الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 151 ] منهم: أصحاب الكهف :

قال ابن عباس رضي الله عنه: إنهم قوم هربوا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام ، فمروا براع له كلب يتبعهم على دينهم ، فآووا إلى كهف يتعبدون ، وكان منهم رجل يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة إلى أن جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكرهم الملك ، فعوذوا بالله من الفتنة ، فضرب الله على آذانهم وأمر الملك ، فسد عليهم الكهف ، وهو يظنهم أيقاظا ، وقد توفى الله أرواحهم ، وفاة النوم وكلبهم قد غشيه ما غشيهم ثم إن رجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس [ وجعلاه ] في البنيان ، وقالا: لعل الله عز وجل يطلع عليهم قوما مؤمنين فيعلمون خبرهم .

وقال ابن إسحاق : وألقى الله عز وجل في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان ، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة ، فنزعاها ، وفتحا باب الكهف ، فجلسوا فرحين ، فسلم بعضهم على بعض ، لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه ، إنما هم كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون [ أن ] ملكهم في طلبهم فضلوا .

وقالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: انطلق [ فاسمع ما يذكرونه ] وابتع لنا طعاما ، فوضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وخرج ، فمر مستخفيا متخوفا أن يراه أحد ، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان فعجب ، وخيل إليه [ ص: 152 ] أنها ليست المدينة التي يعرف ، ورأى ناسا لا يعرفهم ، فتعجب ، وجعل يقول: لعلي نائم ، فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى فقام مسندا ظهره إلى جدار ، وقال في نفسه: والله ما أدري لما هذا إلا غشية ، أمس لم يكن على وجه الأرض من يذكر عيسى إلا قتل ، واليوم أسمعهم يذكرونه ، لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا [ شيئا ] .

فقام كالحيوان ، وأخرج ورقا ، فأعطاه رجلا ، وقال: بعني طعاما . فنظر الرجل إلى نقشه فعجب ثم ألقاه إلى آخر ، فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتناقدون وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزا ففرق منهم وظنهم قد عرفوه ، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة لي إليه ، فقالوا له: من أنت يا فتى ، والله لقد وجدت كنزا ، وأنت تريد أن تخفيه ، فشاركنا فيه ، وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك . فلم يدر ما يقول ، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما أصبت فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة ، فقالا: أين الكنز الذي وجدت ؟ فقال: ما وجدت كنزا ، ولكن ما هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ولا ما أقول [ لكم ] .

قال مجاهد : وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل فقالوا: من أنت ، وما اسم أبيك ؟ فأخبرهم ، فلم يجدوا من يعرفه ، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ، ثم أوثقك حتى تعرف هذا الكنز .

فقال تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتم . قالوا: سل ، قال: ما فعل الملك دقيانوس ، قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس ، وإنما هذا ملك منذ زمان طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله ، لقد كنا فتية ، وأكرهنا [ ص: 153 ] الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فهربنا منه عشية أمس ، فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما ، فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي .

فانطلقوا معه وسار أهل المدينة فكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ ، فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل ، فظنوا أنهم رسل دقيانوس ، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض فسبق تمليخا إليهم وهو يبكي فبكوا معه وسألوه عن شأنه فأخبرهم ، وقص عليهم النبأ كله ، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله عز وجل ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث .

ونظر الناس [ إلى ] المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فأرسلوا إلى ملكهم ، فجاء واعتنق القوم وبكى ، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام ، حفظك الله ، وحفظ ملكك ، فبينا الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم ، وتوفى الله سبحانه أنفسهم ، فأمر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب ، فلما أمسى رآهم في المنام ، فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب وفضة ، ولكنا خلقنا من تراب ، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب ، حتى يبعثنا الله منه ، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه ، وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة

التالي السابق


الخدمات العلمية