ذكر الأحداث المتعلقة بالفرس
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكرنا أن الإسكندر اليوناني قتل دارا بن دارا الذي كان ملك الفرس بالعراق ملك إقليم بابل ، ثم فرق الممالك بين ملوك الطوائف ، وقد بينا أن [ معنى ] ملوك الطوائف : أن كل ملك يملك بناحية معروفة ولا يتعداها [ إلى غيرها ] فأما السواد فإنها بقيت بعد هلاك الإسكندر في يد الروم أربعا وخمسين سنة .
وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك وولده على السواد ، وكانوا إنما يملكون سواد الكوفة ويتطرفون الجبال وناحية الأهواز وفارس ، إلى أن خرج رجل يقال له: أشك ، وهو ابن دارا الأكبر ، وكان مولده ومنشؤه بالري ، فجمع جمعا كبيرا ، وسار يريد أنطيخس الرومي ، فلقيه فقتل أنطيخس وغلب السواد ، وصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان ، فعظمه سائر ملوك الطوائف لنسبه وشرفه فيهم ، وسموه ملكا ، وأهدوا إليه . [ ص: 78 ]
ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان ، ويقال: ابن سابور ، وقيل: هو الذي غزا بني إسرائيل في المرة الثانية ، سلط عليهم لقتلهم يحيى بن زكريا ، فأثخن فيهم ولم يعد لهم جماعة ، ورفع الله منهم النبوة ، وأنزل عليهم الذل .
وكانت الروم قد أقبلت إلى بلاد فارس لطلب ثأر أنطيخش ، وملك بابل يومئذ بلاش أبو أردوان ، فكتب إلى ملوك الطوائف يعلمهم قصد الروم إلى بلادهم فأمدوه ، فاجتمع عنده أربعمائة ألف ، فولى عليهم ملكا من ملوك الطوائف يلي ما بين انقطاع السواد إلى الحيرة ، فسار بهم حتى لقي ملك الروم فقتله ، واستباح عسكره ، وذلك هو الذي هيج الروم على بناء قسطنطينية ، ونقل الملك من رومية إليها ، وكان الذي ولي إنشاءها قسطنطين الملك ، وهو الروم تنصر ، وهو الذي أجلى من بقي من أول ملك من ملوك إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم عيسى ، وأخذ الخشبة التي زعموا أنهم صلبوا عليها عيسى عليه السلام ، فعظمها الروم وأدخلوها خزائنهم ، فهي عندهم إلى الآن .
ولم يزل ملك فارس متفرقا حتى ملك أردشير بن بابك بن ساسان بن بابك بن زرار بن بهافريذ بن ساسان الأكبر بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب فنهض بفارس طالبا بزعمه دم ابن عمه دارا [ ص: 79 ] ابن دارا بن بهمن الذي حارب الإسكندر حتى قتله [ حاجباه ] ، ومريدا بزعمه رد الملك إلى أهله الذي لم يزل عليه سلفه وآباؤه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف ، وكان مولده بإصطخر .
وكان جده ساسان شجاعا ، بلغ من شجاعته أنه حارب وحده ثمانين رجلا من أهل إصطخر ذوي نجدة فهزمهم ، وكان ساسان قيما على بيت نار إصطخر ، فولد له بابك ، فلما احتنك قام بأمر الناس بعده ابنه ، ثم ولد له أردشير ، فملك وفتك بجماعة من الملوك ، وفتح البلدان ، وسمي: شاهنشاه ، وبنى الجوسق ، وبنى المدينة التي في شرقي المدائن ، ومدينة غربية ، وأقام بالمدائن ، وكان قد حلف لا يستبقي أحدا من ملوك الطوائف ، أوجب ذلك على عقبه .
فوجد جارية في دار المملكة فأعجبته ، وكانت بنت أردوان الملك وهو من ملوك الطوائف ، واسمها: سورا ، فقال لها وهو لا يعلم أنها ابنة أردوان : أبكر أنت أم ثيب ؟ فقالت: بكر ، فواقعها واتخذها لنفسه ، فعلقت منه ، فلما علمت أنها حامل عرفته نسبها فنفر طبعه عنها ، ودعى شيخا مسنا وسلمها إليه وقال: أودعها بطن الأرض ، ولما أخذها الشيخ أعلمته أنها حامل من الملك أردشير ، فجعلها في سرب وقطع مذاكيره وجعلها في حق وسلم الحق إلى أردشير ، وسأله أن يختم عليه بخاتمه ، ويكون في بعض خزائنه ففعل ، ووضعت الجارية غلاما ، فأخذ الشيخ طالعه فعلم أنه سيملك فسماه سابور ، فلما نشأ دخل الشيخ على الملك فرآه حزينا فقال: ما لك أيها الملك ؟ فقال: لي هذا الملك وما لي ولد . فقال: أيها الملك انظر إلى الحق الذي كنت سألتك وضعه في بعض الخزائن .
فأحضره وفتحه ، فلما أبصر ما فيه حدثه الشيخ حديث الجارية وولدها ، فاستدعاه مع ألف صبي من أقرانه ، فلعبوا بالصوالجة وهو ينظر إليهم ، فدخلت الكرة إيوان الملك ، فأحجم الكل عنها ، ودخل سابور وحده فأخذها ، فعلم أردشير أنه ولده ، فعقد له التاج ورسمه بالملك من بعده ، وتوجه بتاجه في حياته ، ولم يزل أردشير محمود السير والأثر ، ذاك [ ص: 80 ] رأيه ، وأثخن في الأرض ، وكان معدودا من الحكماء .
[ أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك بإسناد له عن أحمد بن يحيى السندي قال: سمعت محمد بن سلام يقول: كان ] مما حفظ عنه أنه قال يوما لوزرائه وخاصته: بحسبكم دلالة على فضيلة العلم أنه يمدح بكل لسان ، وبحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل الناس ينتفي منه ويغضب أن يسمى به .
وكتب أردشير إلى الملوك كتابا فيه: من ملك الملوك أردشير بن بابك إلى من يخلفه بعده من ملوك فارس ، أما بعد: فإن صنيع الملوك على غير صنيع الرعية ، فالملك يطبعه العز والأمن والسرور والقدرة والجرأة والعبث والبطر ، ثم كل ما ازداد في العمر تنفسا وفي الملك سلامة ، زاده في هذه الطبائع حتى يسلمه إلى سكر الشراب ، فينسى النكبات والعثرات والعبر والدوائر ، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول ، وقد قال الأولون منا: عند حسن الظن بالأيام تحدث العبر .
وقد كان من الملوك من يذكره عزه الذل ، وأمنه الخوف ، وسروره الكآبة ، وقدرته العجز . وقد قال الأولون منا: ، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه ، لأن الدين أس الملك وعماده ، والملك يعد حارس الدين ، فلا بد للملك من أسه ، ولا بد للدين من حارسه ، فإن ما لا حارس له ضائع ، وما لا أس له مهدوم . رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان ، واعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان
واعلموا أنما سلطانكم على أجساد الرعية ، وأنه لا سلطان للملوك على القلوب ، وفي سكر الملك بالسلطان ما [ ص: 81 ] يكفيه من سكر [ الشراب ] ، واعلموا أنه ليس للملك أن يكذب ؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه ، وليس له أن يغضب ، لأن الغضب والعداوة لقاح الشر والندامة ، وليس له أن يلعب ، لأن اللعب من عمل الفراغ ، وليس له أن يحسد إلا ملوك الأمم على حسن التدبير .
واعلموا أنه لكل ملك بطانة ، ولكل رجل من بطانته بطانة ، ثم لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة حتى يجمع في ذلك أهل المملكة ، فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب ، أقام كل آمر منهم بطانته على ذلك ، حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية ، واعلموا أن الملك قد تهون عليه العيوب لأنه لا يستقل بها حتى يرى الناس يتكاتمونها ، وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى ، فاحذروا إفشاء السر عند صغار أهاليكم وخدمكم ، واعلموا أن الملك ورعيته جميعا يحق عليهم أن لا يكون للفراغ عندهم موضع ، فإن التضييع في فراغ الملك ، وفساد المملكة في فراغ الرعية .