الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            عنف المرأة في المجال الأسري

            الأستاذة الدكتورة / حنان قرقوتي

            5- عنف الكنة مع حماها:

            لعل في القصة الواقعيـة، التي كان يرويـها الأجداد ما يكفي، وهي قصة ذلك الأب، الذي زوج ابنه معه في بيته، ولما رزق أولادا وكبرت سنه ضاقت الكنة به ذرعا، وألحت على زوجها بنقل أبيه من غرفة نومه إلى غرفة الجلوس بـحجة أن أولادها الصغـار قد ضاق بـهم المكان مع جدهم، وما زالت تلـح على زوجـها بنقل أبيه حتى أسـكنه في غرفـة البستـاني في آخر الحديقة.

            وجاء فصل الشتاء وإذا بذلك الشيخ يطلب من ابنه الشاب أن يجلب له حراما يقيه البرد القارس، وفي نهاية اليوم التالي جاء الابن الشاب بحرام لأبيه، وحينما هم بالدخول عليه نادته زوجته وقالت: "ما هذا؟". قال: "حرام لأبي المسن ليقيه البرد". قالت: "انتظر قليلا". ثم جاءت بمقص وقصت الحرام نصفين، وأرسلت مع زوجها نصفا لأبيه ليقيه البرد القارس في الشتاء، وخبأت النصف الثاني للشتاء التالي.

            وفي بداية العام التالي كان الأب المسن لا يزال على قيد الحياة، وعند حلول الشتاء طلب من ابنه أن يجلب له حراما يقيه برد الشتاء، وعلى الفور تذكر الابن أن هناك نصف حرام موجود بالمنزل من العام السابق، فصعد إلى المنزل ونادى زوجته كي تأتيه بالحرام الموجود، فأخذت تبحث عنه، [ ص: 73 ] ولكن لا أثر له رغم مساعدة زوجها لها في البحث، وعندما رآهما طفلهما يبحثان قال لأبيه: "عن ماذا تبحث يا أبي؟". قال: "أبحث عن الحرام لأعطيه لجدك". فقال الطفل: "أنا خبأته". فالتفت الأب إلى ابنه مندهشا وقال باستغراب: "لماذا؟". فقال الطفل ببراءة الأطفال لأبيه: "كنت قد خبأته لك، وحينما تكبر مثل جدي أعطيك إياه".

            فتسمر الأب في مكانه وجحظت عيناه، وكأنه عرف ما اقترف من خطأ في معاملته لأبيه، فيما كان الأجدر به أن يضع أباه في صدر البيت، بدلا من طرده منه وإسكانه في غرفة البستاني في الحديقة.

            وصحا هذا الأب الشاب وقال لزوجته: "إن البيت لأبي قبلي، إن كان يعجبك هذا امكثي بيننا، وإن لم يعجبك هذا الأمر فالحقي بأهلك". فامتثلت بالإذعان، بعد أن أخذت العبرة مع زوجها من ولدهما الصغير. وصدق المثل القائل: "كما تدين تدان".

            وهناك حالات للتملص من خدمة المسن، أبا كان أو أما، وذلك بأن تقول الكنة: "أنا لست مجبرة"، وكذلك يقول الصهر: "أنا لست مجبرا"، وبهذا تضيع صلة الأرحام والواجبات الاجتماعية.

            يقول الله تعالى: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف [ ص: 74 ] ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا * ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا * وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ) (الأسراء:23-26).

            هكذا أمر رب العزة في هذه الآيات بالإحسان إلى الوالدين لما لهما من حق التربية على أبنائهم وبناتهم. وأمر المولى سبحانه بعدم التأفف من الوالدين، وأن نقول لهما قولا لينا يتناسب مع وضعهما، خصوصا وأن المسن يصبح كالطفل الصغير من حيث المعاملة واللين والرفق.

            فكما أننا نعطف على الصغار، فكذلك هناك الكبار من الآباء والأمهات، ولم يكتف الله سبحانه وتعالى بأن جعل حقوق الآباء بما لهم من حقوق التربية على أبنائهم. بل إنه تعالى ذكر المسلمين أيضا بأن هناك حقوقا لذوي القربى بقوله: ( وآت ذا القربى حقه والمسكين ) فكيف إذا كان المسكين ذا قربى وأحيانا آباء وأمهات؟

            عشرات القصص يعيشها مجتمعنا الإسلامي، وهذه عينة صغيرة من هذه الحالات:

            ولد في الحرب العالمية الثانية وله عدد من الإخوة والأخوات، تزوج في شبابه ولكنه لم يرزق أولادا. ثم توفيت الزوجة بعد صراع عنيف مع المرض، [ ص: 75 ] ثم توفي جميع إخوته وأخواته ولم يبق له في هذه الدنيا إلا أولاد إخوته من ذكور وإناث.

            وأخـيرا فقد منزله بسبب الحرب المدمرة، التي اجتاحت لبنان 1975-1990م، أما قضيتـه: هو مصـيره لا أحـد مـن أولاد إخوته من الـذكور والإناث يتحمـل وجـوده في بيته بحجـة أن الجميع متزوجون، الـذكور لا يتحملـون ويقـولون: الكنات ما دخـلهن فهن غير مجبرات على الخدمة.

            أما الإناث فيقلن: بأنهن لا حول لهن ولا قوة وهن يخضعن لأزواجهن. فما هو الحل؟

            بالمقابل هناك مسنة رزقت بولد وبنت والاثنان متزوجان وليس هناك مستقر لهذه المسنة، الكنة تقول: إني غير مجبرة على خدمة أم زوجي، والصهر زوج البنت يقول: أنا صهر ولست مجبرا على خدمة أم زوجتي في وجود ابنها.

            هـذه القضـايا هي قضـايا العشـرات من المسنـين في مجتمعنـا. ويأتي الحل من البعض بقوله: ضعوا هؤلاء المسنين والمسنات في دور رعاية خاصة بهؤلاء المسنين. إذ هناك العناية والرعاية لهؤلاء من طبابة ورعاية وطعام... إلخ.

            ولكن هناك سؤال يطرح على الجميع هل هذا يكفي. خصوصا أن هؤلاء المسنين بكامل وعيهم. وإني لأتساءل وأسأل: أي منا لم يسمع بأن [ ص: 76 ] له قريبا غادر وسـافر إلى الخارج إن لم يكن هو قد سافر وعانى من الغربة في شبابه، فكيف بهذا الكبير المسن أو هذه الكبيرة المسنة، أي الذي ينسلخ عن بيئته وأهله؟! ماذا سيحصل بهؤلاء إلا أن يشعروا بأنهم قد فقدوا ذواتهم وليس لهم محل في الإعراب ضمن هذه المؤسسات سوى انتظار الموت، الذي سيأتي باكرا أو متأخرا.

            بينما أهالي هؤلاء المسنين يتخلون عن تحمل أي تبعة أو مسؤولية عنهم ويلقونها على عاتق هذه المؤسسة أو تلك.

            فإن كان الأولاد يتخلون أحيانا عن آبائهم وأمهاتهم ويزجون بهم في المؤسسات الرعائية حتى لا ينزعجوا منهم ومن وجودهم في وسطهم. فكيف بهؤلاء المسنين، الذين أنجبوا الأولاد؟!

            صرخة ضمير وإنسانية ووقفة إسلامية نطلبها من الشباب والشابات والأمهات والآباء ونقول: هناك صلة رحم.. وقد ضاعت صلة الرحم هذه في كثير من الأسر بين الكنة والصهر، في حين أن ( الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله: ومن قطعني قطعه الله ) [1] . هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 77 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية