الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال علماء السير لما رضي النجاشي عن أبرهة بنى أبرهة كنيسة لم ير مثلها في زمانها ، بناها بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود ، وحلاها بالذهب والفضة ، وحفها بالجوهر ، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة ، وأوقد فيها المندل ، ولطخ [ ص: 122 ] جوانبها بالمسك ، وسماها: القليس . وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب .

فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من بني فقيم ، فخرج حتى أتاها فأحدث فيها ثم [ خرج ] فلحق بأرضه ، فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا ؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة ، لما سمع من قولك إني أريد أن أصرف إليه حاج العرب ، فغضب ، فجاء فقعد فيها - أي أنها ليست لذلك بأهل – فغضب أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه ، وعند أبرهة رجال من العرب ، منهم: محمد بن خزاعي الذكواني وأخوه قيس ، فأمر محمدا على مضر ، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القليس ، وهي الكنيسة التي بناها .

فسار محمد حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة - وقد بلغ أهل تهامة أمره وما جاء له - بعثوا رجلا من هذيل يقال له: عروة بن حياض ، فرماه بسهم فقتله ، وهرب أخوه قيس فلحق بأبرهة فأخبره ، فزاد ذلك أبرهة غيظا ، وحلف ليغزون بني كنانة ، وليهدمن البيت .

فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل ، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، فخرج رجل من أشراف [ أهل ] اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر إلى حرب [ ص: 123 ] أبرهة وجهاده عن بيت الله تعالى ، فقابله فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ أسيرا فقال: أيها الملك ، لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون كوني معك خيرا لك . فتركه في وثاق .

فلما وصل إلى أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله ، فهزمه أبرهة وأخذه أسيرا ، فقال له: لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب . فتركه في الحديد .

حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف ، فقال: أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، ونحن نبعث من يدلك . فبعثوا معه أبا رغال ، فمضى به حتى أنزله المغمس ، فمات أبو رغال هناك ، فرجمت العرب قبره ، فهو [ القبر ] الذي يرجم الناس بالمغمس .

ولما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل مكة ، أصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب - وهو يومئذ كبير قريش وسيدها - فهمت قريش ، وكنانة ، وهذيل ، ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .

وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، فقل له: إن الملك يقول لكم إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم ، وإن لم يرد حربي فأتني [ به ] .

فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، فجاءه فأخبره بما قال أبرهة ، فقال عبد المطلب : [ والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ] ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه [ ص: 124 ] فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه ، فو الله ما عندنا من دفع عنه .

قال: فانطلق إلى الملك ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر ، وكان له صديقا ، حتى دل عليه ، فجاءه وهو في محبسه فقال له: يا ذا نفر ، هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : ما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندي غناء فيما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل لي صديق ، فسأرسل إليه فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر عليه . قال: حسبي .

ثم بعث إلى أنيس ، فجاء به فقال: يا أنيس ، إن عبد المطلب سيد قريش يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه وانفعه بما استطعت . قال: أفعل .

فكلم أنيس أبرهة فقال: يا أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك فأذن له ، وأحسن إليه . [ فأذن له أبرهة ] وكان عبد المطلب عظيما ، وسيما ، جسيما ، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ، ونزل عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه ، ثم قال لترجمانه: قل: ما حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان ، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له [ ص: 125 ] كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه! فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال: ما كان ليمتنع مني . قال: أنت وذاك ، أردد إلي إبلي .

وكان عبد المطلب قد ذهب معه حين مضى إلى أبرهة [ عمرو بن نفاثة بن عدي - وهو سيد كنانة - وخويلد بن واثلة الهذلي - وهو ] سيد هذيل - فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ، ولا يهدم البيت ، فأبى عليهم .

فلما رد أبرهة إبل عبد المطلب انصرف إلى قريش فأخبرهم بالخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفا عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بباب الكعبة :


يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا     إن عدو البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضا:


لا هم إن العبد يمنع     رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم     ومحالهم عدوا محالك

قال مؤلف الكتاب: ويروى غدوا بالغين ، يعني غدا ، وهي لغة ، فإن أراد الشاعر أن مع القوم أخوة غدوا . [ ص: 126 ]


فلئن فعلت فربما     أولى فأمر ما بدا لك
جروا جموع بلادهم      [ والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ]     جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا     فأمر ما بدا لك .

ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ، وانطلق ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى أخذ بأذن الفيل فقال: ابرك وارجع من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام . فبرك .

ومضى نفيل يشتد في الجبل ، فضربوا الفيل ليقوم فأبى ، [ فأدخلوا محاجن في مراقيه ليقوم فأبى ] ، فوجهوه إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام فهرول ، ووجهوه إلى المشرق فهرول ، ووجهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف ، مع كل طائر منهم ثلاثة أحجار: حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك ، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق [ الذي جاءوا منه ، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى ] اليمن ، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله عز وجل بهم من نقمته:


أين المفر والإله الطالب     والأشرم المغلوب غير الغالب

[ ص: 127 ]

وقال نفيل أيضا:


ألا حييت عنا يا ردينا     نعمناكم مع الإصباح عينا
[ أتانا قابس منكم عشاء     فلم يقدر لقابسكم لدينا ]
ردينة لو رأيت ولم تريه     لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت رأيي     ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ عاينت طيرا     وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل     كأن علي للحبشان دينا!

فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم تتساقط أنامله أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة تبعها دم وقيح ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر ، عن أشياخ له: أن النجاشي وجه أرياطا أبا صحم في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها .

فقام رجل من الحبشة يقال له: أبرهة الأشرم فقتل أرياطا ، وغلب على اليمن ، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم فسأل: أين يذهب الناس ؟ فقيل له: يحجون بيت الله بمكة فقال: مم هو ؟ قالوا: [ من ] حجارة . قال: وما كسوته ؟ قالوا: [ ما ] يأتي من هاهنا [ ص: 128 ] من الوصائل ، فقال أبرهة : والمسيح لأبنين لكم خيرا منه! فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض ، والأحمر ، والأصفر ، والأسود ، وحلاه بالذهب والفضة ، وحفه بالجواهر ، وجعل له أبوابا عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب ، وجعل فيه ياقوتة حمراء عظيمة ، وجعل له حجابا وكان يوقد فيه بالمندل ، ويلطخ جدره بالمسك ، وأمر الناس [ أن ] يحجوه ، فحجه كثير من قبائل العرب سنين ، ومكث فيه رجال يتعبدون ، وكان نفيل الخثعمي يؤرض له ما يكره ، فأمهل ، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرك ، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته ، وجمع جيفا فألقاها فيه . فأخبر أبرهة بذلك ، فغضب غضبا شديدا ، وقال: إنما فعلت هذا العرب غضبا لبيتهم ، لأنقضنه حجرا حجرا .

فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ، وسأله أن يبعث إليه بفيله " محمود " - وكان فيلا لم ير قط مثله عظما وجسما وقوة - فبعث به إليه ، فسار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير ، ونفيل بن حبيب الخثعمي ، فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس ، فأصابوا إبلا لعبد المطلب فجاء فقال: حاجتي أن ترد إبلي . فقال: ظننتك كلمتني في البيت . فقال: إن للبيت ربا سيمنعه . [ فردت عليه ] ، فأشعرها وجعلها هديا [ وبثها ] في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب رب الحرم .

فأقبلت الطير من البحر ، مع كل طائر [ ثلاثة أحجار: ] حجران في رجليه وحجر في منقاره ، فقذفتها عليهم ، وبعث الله عز وجل سيلا فذهب بهم فألقاهم في البحر ، [ ص: 129 ] وولى أبرهة هاربا بمن معه ، فجعل أبرهة ، يسقط عضوا عضوا

التالي السابق


الخدمات العلمية