الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الحوادث في زمانه :

أنه رفع إليه صاحب الخبر بنياسبور أنه [ قد ] ظهر رجل لا يغادر صورته شيء من صورة الملك ، وأن اسمه أنوشروان ، وأنه حائك ، وأنه ولد في ساعة كذا وكذا من يوم كذا وكذا من سنة كذا وكذا ، فنظر أنوشروان فوجد مولده لا يغادر شيئا من مولده ، فوجه رجلين من أهل الدين والأمانة إلى نيسابور ليكتبا إليه بخبر الرجل ، فلم يلبث أن جاءه كتاب الأمينين بصدق ما كتب صاحب الخبر ، وزادا: أنا سألنا عن مذهب هذا الإنسان ، فأخبرونا ثقات جيرانه ومعامليه أنه من الصحة في المعاملة وصدق اللهجة [ والستر ] والسداد بحيث لا يعرفون من يقاربه في أهل صناعته .

فتعجب أنوشروان فكتب إلى العامل أن يدفع إلى هذا الرجل عشرة آلاف درهم ، وأن يجري له [ ذلك ] في كل سنة ، وأن يخير إن أحب أن لا يحوك ، ويجري عليه زيادة من المال ما يكون وراء كفايته . فأحضره عامل نيسابور وأقبضه المال ، ورفع [ ص: 116 ] مجلسه وقال: إن الملك أنوشروان يخيرك أن تدع هذه الصناعة ويزيدك ما يرضيك ، فما الذي تراه ، فجرى الملك خيرا ، فقال: ما أحب أن يكون مكافأتي للملك على إغنائه إياي نقض شيء من سنته ، متكلا على مال الملك ، ولولا أن برك اسمي في مضاهاة اسم الملك قد ظهر علي لاستبدلت به ، تنزيها لجلالة اسم الملك أن يكون مثلي سميه . فكتب بخبره إلى أنوشروان ، فأمر الملك أن يجعل أنوشروان الحائك عريف الحاكة ورئيسهم ، فأفاد مالا جليلا ، ولم يدع صناعته . ومات في السنة التي مات فيها أنوشروان الملك .

ومن الحوادث: أن كسرى [ أنوشروان ] خرج يتصيد .

أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن الحسين الخالدي قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا أحمد بن كامل قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد القيسي قال: أخبرنا محمد بن أبي السري قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه قال: خرج كسرى في بعض أيامه للصيد ومعه أصحابه ، فعن له صيد فتبعه حتى انقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطرا [ شديدا ] حال بينه وبين أصحابه ، فمضى لا يدري أين يقصد ، فرفع له كوخ فقصده .

فإذا عجوز بباب الكوخ جالسة [ ص: 117 ] فقال لها: أنزل . قالت: انزل . فنزل فدخل الكوخ ، وأدخل فرسه ، فأقبل الليل ، فإذا ابنة العجوز قد جاءت معها بقرة قد رعتها بالنهار ، فأدخلتها الكوخ ، وكسرى ينظر إليها ، فقامت العجوز إلى البقرة [ ومعها ] إناء فاحتلبت [ البقرة لبنا ] صالحا وكسرى ينظر فقال في نفسه: ينبغي أن تجعل على كل بقرة إتاوة - يعني خراجا - فهذا حلاب كبير . وأقام مكانه حتى مضى أكثر الليل .

فقالت العجوز: يا فلانة ، قومي إلى فلانة - تريد البقرة - فاحتلبيها . فقامت إلى البقرة فوجدتها حائل لا لبن فيها ، فنادت: يا أماه ، قد والله أضمر لنا الملك شرا . فقالت: وما ذاك ؟ قالت: هذه فلانة حائل تبيس بقطرة . فقالت لها: امكثي فإن عليك ليلا . فقال كسرى في نفسه: من أين علمت ما أضمرت في نفسي ، أما إني لا أفعل ذلك . قال: فمكثت ، ثم نادتها: يا بنية ، قومي إلى فلانة فاحتلبيها . فقامت إليها فوجدتها حافل . فقالت: يا أماه ، قد والله ذهب ما كان في نفس الملك من الشر ، هذه فلانة حافل . فاحتلبتها .

وأقبل الصبح وتتبع الرجال أثر كسرى حتى أتوه بركب ، فأمر بحمل العجوز وابنتها إليه ، فأحسن إليهما ، وقال: كيف علمت أن الملك قد أضمر شرا ، وأن الشر الذي أضمره قد رجع فيه ؟ قالت [ العجوز ]: إنا بهذا المكان منذ كذا وكذا ، ما عمل فينا بعدل إلا أخصب بلدنا ، واتسع عيشنا ، وما أمر فينا بجور إلا ضاق عيشنا ، وانقطعت موادنا والنفع عنا .

[ ص: 118 ] ومن الحوادث: أن كسرى أمر جنوده أن لا يتعرضوا لزرع أحد ، فمر فارس منهم بمبطخة ، فأخذ بطيخة ، فتعلق به صاحب البطيخة وقال: بيني وبينك الملك . فبذل له ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له إلى عشرة آلاف درهم فلم يقبل . فحمله إلى الملك فقص عليه القصة ، فقال للفارس: ما حملك على ما فعلت . قال: دنو الأجل . قال: فكم بذلت فيها ؟ قال: عشرة آلاف درهم وما أملك غيرها . فقال كسرى للأكار: ويحك ، ما الذي زهدك في عشرة آلاف درهم ، ورغبك في دم هذا البائس ؟ قال: ما رغبت في دمه ، ولكني كنت فقيرا ولم أر إلا الخير في أيام الملك ، فأردت أن أزيد في شرف أفعاله حتى يقال إن في أيامه بلغت بطيخة عشرة آلاف درهم . فاستحسن ذلك منه ، وقال للفارس: أعطه ما بذلت . وأعطاه مثل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية