الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حديث ابن ملك متزهد منهم:

أخبرنا محمد بن عبيد الله البيضاوي ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين بن أخي ميمي ، قال: أخبرنا أبو علي بن صفوان ، قال: [ ص: 185 ] أخبرنا أبو بكر القرشي ، قال: حدثني محمد بن الحسين ، قال: أخبر [ مروان ] معاوية بن عمرو ، قال: أخبرنا أبو بكر العجلي ، قال: [ أخبرنا ] أبو عقيل الدورقي ، عن بكر بن عبد الله المزني ، قال: كان رجل من ملوك بني إسرائيل قد أعطي طول عمر وكثرة مال وكثرة أولاد ، وكان أولاده إذا كبر أحدهم لبس [ ثياب ] الشعر ، ولحق بالجبال ، وأكل من الشجر ، وساح في الأرض حتى يأتيه الموت ، ففعل ذلك جماعتهم حتى تتابع بنوه على ذلك .

فأصاب ولدا بعد كبر ، فدعا قومه وقال: إني أصبت ولدا بعد ما كبرت ، وترون شفقتي عليكم ، وإني أخاف أن يتبع [ هذا ] سنة إخوته ، وأنا أخاف إن لم يكن عليكم أحد من ولدي بعدي ، فبنوا له حائطا فرسخا في فرسخ ، فكان فيه دهرا من دهره .

ثم ركب يوما فإذا عليه حائط مصمت ، فقال: إني أحسب أن خلف هذا الحائط أناسا وعالما آخر ، فأخرجوني أزدد علما وألقى الناس . فقيل ذلك لأبيه ، ففزع وخشي أن يتبع سنة إخوته ، فقال: اجمعوا عليه كل لهو ولعب ، ففعلوا ذلك .

ثم ركب في السنة الثانية ، فقال: لا بد من الخروج ، فأخبر بذلك الشيخ ، فقال: أخرجوه ، فحمل على عجلة وكلل بالزبرجد والذهب ، وصار حوله حافتان من الناس . فبينا هو يسير إذا هو برجل مبتلى ، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل مبتلى ، فقال: أيصيب ناسا دون ناس أو كل خائف له ؟ قالوا: كل خائف له ، قال: وأنا فيما أنا فيه من السلطان ؟ قالوا: نعم ، قال: أف لعيشكم هذا ، [ هذا ] عيش كدر . فرجع مغموما [ ص: 186 ] محزونا ، فقيل لأبيه ، فقال: انشروا عليه كل لهو وباطل حتى تنزعوا من قلبه هذا الحزن والغم .

فلبث حولا ، ثم قال: أخرجوني ، فأخرج على مثل حاله الأول ، فبينا هو يسير إذا هو برجل قد أصابه الهرم ولعابه يسيل من فيه ، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل قد هرم ، قال: يصيب ناسا دون ناس ، أو كل خائف له إن هو عمر ؟ قالوا: كل خائف [ له ] ، قال: أف لعيشكم هذا ، [ هذا ] عيش لا يصفو [ لأحد ] . فأخبر بذلك أبوه ، فقال: احشروا عليه كل لهو وباطل . فحشروا عليه . فمكث حولا ثم ركب على مثل حاله .

فبينا هو يسير إذا هو بسرير تحمله الرجال على عواتقها ، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل مات ، قال لهم: وما الموت ؟ ائتوني به ، فأتوه به ، فقال: أجلسوه ، فقالوا: إنه لا يجلس ، قال: كلموه ، قالوا: إنه لا يتكلم . قال: فأين تذهبون به ، قالوا: ندفنه تحت الثرى ، قال: فيكون ماذا بعد هذا ؟ قالوا: الحشر ، قال: وما الحشر ؟ قالوا: يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة مكشفي الرءوس ، فيجزى كل واحد على قدر حسناته وسيئاته ، قال: ولكم دار غير هذه تجازون فيها ؟ قالوا: نعم ، فرمى بنفسه من الفرس وجعل يعفر وجهه في التراب وقال لهم: من هذا كنت أخشى ، كاد هذا يأتي علي ، وأنا لا أعلم به ، أما ورب من يعطي ويحشر ويجازي ، إن هذا آخر الدهر بيني وبينكم ، فلا سبيل لكم علي بعد هذا اليوم ، فقالوا: لا ندعك حتى نردك إلى أبيك .

[ ص: 187 ] قال: فردوه إلى أبيه ، وقد كاد ينزف دمه ، فقال له: يا بني ، ما هذا الجزع ؟ قال: جزعي ليوم يجازى فيه الصغير والكبير على ما عملا من خير وشر . فدعا بثياب من الشعر فلبسها ، وقال: إني عازم في الليل أن أخرج . فلما كان [ في ] نصف الليل ، أو قريبا منه خرج ، فلما خرج من باب القصر ، قال: اللهم إني أسألك أمرا ليس لي منه قليل ولا كثير ، وقد سبقت فيه المقادير . إلهي لوددت أن الماء كان في الماء ، وأن الطين كان في الطين ، ولم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة .

قال بكر بن عبد الله : فهذا رجل خرج من ذنب [ واحد ] لا يعلم ما عليه فيه ، فكيف بمن يذنب وهو يعلم بما عليه ، ولا يتحرج ولا يجزع ولا يتوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية