما كانوا عليه في مثل ذلك. فما وافقه فهو الأحق بالقبول والأولى بالرجوع إليه... هـذا على فرض عدم وجود دليل شرعي يدل على ذلك، فإن وجد فهو المقدم على كل شيء» [78] .

            ومنها ما هـو مخـتلف فيه مثل: هـل يبنى العـام على الخاص مطلقا، أم مشروطا بشرط أن يكون الخاص متأخرا؟ وهل يحمل المطلق على المقيد مع اخـتلاف السبب أم لا؟ ومعنى الأمـر الحقيقي: هـل هـو الوجـوب أم غيره؟ ومعنى النهي الحقيقي: هـل هـو التحريم أم غيره؟ [79]

            في مثل هـذه القضايا قال: « فإذا أردت الوقوف على الحق في بحث من هـذه الأبحاث فانظر فـي اللغة العربية، واعمل على ما هـو موافق لها، [ ص: 174 ] مطابق لما كان عليه أهلها، واجتنب ما خالفها، فإن وجدت ما يدل على ذلك من أدلة الشرع، كما تقف عليه في الأدلة الشرعية -من كون الأمر يفيد الوجوب ، والنهي يفيد التحريم - فالمسـالة أصولية؛ لكونها قاعدة كلية شرعية لكون دليلها شرعيا، كما أن ما يستفاد من اللغة من القواعد الكلية أصولية لغوية».

            ثم أضاف: « فهذه المباحث وما شابهها من مسائل النسخ ومسائل المفهوم والمنطوق، الراجعة إلى لغة العرب، المستفادة منها على وجه يكون قاعدة كلية هـي مسائل الأصول، والمرجع لها، الذي يعرف به راجحها من مرجوحها، هـو العلم الذي هـي مستفادة منه، مأخوذة من موارده ومصادره» [80] .

            كما طبق الشوكاني الضابط نفسه على مباحث القياس واستخلص أن المعتبر منه هـو ما كان راجعا إلى الشرع، أو معلوما من لغة العرب فقال: «وأما مباحث القياس فغالبها من بحت الرأي، الذي لا يرجع إلى شيء مما تقوم به الحجة... وبيان ذلك أنـهم جعلوا للعلة مسـالك عشرة، لا تقوم الحجة بشيء منها إلا ما كان راجعا إلى الشرع؛ كمسلك النص على العلة، أو ما كان معلوما من لغة العرب كالإلحاق بمسلك إلغاء الفارق، وكذلك قياس الأولى، المسمى عند البعض بـ: فحوى الخطاب » [81] . [ ص: 175 ]

            وعن مباحث الكتاب والسنة والإجماع قال: « فما كان من تلك المباحث الكلية مستفادا من أدلة الشرع فهو أصولي شرعي. وما كان مستفادا من مباحث اللغة فهو أصولي لغوي. وما كان مستفادا من غير هـذين فهو من علم الرأي» [82] . كما اعتبر من محض الرأي: الاستحسان ، والاستصحاب ، والتلازم [83] .

            وأما المباحث المتعلقة بـ: الاجتهاد ، والتقليد ، وشرع من قبلنا ، وقول الصحابي ، فهي في نظره: «... شرعية، فما انتهض عليه دليل الشرع منها فهو حق، وما خالفه فباطل» [84] .

            وأما المباحث المتعلقة بالترجيح فيرى أنه: « إن كان المرجح مستفادا من علم من العلوم المدونة، فالاعتبار بذلك العلم، فإن كان له مدخل في الترجيح؛ كعلم اللغة، فإنه مقبول، وإن كان لا مدخل له إلا لمجرد الدعوى كعلم الرأي فإنه مردود» [85] .

            إن استيعاب هـذا الضابط المنهجي، وحسن تطبيقه على مباحث علم أصول الفقه يمكن الباحث في نظر الشوكاني من فائدتين:

            الأولى: تنبيهه إلى أن بعض ما دونه أهل الأصول في الكتب الأصولية ليس من الأصول في شيء.

            الثانية: إرشاده إلى العلوم التي تستمد منها المسائل المدونة في الأصول؛ ليرجع إليها عند النظر فـي تلك المسائل، حتى يكون على بصيرة، ويصفـو له هـذا العلم [86] . [ ص: 176 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية